أردوغان و "إسرائيل" ومخطط (ترقوميا - إيرز) أولاً

مساء اليوم، نشرت وسائل إعلامية عبرية عن بلورة اتفاق نهائي بين تركيا والكيان الصهيوني يقضي بإعادة تطبيع العلاقات بين الجهتين بعد قطيعة سياسية استمرت لحوالي ستة سنوات، بعد هجوم البحرية الصهيونية في الحادي والثلاثين من مايو 2010 على سفينة "مافي مرمرة" التركية التي كانت تبحر نحو قطاع غزة ضمن أسطول الحرية الذي هَدِفَ لكسر الحصار عنه، استشهد تسع متضامنين أتراك أثناء الهجوم الصهيوني، وأدى إلى قطع العلاقات الديبلوماسية بين الحكومتين التركية والصهيونية.

استعراض للأحداث:

ماذا حدث بعد الهجوم؟

بخلاف قطع العلاقات، تزايدت قوة العلاقة بين حركة حماس وحكومة العدالة والتنمية التي تحكم تركيا منذ سنوات طويلة، استخدمت تركيا هذه العلاقة كورقة ضغط على كيان الاحتلال، بالطبع، هناك حدود لا يستطيع الأتراك تخطيها، ولذا عندما صرَّح أحد قادة حركة حماس المقيمين في تركيا علناً بتمويل حركته لعملية خطف المستوطنين الثلاثة في الخليل في الثاني عشر من يونيو 2014، وقعت الحكومة التركية في حرج وخطر اتهامها باحتضان داعمين وممولين لـ "الإرهاب". أيضاً وضعت تركيا فيتو على مشاركة قوات الجيش الصهيوني في مناورات الناتو، وقام مراد علمدار (بولات آلمدار .. بالتركي) بعملية انتقامية واسعة قام خلالها بتجنيد جيش فلسطيني صغير بأسلحة مسروقة من مخازن "إسرائيلية" ودمر مطاراً عسكريا لقوات الاحتلال وهيكا يعني .. آه .. كاد ميماتي أن يفقد حياته خلال العملية بسبب رصاصة سببت له نزيفاً حاداً وكادت أن تسبب له تسمماً بالتيتانوس.

ماذا حدث أيضاً؟ أجل .. قام رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء السابق والرئيس الحالي لدولة تركيا والمصاب بحساسية تجاه الصحافيين والأغاني الساخرة منه خصوصاً المُغنَّاة بالألمانية، بالإكثار من ذكر اسم فلسطين وغزة خلال المهرجانات الانتخابية التي أقامها العدالة والتنمية قبل عدة أحداث انتخابية خلال السنوات الماضية، سواء الرئاسية أو البرلمانية أو البلدية، والتي انتصر فيها العدالة والتنمية جميعاً.

اليوم قامت الحكومة التركية بتجاوز الماضي وفتح صفحة جديدة للعلاقات بينها وبين الحكومة الصهيونية. خلال الفترة الماضية راهنت قيادات من حركة حماس على تركيا ومفاوضات إعادة تطبيع العلاقات التي تجريها مع "الاسرائيليين" وذلك لأن تركيا وعدت سرّاً وعلانيةً بأن أحد أهم شروطها لإنجاز هذا الاتفاق هو رفعٌ كاملٌ للحصار عن غزة وبناء ميناء بحري بالإضافة إلى أخبار تحدثت عن وصاية تركية على القطاع لم تُحدد معالمها بشكل واضح، وقد أعلنت كل من مصر وحكومة سلطة أوسلو رفضها القاطع لها، في الواقع، كان قادة حماس يشعرون بالحماسة الشديدة بخصوص المفاوضات لدرجة أنهم كانوا يتوكلون بالتصريح لوسائل الإعلام بخصوص تقدمها وتفاصيلها. وبأي حال، فكل هذه الوعود السرابية راحت أدراج الرياح - على ما يبدو - وقد تم الاتفاق بين الطرفين بحسب الاعلام العبري بدون أي ذكر لغزة والحصار المفروض عليها ولا الوصاية الأمنية للأتراك التي تم الحديث عنها.

لكن، ماذا تريد تركيا من غزة، وماذا تريد من "إسرائيل"؟ ولماذا تعتبر تركيا إعادة تطبيعها للعلاقات مع كيان الاحتلال أمراً ضرورياً؟

أجل .. تركيا ترى تطبيع العلاقات مع كيان الاحتلال أمراً حيوياً وضرورياً، لقد ساعدت تركيا بالدفع نحو إنجاح المفاوضات خطوةً للأمام برفعها للحظر المفروض على مشاركة الجيش الصهيوني بمناورات الناتو والحظر المفروض على انشاء مكتب دائم لكيان الاحتلال لدى الناتو أيضاً، لا ننسى الكيان الصهيوني قام بالاعتذار للحكومة التركية عن الهجوم على مافي مرمرة ووعد بدفع تعويضات لعائلات الشهداء الذي سقطوا خلال الهجوم على السفينة، وربما كان هذا الإعلان هو السبب الرئيسي لبداية مفاوضات استئناف العلاقات الثنائية بين الجهتين مرة أخرى.

لم تُقدم بعد إجابة على السؤال الذي طُرح قبل الفقرة السابقة، لماذا تعتبر إعادة العلاقات مع كيان الاحتلال أمراً ضرورياً للحكومة التركية؟

أظن أن أول ما سيقفز للذهن عند التفكير بإجابة هذا السؤال هو الحديث عن ضغوطات أمريكية وأوروبية على تركيا لإعادة علاقاتها مع كيان الاحتلال، لكن هذه التدوينة ستفضل أن تقوم بمشاركة القارئ بمعلومات عن تفاصيل لاتفاقات سابقة تمت صياغتها بشكل مبدأي بين الحكومتين التركية والصهيونية تُعطي مثل هذا الاتفاق بعداً اقتصادياً مهماً.

المنطقة الصناعية في ترقوميا (الخليل):

في شهر مارس من العام 2008 وأثناء اجتماع تفاوضي عُقد في القدس بين ثلاثة أطراف، كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية، إيهود باراك وزير الدفاع الصهيوني، سلام فياض رئيس وزراء سلطة أوسلو، طُرح مشروع إنشاء المدينة الصناعية في بلدة ترقوميا (جنوب الضفة الغربية - محافظة الخليل) .. تم تقديم هذه المنطقة الصناعية الجديدة باعتبارها مشروعاً سيساهم في بناء الثقة بين سلطة أوسلو وكيان الاحتلال وقامت اللجنة الرباعية بالترويج لها باعتبارها مشروع ذو تأثير سريع على خطة سلام فياض التنموية. هذا المشروع، ستقوم تركيا بتمويله كشريك أساسي، سيحوي حوالي 200 مصنع وسيوفر فرص عمل ل 10,000 عامل فلسطيني، وقد قالت مصادر تركية أن الهدف من بناء هذه المدينة الصناعية في الضفة الغربية (وبمنتهى الصراحة) هو محاولة استغلال "اليد العاملة الرخيصة" من أجل إنتاج مصنوعات تضاهي أسعار البضائع الصينية الرخيصة! ووعدت تركيا بتصدير بضائع مصانعها للخليج وأوروبا وأمريكا. من المثير للانتباه أيضاً أن الأمن الداخلي لهذه المنطقة الصناعية والتي سيتم اقتطاع الأراض التي سثُقام عليها من الضفة الغربية سيكون بين الحكومة التركية وحدها، بينما ستؤمن سلطة أوسلو وكيان الاحتلال المدينة الصناعية من الخارج.

المنظقة الصناعية في إيرز (شمال قطاع غزة):

في عام 2005 عُقد بين عدة رجال أعمال أتراك وفلسطينيين و "إسرائيليين" (بعد انسحاب الجيش الصهيوني من غزة ضمن خطة فك الارتباط أحادي الجانب) تحالف اقتصادي تحت مسمى "منتدى أنقرة" .. اجتمع هذا المنتدى في واشنطون بالولايات المتحدة وأعلن نيته القيام بإعادة إحياء المنطقة الصناعية في إيرز والتي تم إغلاقها بسبب عدم توفر العمالة الفلسطينية والتي توقفت عن التدفق عبر إيرز بسبب الانتفاضة، خصص المنتدى للمشروع حوالي 25 مليون دولار وسيقوم بتنفيذ مشاريع تستفيد من العمالة الفلسطينية الرخيصة أيضاً وستوظف حوالي 10,000 عامل وسيتم تصدير البضائع التي تنتجها لأمريكا وأوروبا كذلك، بالطبع، فإن أي مصنع أو شركة تنتج بضائعها داخل كيان الاحتلال فإنها تحصل على إعفاءات بخصوص رسوم الضرائب والجمارك عند تصديرها للولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي، تبرعت الـ US-AID كذلك بمبلغ مليوني دولار من أجل مد جسر آمن بين المنطقة الصناعية والأراضي المحتلة من أجل تسهيل وصول البضائع "التركية" المُصنَّعة في إيرز إلى موانئ التصدير، وقد تم إفشال الاتفاق بخصوص هذه المدينة الصناعية (والتي ستخضع أيضاً لحراسة أمنية تركية-فلسطينية-إسرائيلية مشتركة حسب الاتفاق) بسبب سيطرة حماس على قطاع غزة.

مزيد من التفاصيل: راجع ص ص 118-123، في هذا المرجع القيِّم (فلسطين وطن للبيع-خليل نخلة) سيجد القارئ معلومات وافرة عن مشاركة الحكومة التركية في مخططات "السلام الاقتصادي" التي اقترحها سلام فياض كأساس لاستمرارية ونجاح العملية السلمية وقت رئاسته للوزراء، كان فياض يرى أن اقتصاداً فلسطينياً ناجحاً ونامياً بمعدل متسارع سيعني تسهيلاً للوصول لسلام شامل وعادل مبني على أساس حل الدولتين، وقد كانت الحكومة التركية تنوي مساعد فياض، والحكومة الصهيونية، ورأسماليي بلادها أيضاً في ذات الوقت من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة من خلال مدن صناعية ينشؤها أتراك ويعمل بها فلسطينيون ويحرسها "اسرائيليون" وفلسطينيون جدد تقوم باستغلال العامل الفلسطيني من أجل خلق منافسة للمنتج التركي في وسط تسيطر عليه البضائع الصينية! يذكر نخلة أيضاً في كتابه أن هذه المصانع لن تمنح العمال الفلسطينيين أي حقوق حسب قانون العمل الفلسطيني، وسيكون دخولها والعمل بها مرتبطاً بالموافقة الأمنية الممنوحة من المخابرات الصهيونية وستقوم منتجاتها بتعزيز الاقتصادين التركي و "الاسرائيلي" ولن تساعد في تعزيز اقتصاد فلسطيني مستقل، والاهم من كل ذلك، أنها ستعزز من قيمة السلطة الفلسطينية كعميل أمني فرعي لدى الاحتلال، على حد قول نخلة نفسه.

كان ذلك في الفترة ما بين 2005 - 2008، طُرحت بداية مبادرة مدينة إيرز الصناعية، ومن ثم طُرحت مبادرة مدينة ترقوميا الصناعية بعد فشل امكانية تنفيذ المبادرة الأولى، وبقيت هذه المبادرات معلقة إلى أن ارتكب الجيش الصهيوني المجزرة البشعة بحق ركاب مافي مرمرة من المتضامنين مع قطاع غزة، اليوم، عادت أو ستعود المياه التركية-"الاسرائيلية" إلى مجاريها، وستعود هذه المشاريع إلى الطاولة مرة أخرى وربما كانت جزءاً أساسياً من الاتفاق، جزءاً أدى إلى حذف شروط تركيا المعلنة بخصوص الحصار على غزة وبناء مينائها البحري، واستبدالها بهدف رئيسي أكثر أهمية بالنسبة لحكومة العدالة والتنمية، هو الهدف الاقتصادي.

تطبيع

(1)
قال ابن منظور قبل أكثر من سبعة قرون في مفتتح شرحه لمادة طَ بَ عََ:

الطبْعُ والطَّبِيعةُ: الخَلِيقةُ والسَّجيّةُ التي جُبِلَ عليها الإِنسان

و "تطبيع" (على وزن "تفعيل") هي مصدر لـ "طبَّع"، و "طبَّع" فعل رباعي على وزن "فعَّل"، ويفيد هذا الوزن بوجود قوة خارجية يتم تطبيقها على الشيء المخالف للفعل ليكتسب معناه، أي أن "التطبيع"، هو إجبار لـ "شاذ" و "مرفوض" على الظهور بمظهر "الطبيعي" .. الموافق للسجية، للخلقة وللفطرة.

---
(2)
في وقتنا، نقول أن "تطبيع" تعني اصطلاحاً: أي سلوك ينطوي على اعتراف مباشر أو غير مباشر بشرعية الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، يشمل ذلك أي تعامل، من طرف غير الخاضعين للاحتلال، على أساس رسمي أو من تحت الطاولة، مباشر أو عبر عملاء ووسطاء يقومون بالتشبيك بين مرتكب فعل "التطبيع" وبين الاحتلال، يعطي الاحتلال الشرعية، وينزعها - بالتبعية - عن الذي يقاومه، يقاوم وجوده ويسعى بكل جهده، ومن خلال كل تفصيلة من تفاصيل حياته اليومية أن يقضي عليه وينهيه.

---
(3)
وقَّع الكيان الصهيوني ثلاث معاهدات سلام مع ثلاثة كيانات عربية، دولتان، هما مصر والأردن، ومنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد حسب القانون الدولي للشعب الفلسطيني، وتنطوي معاهدات السلام الثلاثة على شروط بالاعتراف المتبادل و "تطبيع العلاقات" بين كيان الاحتلال من جهة وبين الكيانات السياسية التي وقعت معه معاهدات السلام تلك من جهة أخرى. يشمل هذا التطبيع تبادل للاعتراف كما سلف ذكره، تبادل للسفراء، تعاون أمني وفتح للحدود أمام السياح وتفاصيل أخرى كثيرة، من أهمها بالتأكيد، التطبيع الثقافي.

---
(4)
يدرك كيان الاحتلال أنه يعيش في حرب مستمرة حتى لو مرت سنوات طويلة لم يطلق فيها جندي من جنوده المستعمرين رصاصة واحدة، إن إنهاء حالة الحرب هذه ستتم للكيان بطريقة من اثنتين، الأولى هي بالتأكيد إنهاء وجود أي مطالب بالحق الشرعي للمستعمَر في أرضه التاريخية الخاضعة لاستعمار كيان الاحتلال، هذا شيء لن يتم، سيظل - إلى الأبد، لو بقي كيان الاحتلال إلى الأبد - فلسطينيون مدركون تمام الإدراك - مهما قل عددهم - أن الأرض، الحق، الوطن، هي أرضهم وحقهم ووطنهم، ملك لهم ولن يتخلوا عنها، حتى لو استمروا في دفع ثمن مقاومتهم للغاصىب المستعمر، وثمن وجودهم حتى، إلى أن تحين نهاية هذا الأبد.

نزف، من أجل تحرير فلسطين، عشرات الآلاف من المقاتلين الثوار من فلسطين ومن خارجها، اعتدى كيان الاحتلال بشكل مباشر على خمسة دول عربية تقوم بتطويقه جغرافياً، حاربت هذه الدول العربية الخمسة ودول أخرى بطرق ووسائل مختلفة، سواء رسمياً أو شعبياً، وقدم أبناءها الشهداء عظيم التضحيات، ولذا، يتأصل العداء لهذا الكيان الشاذ، المرفوض، في وجدان ملايين العرب الذين يدركون بالوعي النقي المبني على الفطرة السليمة أن من الواجب عليهم العمل حتى آخر قطرة عرق، وآخر قطرة دم، على تحرير فلسطين وإنهاء وجود هذا الكيان الغاصب الشاذ المرفوض فيها، الذين يؤمنون أن ما أُخذ بالقوة، لن يسترد بغير القوة، الذين يدركون أن المآل الحتمي لكيان الاحتلال هو الزوال، هؤلاء الناس، مثلهم مثل الفلسطينيين، لا ينسوون أرضهم ولا ينسوون دمائهم. إن أفضل طريقة من أجل عتق رقبة كيان الاحتلال من حالة الحرب الدائمة هذه، من هذه المشاعر "السلبية" بالنسبة إليه التي يواجهها وقد تنفجر في وجهه في أية لحظة، هو رفع السقف الخاص بالتطبيع الثقافي حتى أعلى مستوً ممكن.

---
(5)
أما بالنسبة للتطبيع الثقافي

ذُكر قبل قليل (راجع النقطة السابقة) أن هناك طريقتين فقط لينهي كيان الاحتلال المقاومة ضد وجوده، ثانيهما، هي بالقضاء على فكرة المقاومة نفسها ونزعها من الوعي، تفتيت الثورة والمقاومة في وعي مقاوميه والثائرين ضده. واحدة من وسائل "كي الوعي" هذا هي نشاطات التطبيع الثقافي. لن تخوض هذه التدوينة كثيراً في الحديث عن مخططات ومؤامرات، لأن الواقع ينبأنا بأن نتائج أي مخططات ربما وضعت من قبل، قد بدأت تظهر بالفعل. في الواقع، لم تكن "إسرائيل" لتظهر للوجود لولا وجود تواطؤ عربي رسمي واضح ومنذ ما قبل حرب النكبة بكثير، ومنذ معاهدة كامب ديفيد والنشاطات المشتركة بين مثقفي كيان الاحتلال وبعض المثقفين العرب تتزايد والتواصل بينهم يتعمق، ربما في البداية كان هذا النوع من النشاطات أمراً مثيراً للخجل ويدعو للريبة بشكل يجعل مرتكبها يحاول إخفاء أمرها، أما الآن فقد اختلف الوضع .. بصراحة، لقد بدأ الوضع يختلف ويتحول تدريجياً ليصبح لعبة قذرة مكشوفة مع توقيع منظمة التحرير لاتفاقية أوسلو مع كيان الاحتلال عام 1993، وبعد مرور أكثر من 20 عامٍ على توقيعها أصبح التطبيع الثقافي ظاهرة لا تخفى على أحد، وكانت واحدةً من مهام سلطة أوسلو غير المعلنة والتي تمارسها بشكل فاضح الآن أكثر من أي وقتٍ مضى هي الوقوف كساترٍ للتطبيع وغطاءٍ حاجبٍ له، اليوم، لا يلزم المطبع أن يتواصل بشكل مباشر مع كيان الاحتلال، يكفي أن يتواصل فقط مع مندوبيه في المقاطعة وأجهزتهم المختلفة، الأمنية والثقافية والسياسية، والتي تتلقى أوامرها من مستوطنة بيت إيل بجوار رام الله.

---
(6)
أجل، ليست سوى وجه ساتر لقبح الاحتلال، وربما يكون وجهاً أكثر قبحاً وقذارة!

إن تعداد الأسباب التي تجعل من "سلطة أوسلو" وجهاً آخر للاحتلال أمرٌ مرهق لكاتب هذه التدوينة وللقارئ على السواء، ومحاولة فحص الخلل في الغربال لمعرفة لماذا لا يمر منه نور الشمس أمرٌ عبثي، الخلل في عين من ينظر للغربال نفسه. لكن نصرةً للعبث وكمحاولة متواضعة يمكن أن نذكِّر بأن هذه السلطة تعمل كحارس للبوابة الخلفية للاحتلال، تقوم بحمايته من الشعب الفلسطيني الذي تدعي الانتماء إليه وتمثيله، تساعد بكل وسيلةٍ ممكنة على تفكيك أي منظومة مقاومة يحاول بناءها، اعتقلت في سجونها خلال السنين الثلاثة الماضية فقط آلاف من الشباب على خلفيات أمنية! أي على خلفية نشاطهم ضد الاحتلال، يفاخر قادتها، رئيسها ورئيس مخابراته مثلاً، بتنسيقهم "الأمني" مع كيان الاحتلال، إنهم لا يمارسون هذا التنسيق بفمٍ مغلق ومخروس بل يجاهرون به كمدعاةٍ للفخر، قامت هذه السلطة بتفكيك جميع منظومات المقاومة في الضفة الغربية ونزعت سلاح الكتائب العسكرية، خلال حرب 2008/2009 على غزة استدعت قوات الاحتلال فرقاً من لواء كافير العامل في الضفة الغربية لحماية المستوطنات وزجت به في القطاع وأوكلت مهمة الدفاع عن المستوطنات للأمن الوقائي والمخابرات وقام هؤلاء بصد المظاهرات التي حاولت التوجه من المدن الرئيسية في الضفة إلى المستوطنات القريبة منها وقطعوا الطريق عليها، هؤلاء الضباط والعناصر في الجهازين الأمنيين الأكثر حساسية لدى السلطة تلقوا تدريباتهم على يد فريق دولي بإدارة أمريكية في معاهد أدرنية، تمت تسميتهم بـ "الفلسطينيين الجدد" وتم عرضهم أمام كاميرات القناة العبرية العاشرة وهم يصرخون بحناجر قوية باستعدادهم لاعتقال أقاربهم لو كانوا على علاقة مع قوى المقاومة، هذه السلطة، هي المسؤولة الأولى عن تنظيم أو رعاية العديد من النشاطات ذات الطابع الثقافي والتي تستخدمها لدعوة شخصيات عربية من فنانين ومثقفين تستغلهم لتبييض وجه الاحتلال من جهة وتبييض وجهها كمندوبة عنه من جهة أخرى. وبناءً عليه، وبغض النظر عن اللغة والشعار المستخدمان على الأختام التي ستُوسم بها صفحات جواز سفرك، وبغض النظر عن هوية الموظف الذي سيقوم بوسم هذه الأختام، فإن مجرد العبور عبر الحاجز الاحتلالي الذي يفصل ضفة نهر الأردن الشرقية عن ضفته الغربية يعني ضمناً تسليمك وقبولك بشرعية الختم وواضعه والمؤسسة التي يمثلها، إنها المؤسسة الاستعمارية الصهيونية، سواء ناطقتك بالعربية أو بالعبرية.

---
(7)
قبل عدة أيام كانت الأكاديمية المصرية "أهداف سويف" في رام الله للمشاركة باحتفالية فلسطين للأدب،، ولم تكن هذه زيارتها الأولى للضفة الغربية تحت حكم السلطة، والتي قالت أنها تمت بمباركة من الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي وزوجته الأديبة المصرية رضوى عاشور ، الاحتفالية تُقام تحت رعاية عدة مؤسسات دولية منها البريتيش كاونسيل وشارك بها شخصيات عربية أخرى عدا سويف، قبل أسبوعين زار الروائي الجزائري "واسيني الأعرج" الضفة الغربية للمرة الثالثة خلال السنوات الماضية، وخلال المرتين الماضيتين زار القدس كذلك التي يُمنع الفلسطينيون من زيارتها إلا بتصريح من مخابرات الاحتلال، كذلك رافق الروائي الفلسطيني "إبراهيم نصر الله" الشاعر البحريني "قاسم حداد" لزيارة للضفة الغربية، كان من ضمن برنامجها زيارة عدد من مسؤولي سلطة أوسلو، كمحافظ نابلس مثلاً، كذلك كتبت الروائية الكويتية "بثينة العيسى" مقالاً تنتقد فيه وصف العرب لزيارة الضفة الغربية تحت حكم مندوبي الاحتلال بالتطبيع .. كانت تتساءل: التطبيع مع من؟ الفنان التونسي الشهير "لطفي بوشناق" صعد على منبر منتدى فلسطين للإعلام والتواصل الثاني والذي أُقيم في اسطنبول ليدعو في كلمة مختصرة إلى "أن نشيل من عقليتنا كلمة التطبيع" ودعى لزيارة القدس والاستثمار فيها، الاستثمار العربي في القدس الخاضعة كما تنص اتفاقية أوسلو للسلطة المباشرة لكيان الاحتلال وأن أي استثمار خارجي فيها هو دعم مباشر لاقتصاده، قال بوشناق: أنا أزور السجين لا السجان.

كل هذه "حوادث" جسيمة ..هل هي حوادث؟ هي "جرائم" .. جرائم ارتكبها مثقفون وفنانون عرب هم من أشد المجاهرين بالدعم للقضية الفلسطينية ولنضال الشعب الفلسطيني ومقاومته، وهذه مجرد أمثلة لا أكثر، وقد ذُكرت هنا لأنها جميعها زيارت وتصريحات حدثت وأُلقيت خلال فترة الأشهر القليلة الماضية فقط ولن يضطر القارئ لإجهاد نفسه كثيراً في تذكرها، لقد دعى هؤلاء الناس تارة وقاموا بأنفسهم تارة بالحضور إلى "السجن" وزيارة "السجين" حسبما يصفون جميعاً (وكأنهم يقرأون من ذات الورقة!) .. لقد قالت بثينة العيسى: التطبيع مع من؟ ويطرح ذلك تساؤلاً مقابلاً: إن لم يكن تطبيعاً، بل دعماً ونصرةً ومؤازرة، فالدعم لمن؟ والنصرة والمؤازرة لمن؟ لسلطة أوسلو؟

لا أظن أن قارئ التدوينة قد اتفق بالضرورة مع كاتبها على حقيقة "خيانية" الدور الذي تقوم به سلطة أوسلو كوجه لكيان الاحتلال وحامٍ له، ربما يجد القارئ في نفسه من ذلك شك، لكن لو اقتنع بهذه الحقيقة كما اقتنع بها كاتب التدوينة، فسيكون من حقه أن يوجه معه تساؤلاً للعيسى وبوشناق وحداد ومضيفه نصر الله والأعرج وغيرهم كثير: كيف تتجاسرون على هذا الخلط الفج والوقح ما بين السجين .. والخائن الذي يحفظ للسجان بوابة سجنه الخارجية؟

---
(8)
ملايين الفلسطينيين يعيشون خارج فلسطين ولا يستطيعون العودة إليها.

ملايين الفلسطينيين محرومون من حق عودتهم لأرضهم وديارتهم والتي أُخرجوا منها ظلماً وعدواناً قبل عشرات السنين، وقد قامت منظمة التحرير، ممثلتهم الشرعية والوحيدة حسب القانون الدولي، عام 1993 بالتوقيع على اتفاقية سلام مع كيان الاحتلال الاستعماري الاستيطاني الغاصب الذي قام بطردهم من أرضهم أولاً، اتفاقية تنازل فيها هذا الممثل "الشرعي والوحيد" حسب القانون الدولي عن حقهم الأزلي بالعودة. يُفتح ذلك الحاجز الاحتلالي الواصل بين شرق الأردن وغربه والمُسمى على اسم الجنرال البريطاني إدموند ألينبي الذي احتل فلسطين سنة 1917م، يُفتح هذا الحاجز لإدخال مثقفين عرب يشاركون بنشاطات ثقافية تهدف بالأصل لتبييض وجه الاحتلال ومندوبيه، تؤكد هذه الزيارات على شرعية السلطة المسخ التي أسس كيان الاحتلال لوجودها في الضفة الغربية وجعل منها ما هي عليه لتكون وسيلة من وسائله في حرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه البديهية والمشروعة ووسيلة من وسائله لتأكيد شرعيته الزائفة، تطعن هذه الزيارات مقاومة الفلسطينيين للاحتلال في خواصرهم، تؤذيهم، تنال من كل محاولة يقومون بها لنزع الشرعية عن مندوبي الاحتلال وخلخلة النظام الاستعماري القائم على عواتقهم.

تقوم هذه الزيارات بإجبار لـ "شاذ" و "مرفوض" على الظهور بمظهر "الطبيعي" .. تقوم بمحاولة جعله يبدو موافقاً للسجية، للخلقة وللفطرة. ولذا .. فهي مرفوضة جملةً وتفصيلاً .. تحت أي ظرف من الظروف.