صورة حديثة لجامع ظاهر العمر في عكا
استعرض الجزءان الأول و الثاني من هذا المقال تاريخ ظاهر العمر الزيداني وإمارته في الجليل منذ بداية حكمه الفعلي للجليل بعد توسعه الأول في سنجقي صفد وطبريا وسيطرته على قلاعهما المهمة، ومن ثم صراعه مع سليمان باشا العظم والي دمشق الذي انتهى في صالح ظاهر، مروراً بتوسعه في عكا وحيفا وإتمام سيطرته على كامل المنطقة الواقعة ما بين البحرين، بحر طبريا وبحر عكا، انتهاء بتجدد صراعه مع الدولة وولاتها في دمشق ممثلين بحسين باشا المكي وعثمان باشا الجورجي بعد قضاءه فترة من الهدوء على تلك الجبهة، سيروي هذا الجزء قصة السنوات الخمس الأخيرة من حياة ظاهر العمر وحياة إمارته الفتية، وسيلقي الضوء على تعقيدات المشهد السياسي في الجزء الجنوبي من بلاد الشام في هذه الفترة حيث تأزم الصراع ودخلت فيه عدة أطراف دولية وإقليمية لها مصالحها في تأزيم الوضع الداخلي لدى الدولة العثمانية واستغلال ظرفها الحرج أثناء حربها الشرسة مع الإمبراطورية الروسية في الشمال.
من المهم أن يعود المقال عند هذه النقطة خطوة إلى الوراء، لشرح لحظة مهمة في تاريخ إمارة ظاهر العمر، كان لها أثر كبير على الأحداث التي سيتناولها هذا المقال، وهي بداية الاحتكاك الذي نشأ بين ظاهر العمر ومتاولة جبل عامل تحت زعامة أميرهم الشيخ ناصيف نصار، وهو الاحتكاك الذي بدأ بعداء نشأ لأسباب غير واضحة بما فيه الكفاية في ضوء المراجع المتوفرة وانتهى بتحالف كان له عظيم الأثر في تعزيز القوة العسكرية للإمارة الزيدانية وانقاذها من أزمات عميقة كانت لتودي بها لولاه، وهو تحالفٌ يرى كاتب المقال أنه كان حتمياً في ضوء الظروف التي كان يمر بها كلا الطرفين رغم ما ظهر من تنافسية شديدة بينهما.
تثير المصادر التاريخية، الزيدانية والعاملية، لغطاً كبيراً حول بداية الاحتكاك وطبيعته وحول تسلسل الأحداث وترتيبها الفعلي، فمؤرخ ظاهر (عبود الصباغ)، على سبيل المثال، يروي جزءاً لا بأس به من الأحداث التي حصلت بين المتاولة والزيادنة والتي يتفق عليها معظم المؤرخين، لكنه يضعها في الفترة ما بين 1736 - 1737م، أي قبل أول جولة قتال بين ظاهر وولاة دمشق، وبالطبع، فالصباغ نفسه يذكر أن المعاهدة التي عقدت بين ظاهر والمتاولة كانت دفاعية هجومية، أي أن اتفاق كلا الطرفين كان على نصرة الطرف الآخر في كل ما يمر به من أحداث حربية فيهجم حيث يهجم الآخر ويدافع عنه حيث يتعرض للهجوم وهي معلومة صحيحة بالفعل وأثبتتها أحداث لاحقة، ورغم ذلك، فلا يذكر عبود الصباغ نفسه أي تدخل لظاهر في حروب المتاولة مع الأمراء الشهابين من إمارة الشوف وجبل لبنان ولا يذكر أي تدخل للمتاولة في حروب ظاهر مع سليمان باشا العظم وما تلاها من معارك. والمرجح لدى الباحث خالد صافي أن الاحتكاك بين المتاولة وظاهر قد تم في منتصف ستينات القرن الثامن عشر، في 1766 على أقل تقدير، وبالرغم من ذلك، تظل لدينا معظلة إيجاد التسلسل المنطقي للأحداث بسبب الاختلافات الشديدة بين المؤرخين الزيدانيين والعامليين في سرد الأحداث وإخضاعها لتحيزاتهم الشخصية. نذكر على سبيل المثال، أن رواية تتحدث عن معركة خاضها ظاهر العمر للسيطرة على البصة في سبتمبر1766م، وتلاها بعد عشرة أيام معركة أخرى للسيطرة على طربيخة في أكتوبر 1766م، وكلاهما قريتان تتبعان لنفوذ المتاولة، وتنقسم الروايات بين بقاء سيطرة ظاهر على هاتين القريتين وبين عودتهما لنفوذ المتاولة، فيما تذكر رواية أخرى أن المسافة الزمنية بين المعركتين قد بلغت شهوراً عديدة، وقد استعاد المتاولة البصة من ظاهر بعد أن أسروا واحدة من أفراسه الأصيلة (واسمها البريصة) فبادلها ظاهر بقرية البصة، وبعد عدة شهور خاض مع المتاولة معركة في طربيخة ثبت بها ناصيف نصار ورجاله طيلة أسبوعين مع عدم القدرة كذلك على تحديد الجانب الذي انتهت في صالحه المعركة، كما أن ميخائيل الصباغ يروي أن الاحتكاك الأول بين ظاهر والمتاولة كان في معركة سريعة هجم فيها عسكر المتاولة على ظاهر بصحبه ابنه عثمان المتمرد عليه والمدعوم من عثمان باشا الجورجي، في يوليو 1766م، وانتهت وقتها لمصلحة ظاهر رغم الافتراض بأنه قد بُوغت بالهجوم، وهكذا تتذبذب الروايات بين جعل ظاهر معتدياً على المتاولة لرغبته في التوسع في أرضهم، وبين جعل المتاولة معتدين على ظاهر بأوامر من عثمان باشا الجورجي ودعماً لابنه عثمان المتمرد عليه، وتختلف ما بين احتفاظ ظاهر بالبصة وطربيخة بعد صلحه مع المتاولة أو عودتهما لنفوذهم وسيطرتهم.
كل هذا الارتباك يمكن تجاوزه عند التركيز على ما يهم الباحث حقاً، وهو أن الزيدانيين والعامليين دخلوا في صراع نفوذ على البصة وطربيخة، وأن هذا الصراع قد انتهى بتحالف عسكري عُقد برعاية بعض القوى الدرزية في إيالة صيدا، بعد تدخل إسماعيل الشهابي أمير وادي التيم، والذي اشترك مع الشيخ علي جنبلاط والشيخ عبد السلام العماد والشيخ كُليب النادي (وثلاثتهم من مشايخ الدروز) في الجمع بين ناصيف نصار وظاهر العمر على طاولة المباحثات، وذلك في الرابع عشر من أغسطس 1767م، ومن ثم قاموا بإتمام المعاهدة فيما بينهم في عكا في الخامس من ديسمبر 1767م، وقد نصت على أن يبقى جبل عامل خاضعاً لسيطرة المتاولة تحت حماية ظاهر العمر على أن يدفعوا له مال الميري ويتولى هو أمر دفعه للدولة، ويوفروا لظاهر قوتهم العسكرية في أي وقت يحتاجه على أن يكفيكم التعامل مع موظفي الدولة ومتسلميها وجباتها.
كانت المعاهدة بين الزيادنة والمتاولة حتمية، فكلاهما يشترك في عداء الدولة له وكلاهما حاربها من قبل، ظاهر بنفسه والمتاولة تحت حكم المعنيين تارة أو عندما حاربوا الشهابيين كوكلاء عن ولاة صيدا تارة أخرى. كان ظاهر يرى في جبل عامل مكاناً استراتيجياً يمكن أن يشكل خطراً على وجود إمارته ولا بد من إخضاعه لنفوذه، وإذا ما تم له ذلك فقد يشكل نقطة انطلاق للتوسع في ولاية صيدا إلى الشمال من الجليل، ومانعاً طبيعياً يقيه شر الأمراء الشهابيين الموالين للدولة، ولكن يظل العائق الأكبر هو المتاولة أنفسهم، والذين عُرف عنهم بأسهم في الحرب، قد يستطيع ظاهر الانتصار على المتاولة لكنه بالتأكيد لن يستطيع القضاء على وجودهم بالكامل في جبل عامل، إلا لو خاض ضدهم حرب استنزاف طويلة الأمد سترهق ظاهر وإمارته قبل أن يحقق مراده منها، ولذا فقد كان كسب المتاولة أهون عليه من القضاء عليهم، خاصة في ظل تواجد عثمان الجورجي والخطر الدائم الذي يمثله على رأس إيالة دمشق. في ذات الوقت، فإن استقلالية إمارة جبل عامل ستظل مهددة على الدوام طالما بقي وضعهم على حاله، فهم يتمسكون بمساحة جغرافية محاطة بأعداء تقليديين من كل جانب، فهم يمانيون شيعة في محيط قيسي سني/درزي، تعاديهم الدولة في كل فرصة سانحة وتطلق يد الشهابيين في مهاجمتهم كل حين وآخر(1)، ولولا صعوبة تغيير الوضع الإثنوديمغرافي في مناطق سيطرتهم من جهة، واستفادة الدولة من الخلاف العرقي/الطائفي الدائم بين العائلات الكبيرة من جهة أخرى، لتركت الدولة للشهابيين والقيسية بشكل عام العقال في حربهم ضد المتاولة بدون حسيب. ولكل هذه الأسباب مجتمعة، تجاوز كلا الطرفين عن خلافاتهما السابقة واختلافاتهما المذهبية والقبلية وقبلا بالتعاون وتوحيد مجهوداتهم العسكرية تحت راية واحدة.
كانت الدولة العثمانية تتهيأ لاشتعال الجبهة الروسية للمرة السابعة في نهاية ثمانينيات القرن الثامن عشر، ولذا فقد كانت معنية بتهدئة الأوضاع الداخلية والعمل على وأد أي جبهات حربية في الإيالات يمكن أن تستنزف مواردها وتتسبب في تأخير دفع الضرائب وأموال الميري وانقطاع التموينات، ولذا فقد أمرت الباب العالي عثمان باشا الجورجي والي دمشق بعدم التعرض لظاهر العمر بعد انتهاء النزاع القضائي على مدينة حيفا، واسترضت ظاهر نفسه لعدم التسبب بأي اضطرابات ومنحته لقب: (شيخ عكا وأمير الأمراء والحاكم في الناصرة وطبريا وصفد وكل الجليل) عام 1768م. وعلى الرغم من ذلك، فقد تواترت الأحداث وتتابعت بشكل جعل الصدام بين الطرفين حتمياً، واتخذ وقتها أبعاداً أخرى لم تشهدها الإمارة الزيدانية من قبل، فلم يعد الصراع محلياً بل تدخلت فيه قوى إقليمية ودولية.
خطى ظاهر خطوة مهمة في سبيل تقوية موقفه في صراعه مع عثمان باشا الجورجي ولعلها كانت لتكون أهم بكثير من تحالفه مع المتاولة لو كُتب للأمور أن تسير حسبما يرضى ويرغب وهو الأمر الذي سيتم توضيحه بعد قليل، فقد بدأ ظاهر اتصالاته مع شيخ البلد وقائمقام عموم البلاد المصرية، بولوط قابان علي باشا أو كما يُعرف في بعض المصادر العربية باسم (علي بك الكبير)، وأتم تحالفه معه واتفاقه على استقبال حملة عسكرية يرسلها علي بك من أجل مساعدة ظاهر في حربه مع عثمان باشا الجورجي. تتضارب الروايات هنا أيضاً في تحديد الكيفية والفترة الزمنية التي تمت بها الاتصالات بين ظاهر العمر وعلي بك والتحالف العسكري فيما بينهما، حيث يضع البعض العام 1766 مفتتحاً لبداية الاتصال بين الطرفين، وهو العام الذي هرب فيه علي بك من مصر فاراً من بعض منافسيه في مصر إلى مدينة غزة، حيث أرسل له ظاهر العمر من يكرم ضيافته ويخبره بترحيب ظاهر به وبتمنيه أن ينال صداقته، وتخلو هذه الرواية من المنطق، فما حاجة ظاهر لقائمقام هارب من عدد كبير من الأعداء داخل مكان نفوذه الأصلي وغير قادر على تقديم أي مساعدة لظاهر؟ كما أن غزة (وأيضاً صعيد مصر) كانت مكاناً مفضلاً لدى الكثير من مماليك الحقبة العثمانية الهاربين أو المنفيين بسبب الخلافات السياسية داخل الإقليم المصري، وكان أهل المدينة معتادين على استضافتهم. في حين أن البعض الآخر يرجح أن بداية الاتصال بين الطرفين كانت في وقت ما من العام 1770م(2)، حيث راسل علي بك ظاهر طالباً منه شراء بعض الدروع، واستغل ظاهر الفرصة للقيام بمبادرة للتقرب من علي بك فأرسل له الدروع التي طلبها (وكان عددها 75 درعاً) هدية بدعوى أنه ليس بتاجر للسلاح وأنه يطمح في صداقة علي بك، وشكا له في رسالته من بعض المتاعب التي يسببها له عثمان باشا الجورجي وطلب منه أن يسير له بعضاً من المغاربة المقيمين في مصر ليتخذهم مرتزقة لديه في جيشه، وقد قدَّر علي بك المبادرة التي قام بها ظاهر وأرسل له رسالة كال له فيها المديح وقال له أنه "اتخذه والداً له" وأنه علم ما جرى له من تعب من قبل عثمان باشا ولذا فسيرسل له تجريدة. وبالفعل، أرسل له جيشاً بقيادة إسماعيل بك وصل إلى غزة والرملة في نوفمبر 1770م. من المهم معرفة أن علي بك، والذي كان قادراً على تحريك جيوش تعدادها يزيد عن عشرات الآلاف من الجنود، لم يكن مهتماً حقاً بدروع ظاهر الخمسة والسبعين، ولم يكن الجليل مركزاً للصناعات العسكرية بالأصل، والأغلب أن الدروع التي أرسلها ظاهر لعلي بك كات دروعاً مستوردة. الأرجح أن علي بك أراد فعلاً المبادرة إلى الاتصال بظاهر وجس نبضه وفحص إمكانية تعاونه في مشروعه التوسعي ضد أملاك الدولة في الشام، فقد ذكرت بعض المصادر أنه كان - وبعد استتباب الحكم له في الإقليم المصري - يحلم بتوسعة رقعة دولته لتشمل ذات الحدود القديمة لدولة المماليك التي أنهاها العثمانيون في بدايات القرن السادس عشر وسيطروا على أقاليمها، ومن المرجح أن فكرة الاستعانة بحاكم محلي من بلاد الشام ليكون عوناً وسنداً له ودليلاً وعيناً لجيوشه وجنوده قد أغرته وشجعته على الاتصال بظاهر وعرض التحالف العسكري عليه، خاصة وأن مناطق نفوذ ظاهر كانت الأهم استراتيجياً في بلاد الشام كلها، باعتبارها مفتاح الطريق المؤدي إلى مصر في أي غزو محتمل، وقد لاقى ذلك بالطبع لدى ظاهر ترحيباً شديداً بسبب الظروف الميدانية التي كانت تحيط به. فخرج ظاهر في نوفمبر 1770م على رأس جنده لاستقبال مبعوث علي بك، إسماعيل بك، والذي تقدم إلى غزة والرملة على رأس جيش بلغ تعداده 10 آلاف جندي واستطاع السيطرة عليهما بسهولة وسط فرحة الأهالي الذين أسعدهم التخلص من متسلمي عثمان الجورجي وبسبب فرحتهم بإعلان إسماعيل بك إعفائهم من مال الميري أربعة سنوات إن أعلنوا ولائهم لعلي بك الكبير، وفي طريقه، سيطر ظاهر على سهل السارونة (ضمن سنجق اللجون) الخاضع لسلطة أحد شيوخ نابلس، مصطفى بك طوقان، والذي ترك السهل وارتد إلى نابلس. في ذات الوقت، كان ظاهر العمر قد أرسل ابنه عثمان الظاهر على رأس قوة عسكرية لملاقاة حملة إسماعيل بك، ولكن الطريق قُطع أمامه بجنود عرب الصقر (المتحالفين وقتها مع عثمان باشا الجورجي) واضطر للتأخر. من سوء حظ عثمان باشا أن هذه الأحداث وقعت في ذات الوقت الذي كان فيه خارج دمشق في دورته السنوية، كان الجورجي قد خرج للدورة في غير موعدها، لم يكن يجمع مال الميري بقدر ما كان ينهبه، مر بالمدن والقرى التي رفضت دفع مال الميري في غير موعده السنوي بسبب القحط والوضع الاقتصادي المتردي فنهبها ودمرها وقتل كل من اعترض طريقه، وصل للخليل فنهبها، حاصر الرملة ودخلها كذلك، وعندما وصل إلى غزة خرج إليه وفد من علمائها ووجهائها فألقى القبض عليهم ودفنهم أحياء، تزايد سخط الناس على الدولة وواليها السفاح هذا ولم يحسب الجورجي حساباً لقادم الأيام. تفاجأ عثمان باشا الجورجي بقدوم إسماعيل بك وهو بالقرب من يافا واضطر للمواجهة مع فرقة استطلاعية تابعة له، ألقى القبض على أفرادها وأعدمهم جميعاً، وأرسل لإسماعيل بك يستفهم منه عن سبب قدومه، فأجابه بأنه قد أتى بأمر من علي بك ودعاه للمواجهة، وربما كان عثمان الجورجي يفكر بمواجهة إسماعيل بك فعلاً لولا أن وصلته رسالة أخرى من ظاهر نفسه يعلمه بوقوف العساكر المصرية إلى جانبه ويدعوه كذلك للنزال، ارتد عثمان الجورجي إلى يافا، ودخلها رغم رفض أهلها استقباله، وتحصن فيها وأرسل إلى شيوخ نابلس طالباً منهم المدد، ولما يأس من إمداداتهم هرب وتخفف من مدافع جيشه بإلقائها في آبار المياه في قرية قاقون وارتد مسرعاً إلى دمشق ووصلها في منتصف ديسمبر 1770م. ودخل إسماعيل بك وظاهر العمر إلى يافا وأحكما السيطرة عليها. ووصلت إلى إسماعيل بك تعزيزات عسكرية في فبراير 1771م.
كان الوقت قد داهم عثمان الجورجي وحضر موعد سفره في قافلة الحج الشامي، أرسل الباب العالي إلى دمشق كلا من نعمان باشا والي أورفة (الذي تم تعيينه والياً على مصر لاستردادها من علي بك وساري عسكر لإيالة دمشق) وعبد الله باشا والي حلب ومحمد باشا الجورجي والي طرابلس ودرويش باشا الجورجي والي صيدا(3) إضافة إلى متسلم كلس(4) من أجل حمايتها وسد الفراغ الذي سيخلفه عثمان الجورجي أثناء رحلة الحج، وعندما تجهز للخروج أرسل لإسماعيل بك وظاهر العمر رسالة يرد فيها على دعواتهم للقتال بأنه خرج لزيارة بيت الله الحرام "فإن كان ترومون محاربة زوار بيت الله فقد استعنا بالله عليكم"، حاول ظاهر العمر استغلال هذه الفرصة وإقناع إسماعيل بك بمهاجمة قافلة الحج عند المزيريب، رفض إسماعيل بك جملة وتفصيلاً لما في ذلك من دعاية سلبية لسيده علي بك وخوفه من تأثير ذلك على مستوى شعبيته الذي اكتسبه لدى الناس، وبسبب خلاف وقع بينه وبين أبناء ظاهر (علي وعثمان). فخرج عثمان الجورجي وعاد دون أن تتعرض قافلته لأي أذى، وأثناء تواجده في الحج توقفت العمليات العسكرية في بلاد الشام تماماً، فقد التزم نواب عثمان الجورجي في دمشق سياسة الحذر، ومع دخول الشتاء وقع ظاهر فريسة مرض خطير أقعده قرابة الشهرين واضطر للعودة إلى عكا للاستشفاء فيما بقي إسماعيل بك معسكراً في مخيمه في مرج بن عامر. خرجت قافلة الجردة التابعة لإيالة دمشق تحت قيادة محمد باشا الجورجي وحاول علي الظاهر بأمر من أبيه مهاجمتها قرب المزيريب في مارس 1771م وباءت محاولته بالفشل بسبب تغيير القافلة لمسارها.
بعد شفاء ظاهر، كانت أول خطوة اتخذها هو إرسال رسالة للسلطان في اسطنبول في 17 إبريل 1771م يخبره بأنه تحالف مع علي بك الكبير دفاعاً عن نفسه وصيانة لنفسه بسبب تهديد عثمان باشا الجورجي له ولإمارته التي يحكمها تحت رعاية وحماية السلطان بنفسه، رغم كل شيء، وهذا ما يثبت أن ظاهر وبالرغم من كل عدائه لولاة الدولة ظل حريصاً على رضى السلطان وإبقاء الباب مفتوحاً أمامه لخط رجعة قد يضطر لسلوكه في أي لحظة إن ساءت الأمور. خرج ظاهر على رأس قواته وبمساعدة من ناصيف نصار والمتاولة متوجها ناحية نابلس بغرض محاصرة قلعة صانور ومر أثناء الطريق إلى نابلس بقرية قباطية فهاجمها ونهبها، ووصل إلى صانور في أواخر إبريل 1771م وفرض عليها الحصار ووضع أمام شيوخها من آل جرار شروطه لفك الحصار؛ وضع السلاح وطرد مصطفى بك طوقان من نابلس والدخول في طاعته، وأمر ظاهر قواته بمهاجمة القرى المجاورة لنابلس والسيطرة عليها للضغط على آل جرار وإجبارهم على التسليم، ولم يُوفق ظاهر في مسعاه واضطر لرفع الحصار عن القلعة في شهر مايو والعودة إلى عكا بسبب عودة عثمان باشا الجورجي من رحلة الحج ووصوله إلى دمشق في 24 مايو 1771م، فيما استمر ظاهر بمضايقة قوافل شيوخ نابلس التجارية والتعرض لها.
كان علي بك الكبير قد جرَّد حملة عسكرية ثانية بقيادة مملوكه وقائده العسكري المحنَّك محمد بك أبو الدهب، وصلت إلى فلسطين في 17 مايو 1771م، عاد ظاهر إلى عكا ورفض الخروج بنفسه لاستقبال أبو الدهب لعلمه باستحاله سيطرته على قواته والتي بلغ تعدادها أكثر من 40 ألف جندي (حدثت الكثير من الخلافات بين ظاهر وإسماعيل بك رغم أنه تلقى أمراً من علي بك بطاعة ظاهر العمر وتنفيذ أوامره)، أرسل ظاهر كلا من أبناءه علي وصليبي وعثمان إضافة إلى ابن عمه كريم الأيوب الزيداني الذي سبق وعينه ظاهر ملتزماً على يافا برفقة ناصيف نصار لاستقبال محمد بك أبو الدهب برفقة أربعة آلاف فارس بعضهم من المتاولة. أرسل محمد بك أبو الدهب رسالة لعثمان الجورجي يطلب منه فيها مغادرة دمشق وأنه قادم للاستيلاء عليها وحكمها بأمر من علي بك الكبير. خرج عثمان الجورجي من دمشق على رأس الجيوش الشامية معضَّداً بقوات إيالات حلب وطرابلس وصيدا وأورفة برفقة ولاتها وتقابل مع محمد بك أبو الدهب وحلفاءه المحليين قرب بلدة سعسع (31 كم شمال شرق صفد) في 3 يونيو 1771م في معركة ضخمة سقط فيها عدد كبير من جنود الطرفين، وتقهقر فيها عثمان الجورجي وجيشه حتى وصلوا إلى مشارف دمشق تحت الملاحقة الحثيثة للجيش المصري، واستمرت المعركة على بوابات دمشق خلال الفترة من 4 إلى 6 يونيو وانتهت بهروب عثمان الجورجي خارج دمشق تاركاً المدينة لرحمة أبو الدهب وجيشه وتوجه إلى حماة. صمد في قلعة دمشق حوالي ألف وخمسمائة من الإنكشارية (جنود الدولة) وأغلقوا أبوابها على أنفسهم ورفضوا تسليم القلعة حتى يأتي أمر بذلك من الباب العالي، دك محمد أبو الذهب القلعة بالمدافع لعدة أيام قبل أن يستجيب لمناشدات أعيان دمشق وعلمائها بسبب سقوط القذائف على الأحياء المجاورة للقلعة وتضرر أهل دمشق أنفسهم، فأوقف أبو الدهب القصف واكتفى بحصار القلعة وسيطرته على المدينة.
عمت أخبار سقوط دمشق جميع بلاد الشام وقد كان خبر سقوطها مدوياً، وقد عم الوجوم جميع دوائر الحكومة والباب العالي في اسطنبول، وما كان أحد يظن أن يصل الأمر بالمتمردين، سواء في مصر أو الشام، لحد السيطرة على دمشق وطرد واليها، وما كان السلطان ليقدر على اتخاذ أي خطوة عاجلة لمعالجة الأمر، فالشخص الوحيد القادر على تنفيذ أي تدخل عاجل هو عثمان الجورجي نفسه الهارب إلى حماة، وجيوش الدولة العثمانية مشغولة بحرب الروس وأساطيلها ممنوعة من مغادرة البحر الأسود بسبب تواجد الأسطول الروسي في البحر المتوسط، عمت الاحتفالات جميع مدن الإمارة الزيدانية ووصلت أخبار الانتصار لمصر وبدأت الاحتفالات في القاهرة مع أوامر صدرت لمحمد بك أبو الدهب بمواصلة التقدم والتوغل في بلاد الشام وتوزيع مناصب الولاية والإمارة على البكوات المرافقين له في حملته العسكرية، ووعد بإرسال المزيد من التعزيزات بحراً عبر ميناء يافا، ولكن محمد بك أبو الدهب اتخذ الخطوة الأكثر غرابة والأقل توقعاً وانسحب بجيشه مغادراً دمشق في 18 يونيو 1771م، أي بعد دخوله دمشق بإثني عشر يوما فقط.
كان قرار أبو الدهب مفاجئاً للجميع حتى لأعدائه، وتعددت الأسباب التي ذكرتها المصادر أو افترضها الباحثون، فقال البعض أن أبو الدهب خشي من غضب السلطان عليه بسبب اقتحامه لدمشق (لو كان ذلك الأمر لما اقتحمها أصلا) وذكر الجبرتي أن محمد بك جمع أمراء الحرب في جيشه واستشارهم في أوامر علي بك بمواصلة التقدم في الشام وأنهم رفضوا الأوامر لتوحشهم من الغربة وسأمهم من القتال! لكن رواية الجبرتي يشوبها الشك رغم ذكره لتفاصيل محضر الاجتماع بين أبو الدهب والبكوات المرافقين له، خاصة وأنه لم يملك معلومات دقيقة عن نشاطات حملة أبو الدهب العسكرية وأدعى أن قواته وصلت إلى حلب! بينما يذهب بعض المؤرخين إلى القول بأن اتصالاً تم بين أبو الدهب وبعض موظفي الدولة العثمانية (ومنهم عثمان الجورجي نفسه وأمين الصرة السلطانية والذي كان مرافقاً لقافلة الحج الشامي) تم على إثره إقناعه بالانسحاب من دمشق على أن ينال الرضى والعفو من السلطان ويُكرم مستقبلاً على خدماته، ويبدو ذلك أقرب للتصديق وللتسلسل المنطقي للأحداث.
يعود عثمان الجورجي بأقصى سرعة إلى دمشق بعد إتمام أبو الدهب لانسحابه وأرسل بعض قواته إلى غزة والرملة لاستعادتهما مرة أخرى، فيما بقيت يافا - حتى تلك اللحظة - في يد ظاهر وتحت حماية ملتزمها كريم الأيوب الزيداني، برر أبو الدهب انسحابه أمام سيده علي بك بخيانة قام بها ظاهر العمر وأولاده له في دمشق وانسحابهم من المعركة قبل اتمامها وخوفه على جيشه ونفسه من الزيادنة والمتاولة بعد خيانتهم، تبادل علي بك الرسائل مع ظاهر ونقل كل منهما صورة الوضع للآخر، وأرسل ظاهر لعلي بك ابنه عثمان رهينة كدليل على صدق كلامه وأنه لم يخن أبو الدهب وأن انسحابه كان مفاجئاً وبدون أي سبب مفهوم، أدرك علي بك أن مملوكه أبو الدهب تمرد عليه وإن لم يعرف بعد السبب الذي دفعه لذلك ونواياه وراء هذا التمرد. بأي حال، قرر ظاهر مواصلة حربه ضد عثمان باشا الجورجي وقرر أن يعيد فرض الحصار مرة أخرى على قلعة صانور في نابلس.
كانت صانور تشكل شوكة في حلق ظاهر وإمارته، كان بإمكانه ضمان حماية يافا وولاء أهل غزة والرملة ولكن نابلس طالما استعصت عليه، وولاء مشايخها للوالي العثماني لم يهتز يوماً، ولذا فقد وجد أن المفتاح لفرض انتشاره وتوسعه في جنوب غرب بلاد الشام مرتبط بنابلس وسيطرته على قلعتها، فضرب حولها حصاراً في أغسطس 1771م. استنجد الشيخ حمدان بن جرار بعثمان الجورجي والذي لم يتأخر عنه فخرج في 25 أغسطس على رأس قوة عسكرية ضخمة قاصداً نابلس في موعد دورته السنوية، رفع ظاهر حصاره عن نابلس وحشد عساكره وعساكر حليفه ناصيف نصار وتوجه من فوره لقطع الطريق على عثمان الجورجي وتلاقى الجمعان قرب بحيرة الحولة في 2 سبتمبر 1771م، وعلى غير المتوقع، مُنِي عثمان باشا الجورجي بهزيمة ساحقة أُبيد فيها معظم جيشه وكاد أن يُقتل فيها بسيوف الزيادنة، ولم ينجُ إلا بإلقاء نفسه في بحيرة الحولة وخوضها سباحة، وكاد يغرق فيها لولا أن أنقذه أحد الجنود الدلاتية(5) والذي رافقه إلى دمشق التي دخلها في 5 سبتمبر في حالة يرثى لها جعلت منه محط سخرية الجميع.
لم تمهل الدولة العثمانية عثمان الجورجي أكثر من ذلك، ورغم وفاءه التام وإخلاصه المطلق للدولة فإن الفشل تلو الآخر في مواجهته لظاهر أدى بالسلطان إلى إصدار أمر بعزل عثمان الجورجي عن دمشق وعزل ابنيه محمد ودرويش عن طرابلس وصيدا في أكتوبر 1771م، وعينت بدلا منه محمد باشا آل العظم واليا على دمشق وقامت بتعيين عثمان باشا المصري واليا على مصر ومنحته منصب ساري عسكر بلاد الشام. في ذات الوقت، أرسل ظاهر العمر حملة بقيادة ابنه علي الظاهر إلى المناطق الجنوبية من إمارته لإحكام السيطرة على غزة والرملة كما أنها قامت بالسيطرة على قلعة بيت جبرين في سنجق الخليل ومن ثم سيطر على المدينة نفسها في اكتوبر 1771م.
في المقال اللاحق، سيستمر تطور الأحداث بين ظاهر وولاة الدولة العثمانية، وستشهد إمارته توسعها الأخير، كما ستشهد تطوراً في مستوى المواجهة بينه وبين الدولة سيسببه تورط العثمانيين في حربهم مع روسيا والتغير الدراماتيكي للأحداث عند انتهاء هذه الحرب والذي سيتزامن مع وفاة السلطان مصطفى الثالث وتولي عبد الحميد الأول مقاليد السلطنة خلفاً له.
------------------------------------------
(1) حارب الأمراء الشهابيون أعدائهم المتاولة (بإذن من ولاة صيدا) عدة مرات خلال القرن الثامن عشر وانتصروا عليهم في غالبية معاركهم، مرة في 1701م، سيطروا بعدها على مقاطعات جبل عامل وتمت مكافأتهم بإعطائهم مقاطعات وسناجق من الجليل، منها طبرية التي عُيِّن صالح الزيداني (جد ظاهر) متسلماً عليها تحت رعاية الأمير منصور الشهابي، ثم أُخذت منهم بعد عدة سنوات وأُعيدت إلى المتاولة ضمن سياسة ولاة الدولة في صيدا لحفظ توازن القوى بين العائلات المتخاصمة، وأعاد الشهابيون الكرة مرة أخرى في 1751م ويذكر بعض المؤرخين أن هذا الانتصار الثاني كان السبب الرئيسي في تحصين ظاهر لأسوار عكا خوفاً من هجوم الشهابيين عليه، مع التنبيه على ما يبدو في هذا القول من مبالغة.
(2) عاد علي بك الكبير إلى مصر في 1768م واستطاع هزيمة جميع أعداءه ومنافسيه من المماليك بمعاونه مملوكيه إسماعيل بك ومحمد بك أبو الدهب، إضافة إلى قضائه على ثوار قبيلة الهوارة بقيادة شيخ العرب همام والذين كانوا يطمحون في الحصول على استقلال الصعيد عن القطر المصري والدولة العثمانية، بعد أن استتب له الأمر، تخلص من الولاة العثمانيين الذين كان يرسلهم له الباب العالي، فطرد الأول وسمم الثاني ورفض استقبال الثالث، كما صك عملة جديدة يظهر فيها اسمه بجانب اسم السلطان.
(3) كان عثمان باشا الجورجي قد نجح في حمل الباب العالي على تعيين ابنه محمد باشا والياً على طرابلس في بداية ستينات القرن الثامن عشر، كما أنه نجح في استصدار فرمان بتعيين ابنه الآخر درويش باشا والياً على صيدا في سبتمبر 1770م لمساعدته في حربه ضد ظاهر، فقد كان الوالي السابق (محمد باشا العظم) يعادي عثمان الجورجي (كحال جميع باشاوات آل العظم في تلك الفترة) بسبب وشايته بسيده السابق أسعد باشا العظم (راجع هوامش الجزء الثاني من المقال) فرفض محمد التعاون مع عثمان كما أنه ساعد في تأليب بعض أمراء جبل لبنان عليه وحثهم على التعاون مع ظاهر العمر.
(4) مدينة صغيرة تقع الآن على الحدود بين سوريا وتركيا.
(5) الدلاتية: جمع "دلي" بمعنى "مجنون" أو "جسور" وهو لفظ يستخدم لوصف طائفة من الجنود المعروفين بالجسارة والقوة والذين يتصدرون عادة طليعة الجيش العثماني، وهم فرسان شجعان لا يهابون الموت.
Can You Beat the Bookies That Are Just Part Of A Gamble
ردحذفSo, what's the best หารายได้เสริม way to beat the bookies that are just part of that gambling world? kadangpintar you can learn more worrione about gambling by reading our guide and