الاستعمار البريطاني في الجزيرة (2): بداية العلاقات البريطانية السعودية


(1)

أجمل الجزء الأول من هذا المقال عن الدور الاستعماري لبريطانيا في للإمارات والمشيخات داخل الجزيرة العربية الحديث عن بداية احتكاك المنطقة بالاستعمار الأوروبي الحديث، وبداية تزايد النفوذ التجاري البريطاني والهولندي والتنافس بين الدولتين ومن يمثل مصالح كل منهما في المنطقة وفي جنوب آسيا، وانتهى باستعراض لأهم الأحداث التي سبقت سيطرة السياسة البريطانية على إمارة الكويت وانتزاعها من السيادة العثمانية عبر الاعتراف باستقلالها تحت حكم الشيخ مبارك بن صباح آل الصباح وإعلانها محمية بريطانية، وسيكمل هذا الجزء من المقال الحديث عن إمارة عربية ثانية في الخليج، هي إمارة نجد الصاعدة تحت حكم الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، مؤسس سلطنة نجد (الدولة السعودية الثالثة والمملكة العربية السعودية لاحقًا) فيستعرض أهم الأحداث التي رافقت صعودها وبداية الاتصال بينها وبين الحكومة البريطانية كذلك.

(2)

للمرة الثانية على التوالي، ورغم اتساع رقعتها وانتشار دعوتها وحيازتها تأييد العديد من قبائل نجد والأحساء، انهزمت العائلة السعودية في محاولتها الثانية للاستقلال في نجد عن الحكم العثماني، وكما دمر إبراهيم باشا محمد علي عاصمتهم الأولى، الدرعية، في 1818، انهزم السعوديون خارج عاصمتهم الجديدة، الرياض، بعد خسارتهم لحربهم ضد أمير حائل وشيخ جبل شمر محمد ابن الرشيد في 1892، واضطر شيخهم عبد الرحمن بن فيصل آل سعود للتقهقر إلى الصحراء، في مكان ما بين الأحساء والرياض حيث مضارب بعض أنصار عائلته القدامى من قبائل العجمان وآل مرة، يرسل أبناءه إلى حكام وشيوخ القبائل يبحث بينهم عمن يقبل بإيوائه وحمايته، حيث رفض كل من أمير البحرين وأمير الكويت استقباله، ووجد ملتجأه في قطر.

أمضى عبد الرحمن بن فيصل آل سعود عدة أشهر في قطر قبل أن يتلقى اتصالاً من حاكم الكويت محمد بن عبد الله آل الصباح يدعوه فيه للإقامة لديه في الكويت، لقد رفض ابن الصباح بدايةً استقبال ابن سعود بسبب موقف كل منهما من الدولة العثمانية، حيث يناصرها ابن الصباح ويعاديها ابن سعود، ولكن ابن الصباح كان قد تلقى إيعازاً من والي الدولة العثمانية في البصرة باستقبال ابن سعود لديه، وتعهداً بالالتزام بدفع 60 ليرة ذهبية شهريا لتغطية مصاريف عائلته، يرى بعض المؤرخين أن الغرض من ذلك هو وضع نشاطه المستقبلي تحت المراقبة وحتى يظل ابن سعود فزاعة يمكن أن تستخدمها الدولة العثمانية في أي وقت يحاول فيه ابن الرشيد الخروج عن طاعتها والحصول على الحماية البريطانية. على أن الوقت الذي قضاه عبد العزيز، أكبر أبناء عبد الرحمن الأربعة، في الكويت قد أفاده بشكل كبير، بسبب توطد صداقته مع الشيخ مبارك بن عبد الله الصباح من جهة، وبسبب تعرفه على عالم جديد لم يكن يعرف عنه في صحراء نجد شيئاً، فقد تميزت الكويت ومنذ بداية تأسيسها بتنوع إثني وثقافي لا مثيل له في الصحراء، وكان ميناؤها نشطاً ويستقبل وفوداً تجارية وديبلوماسية من كل مكان في غرب وجنوب آسيا، إضافة إلى مندوبي الدول الاستعمارية الأوروبية، وكان احتكاك ابن سعود بهذا العالم سبباً في توسيع مداركه وزيادة حنكته بأمور السياسة، وربما كان ذلك الوقت الذي أدرك فيه أن حلم أبيه وأجداده بدءاً من إمام العائلة الأول محمد بن سعود الذي أسس الدولة السعودية الأولى في 1745، الحلم بسلطنة مستقلة في نجد يمتد نفوذها بحيث تتمكن من توحيد جميع مشيخات الجزيرة تحت سلطتها، لم يكن ليتحقق بدون ظهير قوي يقوم بإسنادها، وهذا الظهير لن يكون الدولة العثمانية بكل تأكيد، يُذكر أن السعوديين الأوائل، أمراء الدولة الأولى (1745 - 1818) رفضوا من قبل أي نوع من التعاون مع بريطانيا وظلوا مصدر رعب لسفنها التجارية خاصة بعد سيطرتهم على الأحساء وحصولهم على منفذ بحري على الطريق التجارية الرئيسية في الخليج، وقد احتفت بريطانيا بحملة إبراهيم محمد علي باشا على عاصمتهم الدرعية والتي دمرها في 1818م، على أن الظروف الآن اختلفت بالنسبة لعبد العزيز، فها هي دولة أجداده تتعرض لخطر الاندثار للمرة الثانية، بسبب رفض أمرائها أول مرة أي اسناد أجنبي، وبسبب عدم قدرتهم على الحصول هذا الاسناد في المرة الثانية، وأصبح يفكر جدياً بالحصول على الدعم البريطاني من أجل إعادة بناء هذه الدولة مرة أخرى، وهو الذي سيتحقق له كما سيتوضح بعد قليل.

(3)

بعد سيطرة مبارك آل الصباح على مقاليد الحكم في الكويت وبعد إظهاره للعداء مع الدولة العثمانية، اشتد العداء بينه وبين آل الرشيد في حائل وجبل شمر، ونجم عن ذلك قيام كل منهما بتوجيه عدة حملات عسكرية على مناطق نفوذ الآخر، وقد حاولت الدولة العثمانية استغلال آل رشيد في حائل ليقوموا بدلا عنها بالقضاء على مبارك حتى لا يستفز تدخلهم المباشر عداء الانجليز، الذين لم يتدخلوا في معارك مبارك ضد آل رشيد لذات الأمر، وقد استغل مبارك ضيفه عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وجعله قائداً على بعض الفصائل التي شنت هجماتها على مناطق نفوذ إمارة شمر مستفيداً مع العلاقات السابقة بين عائلته وبين قبيلتي العجمان وآل مرة، وفي عام 1900 وضع مبارك خطة مع عبد العزيز للهجوم على إمارة جبل شمر من جبهتين منفصلتين بإيعاز من البريطانيين، فجمع كلاهما تأييد بعض القبائل في نجد والكويت، وجرَّدا حملتين عسكريتين على الرياض بقيادة عبد الرحمن آل سعود وعلى الصريف بقيادة مبارك نفسه، استطاع عبد الرحمن اجتياح الرياض وسيطر على المدينة وبقي الحصن مستعصياً عليه فضرب عليه الحصار، فيما تلاقت قوات مبارك مع القوات الحائلية وانهزمت أمامها شر هزيمة، الأمر الذي شجع ابن رشيد على الهجوم على منطقة الجهراء الساحلية تنفيذاً لرغبة العثمانيين في الحصول على منفذ بحري يساعد في إحكام الحصار على ميناء الكويت بحراً، ولكن قوات ابن رشيد ورغم سحقها وتشتيتها لقوات مبارك إلا أنها فشلت في اتمام سيطرتها على الجهراء بسبب التدخل العسكري البحري البريطاني. وصلت أنباء هزيمة مبارك لعبد الرحمن، ففض حصاره حول حصن الرياض وغادرها عائداً إلى الكويت.

ظل عبد العزيز بن عبد الرحمن فيما بعد عاماً كاملاً يحاول إقناع مبارك باستئناف الحرب ضد ابن رشيد، وهو الأمر الذي رفضه مبارك جملةً وتفصيلاً بسبب تشتت قسم كبير من قواته وخوفه من خسارة تأييد البريطانيين له إذا ما تكررت هزيمته على يد ابن رشيد مرة أخرى، كما أنه ما كان ليغامر بخسارة تأييد وولاء القبائل النجدية التي ساندته في الهجوم الأول، لكنه في النهاية استجاب لرغبة عبد العزيز فسمح له بالخروج لوحده مع خاصته وبني عمومته فقط، وسلحه بثلاثين بندقية ومنحه مبلغ مائتي جنيه استرليني، وخرج عبد العزيز على رأس قوة مكونة من أربعين شخصاً من الكويت(1) ووصل إلى الرياض في يناير 1902 وقتل عجلان عامل ابن رشيد(2) وسيطر على المدينة، ولم تفلح محاولات ابن رشيد في استعادة الرياض فيما بعد بسبب تمسك عبد العزيز بمدينته ومناصرة أهلها لها بكل قوتهم. طلب عبد العزيز من والده عبد الرحمن الحضور إلى الرياض، وقد أعلن الأب البيعة لابنه متنازلاً له عن الإمارة ومكتفياً بموقعه كمستشار سياسي له.

عادت العائلة السعودية إلى الواجهة واستعادت نفوذها في نجد بعد استعادة الرياض، وبدأت تتشكل إرهاصات قيام دولتها الثالثة، وتحالف عبد العزيز مع مبارك على حرب ابن رشيد، إذ طمح ابن سعود في تعزيز موقعه وسلطته في نجد، وفيما ظل مبارك يمثل بريطانيا في صراع النفوذ بينها وبين الدولة العثمانية التي يمثلها ابن رشيد، وقد خاض من 1902 حتى 1921 ضد إمارة جبل شمر وزعيمها بن رشيد عشرة معارك كان ختامها معركة حائل والتي تم بها السقوط النهائي لإمارة جبل شمر وحكم ابن رشيد في الجزيرة العربية.

(4)
 
عزم عبد العزيز على كسب ود بريطانيا وإقناعها بالاعتراف باستقلاله منذ اللحظة التي استلم فيها مقاليد الأمور مرة أخرى في الرياض، وقد أرسل في مايو 1902 (بعد انتصاره في معركة الرياض بأقل من أربعة أشهر) رسالة إلى المقيم السياسي في الخليج يطلب منه إقناع حكومته بتقديم حمايتها له، وعاد وكرر طلبه مع وفد ضم بعض أعيان الأحساء أرسله للوكيل السياسي البريطاني في الشارقة في 1903 يطلب فيه الضوء الأخضر لمهاجمة الأحساء والقطيف التابعتين للدولة العثمانية، وأرسل عدة رسائل في 1904 وطلب من مبارك الصباح أن يتدخل كذلك لمحاولة إقناع بريطانيا بمساعدته وعاد ليحتج أمام بريطانيا ضد الدولة العثمانية بسبب تدخلها العسكري المباشر لصالح ابن رشيد وطلب من بريطانيا أن تتدخل لتعديل ميزان القوى على الأقل، وقد عزز طلبه هذا بعدة رسائل أرسلها للمقيم السياسي في الخليج والقنصل البريطاني في البصرة والسفير البريطاني في اسطنبول يخبرهم فيها بنتائج فوزه الساحق على بن رشيد في معركة روضة مهنا في 1906.

بقيت بريطانيا على تلكؤها رغم إلحاح عبد العزيز الشديد ورغم استعداده المطلق للانضواء تحت جناح بريطانيا وحماية جميع مصالحها في المنطقة، وذلك خوفاً من مواجهة مباشرة مع الدولة العثمانية وما قد ينتجه ذلك من أزمة ديبلوماسية قد تتطور إلى حالة تهدد المصالح التجارية لبريطانيا في الخليج، وقد رد وكلاء حكومة الهند البريطانية ومقيموها السياسيون في الخليج على عبد العزيز دائماً بأن بريطانيا لا تملك مصلحة في تجاوز نفوذها على الساحل والتعمق إلى داخل الصحراء، ولا مصلحة لها في معاداة الدولة العثمانية خاصة وأنها (أي بريطانيا) كانت قد انتزعت منها السيادة على الكويت منذ وقت قصير، إضافة إلى أن بريطانيا لم تكن تثق في عبد العزيز بعد وترى أنه غير قادر لوحده على فرض سيطرته على الصحراء خاصة وأن بن رشيد يحظى بالرعاية العثمانية. 

عينت حكومة الهند البريطانية في 1910 الكابتن وليم شكسبير(3) وكيلاً سياسياً جديداً في الكويت، وقد كان الرجل يتصف بميزات خاصة منها إجادته للعربية ومعرفته بشيوخ القبائل وطبيعته المغامرة، وقد التقى شكسبير بعد العزيز في الكويت في سنة تعيينه، وقام بشد الرحال إلى إمارته في العام الذي يليه واستقبله ابن سعود في الرياض، وجرت بينهم عدة جولات من المحادثات غير الرسمية أفضت إلى اكتساب شكسبير قناعة شبه تامة عن أهمية عبد العزيز بالنسبة لبريطانيا، وعن تأكده من قدرة عبد العزيز من حماية المصالح البريطانية ، وظهر ذلك في الرسائل التي كان يرسلها تباعاً للمقيم السياسي في الخليج وللحكومة البريطانية في الهند. ولكن بدون أن يستطيع تقديم أية وعود حقيقية لعبد العزيز، كما أن ردود فعل حكومته كانت مخيبة للآمال كالعادة، وأبدت إصراراً على عدم تجاوز الحدود التقليدية للنفوذ البريطاني على الساحل.

كان أمل عبد العزيز الوحيد يتمثل في سيطرته على الأحساء والقطيف وما يتبع للمنطقة من موانئ، فهو إن استطاع الوصول إلى منفذ على مياه الخليج سيجبر البريطانيين على التحالف معه بدون شك، فيما ظل الأمر معقداً بالنسبة له، فهو لا يريد مهاجمة الأحساء بدون موافقة ورعاية بريطانية، ويحتاج لمهاجمة الأحساء والسيطرة عليها حتى يحصل على هذه الرعاية، حاول عبد العزيز إقناع مبارك الصباح بضرورة الهجوم على الأحساء في منتصف العقد الأول من القرن العشرين، ولكن مبارك نصحه بالتريث والانتظار للحصول على فرصة مواتية، وخلال السنوات اللاحقة تضافرت الأجواء المناسبة بسيطرة الاتحاديين على الحكم في اسطنبول، وتورطهم في الحرب البلقانية العثمانية وخسارتهم لليبيا لدولة أوروبية ضعيفة نسبياً هي إيطاليا، مما هز صورة القوة العسكرية للعثمانيين في الجزيرة العربية، كما أنه ومع مرور الوقت أصبح عبد العزيز الحاكم الأوحد في وسط الجزيرة بنفوذ يمتد من وادي الدواسر في الجنوب حتى حدود حائل في الشمال ومن حدود الأحساء شرقاً حتى حدود الحجاز في الغرب، واستطاع أخيراً الحصول على موقف بريطاني مؤيد لهجومه على الأحساء بوساطة كويتية، مع وعد بوقوف بريطانيا على الحياد وعدم مهاجمته إذا وصل إلى البحر تحت شرط واحد، وهو ألا يقترب من مصالحها في الخليج. وبالفعل، فقد جهز عبد العزيز قواته وغزا بها الأحساء في مايو 1913 وهزم حاميتها العثمانية.

بعد انتصاره في الأحساء، سارعت الحكومة البريطانية بإرسال المقيم السياسي في الكويت وليم شكسبير إلى الرياض مرة أخرى، والتقى مع عبد العزيز في مدينة القطيف في ديسمبر 1913، أكد شكسبير أهمية صداقته بالنسبة للحكومة البريطانية، وطلب منه أن يوقف تقدمه باتجاه إمارات الساحل العماني، وأبدى لعبد العزيز تفهمه لضرورة منح بريطانيا حمايتها لعبد العزيز واعترافها بإمارته، ويمكن القول أن الكابتن شكسبير استطاع نقل قناعاته هذه لحكومة الهند البريطانية، ولكنها تلقت رداً سلبياً من لندن بخصوص تقرير شكسبير وطلبت من حكومة بومباي الإبقاء على الوضع الحالي وإبقاء النشاط السياسي لحكومة الهند البريطانية محصوراً في الساحل فقط.

في الواقع فإن بريطانيا قد كانت قد خطت بالفعل مع الدولة العثمانية حدود الإمارات الخليجية حسب معاهدة أنجلو-عثمانية تم الاتفاق عليها في 29 يوليو 1913 وقد اعترفت بريطانيا حسب هذه المعاهدة والخرائط الناتجة عنها بسلطة العثمانيين على نجد والأحساء، صحيح أن هذه المعاهدة لم تُطبق ولم يتم المصادقة عليها بسبب تحفظات بريطانية ظلت مستمرة حتى دخول كلا البلدين في الحرب العالمية، ولكنها عبرت عن تجاهل بريطاني سافر لعبد العزيز، رغم إبداءه الاستعداد في كل مناسبة للتعاون مع بريطانيا، ما أجبره على توقيع معاهدة مع طالب النقيب، وهو سياسي عراقي مخضرم مثل السلطات العثمانية، واعترف عبد العزيز في المعاهدة بالسيادة الاسمية للباب العالي على نجد والأحساء ووافق على استقبال حامية عثمانية ورفع علم الدولة على مقر حكومته في الرياض، وتم توقيع المعاهدة في 15 مايو 1914، لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى كان كفيلاً بتغيير كل شيء، فرغم أن المعاهدة بين عبد العزيز والسلطات العثمانية قد كانت تضم صراحة بنداً يلزم عبد العزيز بنصرة الدولة العثمانية عسكرياً في حربها مع أي دولة أجنبية، إلا أن عبد العزيز تلكّأ في نصرة إيالة البصرة بالرجال والسلاح عندما طُلب منه ذلك وتركها لتقع تحت سلطة البريطانيين في نوفمبر 1914 دون تدخل منه، وكررت السلطات العثمانية طلبها من عبد العزيز بعد احتلال البريطانيين للبصرة عبر وفد خرج من بغداد سالكاً طريقاً وعراً وطويلاً يمر بحلب والحجاز ثم إلى مدينة الرياض، وكان الوفد برئاسة السياسي العراقي العثماني محمود شكري الألوسي، والذي حاول بمعاونه وفده المرافق تشجيع عبد العزيز على الدخول في الحرب وتنفيذ التزامه حسب المعاهدة المبرمة بينه وبين سلطات الباب العالي، إلا أن عبد العزيز رفض محتجاً بضعف قوته العسكرية وألمح إلى ضرورة إنهاء العثمانيين لحكم بن رشيد قبل أن يقدم خدماته لهم. فضَّل عبد العزيز البقاء على الحياد خلال تلك الظروف ورفض أن يحارب لأجل العثمانيين أو الانجليز، في ذات الوقت الذي بدأ فيه الانجليز أخيراً، وبسبب ظروف الحرب بشكل خاص، بتقدير أهمية عبد العزيز والموقع الاستراتيجي لإمارته، وتزايدت الدعوات داخل أروقة الخارجية البريطانية ووزارة شؤون الهند لعقد اتفاق معه، خاصة وأنه أبدى سلوكاً سلبياً تجاه العثمانيين المتورطين في الحرب، فحاولوا حثه على مساعدة مبارك الصباح وخزعل بن جابر (حاكم المحمرة، الأحواز) على احتلال البصرة وطرد العثمانيين منها، وأرسل له مبارك رسالة يدعوه فيها للقدوم إلى الكويت للتشاور في الأمر مع بعض المسؤولين البريطانيين الذين حضروا خصيصاً إلى الإمارة لمناقشة الدور الذي يمكن أن تلعبه المشيخات الخليجية الموالية لبريطانيا في الحرب (في يناير 1915)، ولكنه رد عليهم بكل تهذيب برفضه ذلك وتفضيله تجنيب رعيته ويلات الحرب. وقد كان الإنجليز فقدوا الأمل في تشكيل قوة متحدة ومنظمة من مشيخات الخليج العربية يمكن أن تقاتل العثمانيين نيابة عنهم، وقاموا بإنزال عدة فيالق مكونة من عناصر إنجليزية وهندية على الأراضي العراقية قاتلت ضد العثمانيين والقبائل العربية في العراق ونجحت في السيطرة على البصرة بعد أقل من شهرين من القتال.

(5)

أرسلت بريطانيا في الثالث عشر من يناير 1915 مقيمها السياسي في الكويت وليم شكسبير إلى الرياض، وقد أجرى عدة جولات من المحادثات مع عبد العزيز محاولاً إقناعه بالثورة ضد الأتراك والمساهمة في النشاط العسكري في الحرب، وظل عبد العزيز، ورغم اعجابه الشديد بشكسبير ومحبته له، مصراً على موقفه الرافض لدخول الحرب بشكل مباشر، متذرعاً بابن رشيد وخطر إمارة جبل شمر على سلطته في نجد، أرسل شكسبير لحكومته في الهند رسالة يؤكد فيها على موقف عبد العزيز المحايد ويؤكد أنه لن يتحرك ضد العثمانيين إلا بعد تثبيت مركزه الفعلي كحاكم مستقل لنجد والأحساء تحت الحماية البريطانية، كان الوضع الميداني بين عبد العزيز وبن رشيد متوتراً وكان كلاهما يحشد قواته لمعركة مرتقبة، وقد اندلعت بالفعل في السابع عشر من يناير 1915 في جراب، وقد أصر شكسبير على المشاركة في المعركة كبادرة حسن نية رغم معارضة عبد العزيز لذلك بشدة، وأصيب خلال المعركة في مقتل وهُزم عبد العزيز في المعركة، تعثرت المفاوضات بعد وفاة شكسبير وعادت لتُستأنف مرة أخرى تحت رعاية المقيم السياسي في الخليج (بيرسي كوكس)(4)، تركزت المحادثات بين كوكس وعبد العزيز على نقطة جوهرية واحدة، وهي المساهمة العسكرية التي يمكن أن يقدمها لبريطانيا ضد العثمانيين خلال الحرب، استطاع عبد العزيز إقناع كوكس بأنه يقدم للإنجليز خدمة بالفعل في حربه ضد بن رشيد الموالي للعثمانيين والذي سينخرط في العمليات العسكرية العثمانية ضد البريطانيين قريباً، وأن ما يفعله ضد بن رشيد أكثر من كافٍ ليعبر عن دعمه للتاج للبريطاني، اقتنع كوكس بكلام عبد العزيز وأتم اتفاقه معه بناء على هذا الأساس ووقع معه معاهدة الحماية البريطانية المعروفة باسم معاهدة (دارين-العقير) في السادس والعشرين من ديسمبر 1915، وقد نصت المعاهدة على توفير بريطانيا للدعم المادي والعسكري لعبد العزيز بعد اعترافها باستقلال إمارته عن الدولة العثمانية  التي تشمل أراضي الأحساء والقطيف ونجد وتوفير الحماية لها، مع تعهد عبد العزيز بعدم التعرض لأي من المشيخات العربية الخاضعة للحماية البريطانية، وعدم التصرف في أي من أراضي إمارته بالبيع أو التأجير أو التنازل لأي قوة أجنبية، وعدم التعامل مع أي دولة أجنبية إلا تحت المظلة البريطانية، وتوفير الحماية في الطرق النجدية الأحسائية للقوات البريطانية وقتما احتاجت ذلك، ودعمت بريطانيا خزينة عبد العزيز بعشرين ألف جنيه استرليني دُفعت له على الفور بجانب معونات عسكرية من أسلحة وذخائر وراتب شهري قدره خمسة آلاف جنيه. وحصل بذلك عبد العزيز على مبتغاه الذي انتظره لأكثر من ثلاثة عشرة عاماً (5).

-------------------------------------------

(1) رغم المبالغة في القول بأن عبد العزيز استطاع فتح الرياض بأربعين مقاتل فقط، إلا أن أغلب المراجع والمصادر التي ذكرت الحادثة اتفقت على هذه التفصيلة بالذات، وقد كان عبد العزيز قد جمع كثيراً من الأنصار خلال خروجه من الكويت والذين ساعدوه على شن غزوات متفرقة على بعض قوافل ابن رشيد ومصالحه التجارية ولكنهم تفرقوا عنه بعد انتهاء الغزو وحصولهم على الأسلاب والغنائم، فلم يغامر أي منهم بمعاداة ابن رشيد والدولة العثمانية ووصل عبد العزيز للرياض ومعه ذات العدد الذي خرج به من الكويت، كما أن تفاصيل في بعض الروايات، والتي تجعل اقتحام حصن عجلان عامل ابن رشيد على الرياض واغتياله أشبه ما تكون بعمليات الكوماندوز، ومعاداة أهل الرياض لعجلان ورئيسه بسبب قسوتهم في التعامل مع العاصمة السعودية وأهلها ومناصرتهم لابن سعود، إضافة إلى حقيقة أن عبد العزيز قد قضى بعض الوقت في العام الماضي محاصراً لقلعة الرياض ومن المرجح أنه كسب لنفسه أثناء تواجده في تلك الفترة القصيرة حلفاء وأنصار من الرياضيين ساعدوه على اقتحام حصن الرياض من الداخل، كل هذه العوامل ساعدت عبد العزيز وسهلت له المهمة الصعبة.

(2) سيستخدم هذا المقال وصف "بن رشيد" كمسمى لرأس عائلة آل رشيد وأمير حائل اختصاراً، مع العلم أن الفترة التي يغطيها المقال (من معركة الرياض في 1902 حتى معاهدة العقير 1915) تعاقب على حكم الإمارة خمسة أمراء وفيما يلي بيان أسمائهم وسنوات حكمهم:

- عبد العزيز بن متعب 1897 - 1906
- متعب بن عبد العزيز بن متعب 1906
- سلطان بن الحمود 1906 - 1907
- سعود بن الحمود 1907 - 1908
- سعود بن عبد العزيز 1908 - 1920

(3) وليم آرفن شكسبير (1878 - 1915): ضابط بريطاني من مواليد إقليم البنجاب، عمل في حكومة الهند البريطانية وتم تكليفه بالإقامة في الكويت كمبعوث لحكومة نائب الملك، ويعتبر أحد أفضل رجال الحكومة الهندية في الخليج بدون منازع، فقد كان يجيد اللغة العربية بطلاقة ويتأقلم سريعاً مع الحياة في الصحراء وقادر على السفر خلالها دارياً وعالماً بمجاهلها وقد قام بعدة رحلات انطلاقاً من الكويت وصلت حتى حدود سيناء وفلسطين والحجاز ويمكن اعتبار أهميته بالنسبة لحكومة الهند البريطانية موازية لأهمية توماس لورانس (لورانس العرب) بالنسبة لمكتب الخارجية البريطانية في القاهرة. كوَّن صداقات كثيرة ساعدته في إتمام مهامه الديبلوماسية وكان مبارك الصباح وعبد العزيز آل سعود يعتبرونه من أعز أصدقائهم وخير من يمثل مصالحهم لدى الحكومة البريطانية. أصر على المشاركة في معركة جراب بجانب ابن سعود ضد قوات بن رشيد في 1915 وقتل خلال المعركة.

 (4) بيرسي ز. كوكس (1864 - 1937): سياسي بريطاني وعسكري مرموق عمل لصالح الحكومة البريطانية في عدد من مستعمراتها (في الهند والصومال) وأدى عديداً من الوظائف الديبلوماسية في الخليج الفارسي، كمقيم سياسي في عُمان وبوشهر وعملاً قنصلا لصالح بريطانيا في البصرة، وأصبح رئيساً للمقيمين السياسيين في الخليج، وعين مندوباً سامياً في العراق بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.

(5) بحسب شهادة حافظ وهبة، وزير عبد العزيز وممثله في بريطانيا بعد الحرب العالمية، فأن عبد العزيز قد أخبره بعد اتمام معاهدته مع بريطانيا وممثلها بيرسي كوكس: (لقد اعطاني كوكس الشمس في يميني والقمر في يساري).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق