خلال الأسابيع الماضية وكجزء من الحملة الانتخابية للقائمة المشتركة الممثلة للاحزاب العربية في انتخابات كنيست قوة الإحتلال، أدلى أيمن عودة رئيس القائمة بعدد من التصريحات التي بدا واضحا أنها لم تنل الكثير من الاهتمام بين أوساط جمهور القائمة من فلسطينيي عام ثمانية وأربعين ، وقد مرت الغالبية عليها مرور الكرام، في نفس الوقت الذي أفردوا فيه مساحة لتداول و/أو مناقشة قضايا أخرى أثيرت حول القائمة المشتركة وتصريحات أعضائها.
في الواقع، كان اهتمام جمهور القائمة من فلسطينيي عام ثمانية وأربعين بالخطابات الحماسية لبعض أعضائها مثل أحمد الطيبي أو حنين زعبي التي تمتلك عاطفة تمس القلوب وتمتاز بأنها موجهة نحوهم بشكل خاص، وقد كانت تلك الخطابات والتصريحات تحرص على وضع القائمة المشتركة ضمن مكان وهمي داخل دائرة النضال الوطني الفلسطيني بشكل يتناقض مع جملة من المواقف التي تتبناها القائمة عندما تتحدث بالعبرية عوضًا عن العربية، أي عندما توجه خطابها لمستوطني قوة الإحتلال، وهو شيء يثير الاستغراب ويثير التساؤل حول أولويات جمهور المشتركة من فلسطينيي عام ثمانية وأربعين وطريقة تعاطيهم مع تلك المواقف، خاصة وأن جمهور المشتركة – على سبيل المثال – أفرد مساحة للنقاش بشأن تصريحات عضو القائمة عن الحركة الإسلامية الجنوبية، طلب أبو عرار. تلك التي اعتبرت مهينة لمن وصفهم بالمتبرجات والنصارى، وكذلك تصريحه بأنه سيتزوج من الثالثة كرد على انتقادات طالته لكونه متزوجًا من اثنتين ومؤيدًا لتعداد الزوجات.
فهل يؤيد جمهور المشتركة من فلسطينيي عام ثمانية وأربعين أيمن عودة في تصريحاته التي يُفترض بها أن تكون مثيرة للجدل؟ هل يتفقون معه ولا يرون فيها مدعاة لخوض نقاش نقدي مبدأي مثلما فعل بعضهم مع تصريحات أبو عرار حيث طالبوا باستثناء الإسلامية الجنوبية من القائمة؟ أم أن جمهور المشتركة قد أهمل هذه التصريحات بشكل متعمد يشي بتواطئ جمعي يقضي بالتعامل فقط مع المنطوق بالعربية من التصريحات والمواقف الخاصة بأعضاء المشتركة ويصرف النظر عن المنطوق بالعبرية والموجه لنظرائهم في العملية الانتخابية من الصهاينة بشكل أساسي؟
بأي حال، يبقى واجبًا إثارة التساؤلات بشأن تصريحات عودة وإلقاء الضوء عليها، فهي – أي التصريحات المقصودة – تبرز التناقض بين الخطابين المتضادين الذين تبنتهما المشتركة خلال حملتها الانتخابية. وعلى الرغم من انتهاء الانتخابات فعليا، إلا أن المجال يبقى مفتوحا أمام تقديم مساهمات نقدية للمشتركة وخطاباتها المتناقضة، فلن تكون هذه آخر مرة تشارك فيها القائمة أو الأحزاب التي تمثلها في انتخابات كنيست قوة الاحتلال، ولن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي تتبنى فيها القائمة وأحزابها مواقف متناقضة تتم صياغتها بناء على الجمهور المتلقي لها. هذه المقالة ستكتفي بمناقشة وتحليل ثلاثة تصريحات ومواقف لأيمن عودة رئيس المشتركة وستبني استنتاجا بناء على هذا التحليل.
اولا: ” نحن نؤمن بوجود علاقة جدلية بين الاستيطان وبين سوء وضع الخدمات في البلدات العربية في إسرائيل”
شرح: من حق العرب ان يتمتعوا – كمواطنين في “دولة إسرائيل” حسب وصف عودة – بخدمات جيدة على مستوى الإسكان والبنى التحتية في بلداتهم التي يشكلون الغالبية ضمن سكانها، فهم معرضون للعنصرية إذا اختاروا السكن والإقامة في المدن ذات اليهودية أو المختلطة ولا يستطيعون الحصول على وحدات سكنية أو بيوت في ريشىون أو جلعاد، باعتبار هذه المناطق حكر على المستوطنين، وفي ذات الوقت، تستمر الحكومة في استثمارات توسعية في الضفة الغربية وتقوم ببناء وحدات سكنية في مستوطنات لا يسكنها إلا القليل من مواطني “الدولة”، وهذه الاموال التي يتم إنفاقها على الاستيطان في الضفة الغربية يمكن أن تستثمر بشكل أفضل داخل “الدولة” ولصالح “مواطنيها العرب”.
تعليق: لا أهمية بالنسبة لأيمن عودة لعملية الاستيطان بوصفها سيطرة غير شرعية على الارض تتم باستخدام القوة وتقوم خلالها سلطة احتلال استيطانية احلالية بنزع صاحب ومالك الأرض الاصلي وتلقي به خارجا وتبني مكان كروم زيتونه واشجار حمضياته وحدات سكنية تزرع فيها أشخاص آخرين غريبين يقومون بمهمتهم في إضفاء شرعية على عملية السرقة الحاصلة، يكرسون القهر بحقه، وهو أمر مرفوض منطقيا وحسب القانون الدولي، ولكن بالنسبة لعودة .. هذه كلها أمور ثانوية لا قيمة لها .. ما يهمه هو معادلة براغماتية تقارن بتجرد بين جدوى إنفاق المال العام للدولة من أجل توسيع رقعة أراضيها وبين إنفاق هذا المال من أجل منفعة شريحة من مواطنيها يفتقرون لبعض الخدمات التي يرى عودة ان فقدانهم لها مرتبط جدليا بالاستيطان بغض النظر عن شرعية هذه العملية .. بالنسبة لعودة .. فالاستيطان امر سيء لانه اساءة لاستثمار اموال الموازنة العامة .. أما المشكلة الأخلاقية التي تتمثل في معاناة المواطن الفلسطيني في الضفة الغربية فتغيب عند عودة تماما، كما يغيب أيضا عند عودة أن القوة الذي ينتقد أساليبها غير العادلة في توزيع مجهوداته واموال ميزانيته هو بالفعل يُخضع الضغة الغربية للاحتلال، وأنه في مقابل هذا الاحتلال فهو ملزم أبضا بتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين فيه مثلما هو ملتزم بذلك نحو المواطنين المحتلة أراضيهم عام ثمانية وأربعين.
ثانيا: “نسبة الحسم الجديدة تشكل عائق أمام الأحزاب العربية لدخول الكنيست وهو شيء سيضر بإسرائيل في المقام الأول، لأن إسرائيل لا تريد أن تظهر أمام العالم بدون عرب في الكنيست”
شرح: تدعي قوة الاحتلال أنها دولة ديمقراطية امام العالم، والاساس لاي دولة ديمقراطية، أن يختار الشعب ممثليه وحكامه بواسطة انتخابات حرة وعادلة ونزيهة وسرية، وعودة يرى أن نسبة الحسم الجديدة ستكون عائقا أمام الأحزاب العربية لتقوم بتمثيل جمهورها من المواطنين العرب (فلسطينيو عام ثمانية وأربعين) في “دولة إسرائيل” حيث ستصعب من مهمتهم في التواجد في الكنيست من أجل تمثيل جمهورهم وبذا لن يكونوا قادرين (أي هذا الجمهور العربي) على اختيار ممثليه، بالنسبة لعودة .. ينطوي ذلك على أهمية كبرى تتمثل في وجه “إسرائيل الديمقراطية” أمام العالم والذي سيهتز بسبب برلمانها الذي سيخلو من العرب لاول مرة منذ فترة طويلة.
تعليق: أيمن عودة يدر ك ما تشكله صورة “إسرائيل الديمقراطية” من أهمية لقوة الاحتلال، فالتأييد الشعبي والرسمي لها في أوروبا جزء منه يعتمد على بقاء هذه الصورة التي تجعل من قوة الاحتلال واحة من الديمقراطية في صحراء من الديكتاتوريات وأنظمة الحكم الشمولي في المنطقة ككل، وبدلا من أن يتحدث عودة عن أن عنصرية قوة الاحتلال الموجهة ضد فلسطينيي عام ثمانية وأربعين أو من تصفهم دوائر قوة الاحتلال الرسمية بوصف “الوسط العربي في إسرائيل” والذين يمثلهم عودة، وبدلا من أن يستغل نسبة الحسم الجديدة من أجل إثبات ذلك، فإنه يوضح ويبين للاحتلال الأخطار التي قد تنتج عنها، يوجه خطابه للاحتلال لكي يتنازلوا ويعطوا لعودة وقائمته مقعدا إضافيا في الكنيست حرصا على صورتهم الزائفة بدلا من أن يوجه خطابه نحو الغرب ليستغل مثالا فعليا يعاني هو منه في فضح هذه الصورة.
ثالثا: “أرجوك غيّر السؤال .. ليس لدي جواب”
شرح: ضمن مقابلة مع التلفزيون الإسرائيلي سُأل أيمن عودة عن رأيه الصريح في عودة ملايين اللاجئين الفلسطينيين من الشتات إلى أرضهم وبلادهم التي هُجّروا منها عام ثمانية وأربعين، وبعد أن صمت لهنيهة طلب من المذيع تغيير السؤال لأنه لا يملك جوابا ورفض التعليق.
تعليق: عودة يعلم أفضل من أي أحد آخر أنه لا يستطيع إنكار حق العودة، فملايين اللاجئين منذ ستة وستين عاما وأكثر لا يزالون لاجئين لحد الآن ولم يتغير وضعهم القائم لحد الآن ولا يظن أحد أنه سيتغير، فلن يقوم أحد من المسؤولين في حكومات دول الطوق التي تحتضن النسبة الأكبر من اللاجئين المهجرين عام ثمانية وأربعين باتخاذ أي خطوة من أجل توطينهم في بلدانهم .. ولا يزال وضعهم سيئا ومأساويا ولا يزال أبنائهم وأحفادهم لحد اليوم يحلمون بيوم العودة واليوم الذي يتخلصون فيه من الاحتلال وانتمائهم لا يزال واضحا وضوح الشمس بأنه لفلسطين التاريخية وليس لأي شيء سواها، علاوة على ذلك، فحق العودة بالنسبة للفلسطينيين وبخلاف قداسته وحرمانية الحديث فيه او مناقشته بشكل سلبي او إنكاره او التنازل عنه، فهو حق مشروع ومضمون للاجئين الفلسطينيين بواسطة قرارات الشرعية الدولية والأمم المتحدة والتي تتجاهلها قوة الاحتلال بكل فجاجة، وتقوم بتوظيف “الكنيست” الذي يعمل فيه عودة كمشرّع في اصدار قوانين تكرس لحرمانهم من هذا الحق، وهنا يقع عودة فريسة لجدلية لا يستطيع التعامل معها، فمن جهة .. لا يريد عودة استعداء الفلسطينيين (بمن فيهم فلسطينيو عام ثمانية وأربعين) بشكل فج ومباشر وصريح، فهو يروج مع قائمته لأن وجودهم في كنيست كيان المستعمرة جزء لا يتجزأ من النضال الوطني الفلسطيني، وهذا شيء يجعل أنصار المشتركة ضمن جمهور فلسطينيي عام ثمانية وأربعين يقومون وبكل أريحية بمهاجمة كل من ينتقد القائمة (سواء من داخل الاراضي المحتلة عام ثمانية وأربعين أو خارجها) باتهامات شنيعة تصل إلى حد التخوين.
وفي ذات الوقت ومن جهة أخرى، لا يقدر عودة على المجازفة بالاعتراف علنا بضرورة تطبيق حق العودة، فذلك يعني إنكاره لشرعية قوانين الكيان أو القوة الاحتلالية التي يعمل بنفسه مشرّعا ضمن كيانها البرلماني، ويعرض نفسه للاستبعاد والشطب وهو شيء قاست منه زميلته حنين زعبي قبله بعدة شهور بسبب اتهامات لها بتأييد “الإرهاب” (المقصود هو المقاومة الفلسطينية)، بالنسبة لزعبي فقد نجت من الشطب بعد قرار للمحكمة العليا لقوة الاحتلال قام بإلغاء قرار شطبها ومنعها وقد استعانت لأجل ذلك بالمكياج ومستحضرات التجميل أثناء ظهورها العلني أمام مناصريها، هل سيتمكن أيمن عودة من الاستفادة من المكياج كخيار لو اضطر لذلك أو جابه تهما بتأييد “الإرهاب” أو “معاداة الدولة”؟ لا أظن.
إذا .. فخيار عودة هو الصمت، وبالنسبة للاجئين الفلسطينيين فهو اشبه ما يكون بالجواب الخاطئ، فاللاجئون على سبيل المثال أنكروا وبكل قسوة على أبو مازن رئيس سلطة أوسلو تصريحا له تنازل فيه عن حقه الشرعي في العودة إلى صفد مدينته الأصلية وذلك بشكل شخصي فقط .. بشكل يعيد إلى أذهاننا أن حق العودة حق جماعي لا يملك أحد حق التصرف فيه حتى شخصيا، ولا حتى كما فعل عودة بإنكاره ضمنيا بدون صوت أو كلمات .. إنكاره برفضه للحديث عنه وإقراره بشكل علني.
عند وضع المواقف الثلاثة أعلاه في سياق واحد ومشترك يظهر لنا الاستنتاج الآتي:
لا تعمل القائمة المشتركة ضمن ابجديات النضال الوطني الفلسطيني، عندما نستخدم لفظ ” أبجديات” فإننا نقصد بذلك مبادئ راسخة لا يمكن العبث فيها أو تغييرها أو تعديلها لتتوائم مع معطيات معينة على الارض بشكل خاص، فلا خصوصية لا أحد فيما يتعلق بالمبادئ، فإما أن تحافظ عليها وإما ألا تفعل، وعند إخلالك بهذه المبادئ والأبجديات فأنت تختار لنفسك طريقا خارج حدود القضية، وخارج حدود النضال الوطني، فالأمر مرتبط بشكل أساسي بخياراتك، أي المواقف التي تتخذها وتنفذها على أرض الواقع بشكل فعلي، وليس للخطابات الحماسية أي أهمية في حسم اتخاذك لهذا الخيار، فبإمكانك أن تصرخ مئة مرة مطالبا بإنهاء الاحتلال، ولكن ذلك لا يتسق مع انخراطك داخل مؤسسات السيادية، وبإمكانك أن تصرخ مئة مرة مطالبا بوقف العدوان على غزة، ولكن ذلك لا يتسق مع وجودك كجزء من المؤسسة التي تجتمع من أجل استدعاء قوات الاحتياط القتالية للمشاركة في العدوان ذاته.
حسب التحليل الوارد ذكره للمواقف المعلنة للقائمة المشتركة، فهي تفعل ما بوسعها لأجل إقناع قوة الاحتلال ومستوطنيها بأهميتهم كأداة وظيفية تضمن إظهار قوة الاحتلال كدولة ديمقراطية أمام العالم، وتتعامل مع الاستيطان ببراغماتية تظهر خيارها بالانسلاخ عن فلسطينيتها وتهميشها لمعاناة بقية الفلسطينيين الواقعين تحت ذات الاحتلال الاستعماري، وتتعامل مع نفسها وجمهورها الذي تستهدف تمثيله في الانتخابات كجزء من هذا الكيان والاحتلال وتسعى للحصول على حقوقها فيه لكسب مكانة أفضل، كما أنها تكرس ذلك برفضها إعلان موقف صريح يؤيد حق العودة، وهو الشيء الذي سيتعارض كلية مع الصورة التي تحاول رسمها لنفسها أمام مستوطني قوة الاحتلال أن لا فرق بينكم وبين ناخبينا والشريحة التي نقوم بتمثيلها في الكنيست.
لاجل ذلك كله .. المشتركة مرفوضة، ومشاركة فلسطينيي عام ثمانية وأربعين في انتخابات كنيست كيان مستعمرة الاحتلال أيضا مرفوضة، لأنها لا تتم إلا بواسطة انخراط كلي في كيان المستعمرة وانغماس في أدواتها، وتقدم سم المستعمرة الاحتلالية الاستيطانية في عسل المواطنة المزيفة، وتجعل الوطن والمستعمرة كيانين متماهيين يلتقيان في كثير من النقاط، وان ما بينهما مجرد فجوة من الحقوق المهدورة من السهل ردمها والتخلص منها بواسطة نضال وطني يرتكز على “استعادتها والمطالبة بها” من كيان المستعمرة نفسه لتصبح المستعمرة والوطن شيئا واحدا على الرغم مما بينهما من تنافر وتضاد، ولا يزال الأمل موجودا في إدراك وجهة النظر هذه وإفساح المزيد من المجال لها داخل أوساط مؤيدي المشاركة في انتخابات الكنيست من الفلسطينيين سواء داخل الاراضي المحتلة عام ثمانية وأربعين أو خارجها.