ملك ما بين البحرين .. ظاهر العمر الزيداني - الجزء الأول


بحيرة طبريا

غدت السيادة على بلاد الشام في يد العثمانيين مع مستهل القرن السادس عشر الميلادي، وتحديدا في عهد السلطان سليم الأول (1516م) الذي قاد حركة توسعية كبيرة لدولته الفتية وصلت حتى مصر وقضت تماما على حكم المماليك وأنهت رسميًا آخر أثر للخلافة العباسية. بقيت الشام تحت الحكم العثماني فترة طويلة من الزمن، وأبقى العثمانيون، بعد انتهاء السيادة المملوكية عليها، على ذات التقسيم الإداري الذي اعتمده المماليك لأراضيها، فجعلوا إيالة(1) في دمشق (وكانت الأكبر والأكثر أهمية) وأخرى في حلب شمالا وأخرى في طرابلس على الساحل السوري الشمالي، وبقي هذا التقسيم على حاله حتى جاء العام 1613م وصدر فرمان من الباب العالي بتشكيل إيالة رابعة في الشام هي إيالة صيدا.

بعد فترة من النزاع بين الوالي العثماني في دمشق وبين الأمير فخر الدين الثاني (1572م - 1635م) رأس الأسرة المعنية وحاكم جبل الدروز وإمارة الشوف في جنوب لبنان والذي قاد أسرته لتوحيد معظم إمارات الساحل السوري في تمرد على سيادة الدولة العثمانية انتهى بهزيمته وهروبه خارج إمارته لمدة خمسة سنوات واضمحلال نفوذ عائلته تدريجيا، بعد هذه الأحداث، فضل الباب العالي فصل جزء من إيالة دمشق وتكوين إيالة جديدة تكون عاصمتها مدينة صيدا الساحلية، بحيث يقوم واليها بمراقبة العائلات التي تشرف على حكم السناجق والنواحي المختلفة داخلها ويضمن استمرارية ولائهم للباب العالي والتزامهم له بضرائب تجاراتهم وخراج أراضي فلاحيهم. فشل فخر الدين الثاني المعني في مسعاه الذي كرس له نضاله الطويل في الاستقلال عن السلطة المركزية في اسطنبول رغم نجاحه لفترة من الزمن في ذلك، إلا أنه فتح المجال أمام محاولات أخرى لتحقيق ذات الهدف، منها ما قام به أمير عائلة بني زيدان ورائدها وأميرها الأول والأوحد والذي نال من الباب العالي لقب: شيخ عكا وأمير الأمراء والحاكم في الناصر وطبريا وصفد وكل الجليل .. ظاهر العمر الزيداني

ستقوم هذه السلسلة من المقالات بعرض مختصر لسيرة ظاهر العمر وحراكه التوسعي في بلاد الجليل في الشمال الفلسطيني وشبكة علاقاته السياسية والاستراتيجية الإقليمية والدولية والعلاقات داخل الأسرة الزيدانية ذاتها أثناء حكم ظاهر إضافة إلى مناقشة مختلف جوانب مشروعه التوسعي والذي كان واحداً من مشاريع الكيانات السياسية الاستقلالية في الدولة العثمانية، والتي باءت في غالبها بالفشل وبعدم القدرة على الصمود في وجه سلطة الباب العالي المركزية، تماماً كما فشل فخر الدين الثاني المعني في الشام، وكما فشل شيخ العرب همام في مصر في نفس الفترة الزمنية التي بزغ فيها نجم ظاهر العمر.

هناك نقطة قد تكون إشكاليةً يرى كاتب المقال ضرورة الإشارة إليها قبل الخوض في التفاصيل، وهي تشكل رأياً شخصياً له. صدر في العام 2012 رواية للكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله تحكي قصة ظاهر العمر الزيداني في قالب روائي رائع، هي الرواية الأخيرة من سلسلة "الملهاة الفلسطينية" للكاتب تحت عنوان: قناديل ملك الجليل، وتشكل هذه الرواية، بجانب ثلاثة مقالات منشورة في مواقع ويكيبيديا، مركز المعلومات الوطني الفلسطيني (وكالة وفا) والموسوعة الفلسطينية، مصادر المعلومات الأكثر توفراً وانتشاراً عن ظاهر العمر الزيداني، وينفرد الكاتب نصر الله في مقدمة روايته بإسهاب الحديث عن "مشروع" ظاهر العمر بوصفه تحررياً كان يهدف للاستقلال والتحرر من الاحتلال العثماني وتشكيل أول دولة عربية مستقلة في فلسطين. لا مجال للخوض في دقة وصف فترة تواجد فلسطين تحت الحكم العثماني بالاحتلال، ولكن بالتأكيد يجب التنبيه على أن هذه الأوصاف الرومانسية بحق ظاهر العمر كانت مجرد مبالغة، لسببين رئيسيين: الأول؛ هو أن ظاهر ورغم نزعته الاستقلالية، لم يكن يملك أي نزعة تحررية، وظل حتى آخر فترات حياته يسعى لتثبيت دعائم حكمه وسيطرته على إمارته الصغيرة بواسطة شرعية يستمدها من الباب العالي، وقد انتهت إمارته وانفض الجمع من حوله بسبب عدم قدرته على اكتساب هذه الشرعية في النهاية، لقد كان ظاهر استقلالياً وتوسعياً بدون شك، وقد عاش سكان المدن العربية في جنوب سوريا تحت حكمه فترة ازدهار وأمان قل نظيرها مقارنة بحكم الولاة العثمانيين، إلا أنه لم يكن تحررياً، ولم يملك أي أيديولوجيا تحررية، فقد كان يبغي فقط، كما سيبين سير الأحداث، تكوين إمارة تحت سلطة الباب العالي وتستمد شرعيتها منه. أما السبب الثاني؛ فهو أن فلسطين في ذلك الوقت لم تكن كياناً معروفاً ومحدداً، وفي الواقع، ورغم انتشار اسم "فلسطين" كوصف للنطاق الجغرافي الذي يمثل الجزء الجنوبي من بلاد الشام/سوريا الكبرى/كنعان الكبرى منذ قديم الزمان (منذ المؤرخ اليوناني هيرودوت، على سبيل المثال)، إلا أن هذا النطاق الجغرافي لم يملك أبداً حدوداً واضحة المعالم تفصله عن سوريا، ولم يملك سياسياً أي قيمة إلا عندما حدد الانتداب البريطاني حدوده بعد العام 1923م، وحتى عندما شكلت السلطات العثمانية كيانات إدارية في الشام بحدود إدارية تشابه إلى حد كبير حدود فلسطين الانتدابية، لم تفعل ذلك إلا في القرن التاسع عشر (أي بعد انتهاء حقبة ظاهر العمر بعدة عقود) في 1830 و 1840 و 1872 لم تكن هذه الكيانات الإدارية إلا جزءاً من الكل العثماني وخاضعة لسيطرة الباب العالي. ولذا، فليس من المعقول الحديث عن "قائد فلسطيني" في ذات الوقت الذي لم تكن "فلسطين" كما يتصورها الكاتب نصر الله موجودة في وعي قائدها أو سكانها.

نقطة أخرى لا بد من توضيحها أيضاً، وهي تتعلق بمصادر المعلومات المتوفرة للباحثين المعاصرين في بحثهم في سيرة ظاهر العمر. فقد اكتنف تلك الفترة من حياة الشام وتاريخها كثير من الغموض، فقد حكمت الكثير من العائلات الإقطاعية وشبه الإقطاعية كثيراً من مناطق فلسطين وسوريا، وقام بعض المؤرخين بتأريخ فترة حكمها وسير قياداتها بكثير من التحيز وبخاصة بسبب ولاء بعضهم للباب العالي أو عدائهم له، لذا فقد يواجه الباحث في غالب الأحيان كثيراً من التناقضات في الأحداث بشكل يتطلب مقارنةً وتمحيصاً بين مختلف المصادر ومحاولة تقرير ما اتفقت عليه غالبيتها، كُتبت سيرة ظاهر العمر مرتين على يد اثنين من أحفاد وزيره العكاوي إبراهيم الصباغ، هما عبود وميخائيل الصباغ، إحدى هاتين السيرتين نُشرت من قبل فيما لا تزال الثانية مخطوطاً بحاجة للتحقيق والنشر، تمتلئ هاتين السيرتين بالكثير من التناقضات فيما بينهما، والتناقضات داخل النص الواحد، إضافة إلى الاختلاف مع مصادر تاريخية أخرى أرخت لذات الفترة الزمنية. كذلك فقد ورد ذكر ظاهر العمر لدى مؤرخين آخرين أرخوا لتاريخ الشام أو لتاريخ بعض العائلات الحاكمة في بعض مناطقه، فكانت هناك مصادر عاملية (نسبة لجبل عامل) وشهابية (نسبة للشهابيين امتداد المعنيين حكام أمارة الشوف) وغيرها، كما وردت نتف من سيرة ظاهر لدى بعض المؤرخين المصريين الذين غطوا سيرة حلفاء وأعداء ظاهر من بكوات مصر من المماليك وعلى رأسهم عبد الرحمن الجبرتي، إضافة إلى استفادة بعض الباحثين من الرسائل الرسمية التي كان يرسلها قناصل الدول الأوروبية في ولاية صيدا ونوابهم في عكا إلى حكومتهم في فترة حكم ظاهر، واستفادتهم كذلك من تغطية بعض الرحالة الأوروبيين القدماء لتاريخ الإيالات العثمانية في القرن السابع عشر كالفرنسي كوستانتين فولني والإيطالي جيوفاني ماريتي. يظل واحداً من أهم المصادر وأبواب المعلومات عن سيرة ظاهر غير مطروقاً لحد الآن، وذلك طبقاً للمراجع التي طالعها كاتب المقال والتي لم يبد أنها حاولت الاستفادة منه، ألا وهو السجلات العثمانية، والتي - كعادة السجلات الرسمية لأي دولة تاريخية - تخبأ الكثير مما قد يفاجأ الباحث ويغير وجهة نظره عن الكثير من الأحداث التي تناقلتها المصادر الأخرى.

ظهرت عائلة الزيادنة على مسرح الأحداث في الشمال الفلسطيني في وقت ما خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر، لا يُعرف على وجه التحديد الوقت الذي وصل فيه الزيادنة إلى مركز تواجدهم الرئيسي في قرية عرابة البطوف (تتبع ناحية الشاغور - سنجق صفد)، ولا يُعلم على وجه التحديد مسقط رأسهم الأصلي، على ان قسما كبيرا من الآراء يرجح أنهم قدموا من الحجاز في سنوات القحط، من المدينة المنورة أو من الطائف، وحاولوا البحث عن لقمة عيشهم في مكان آخر (في الشام)، فكان أن نزلوا بداية بمعرة النعمان في مضارب عرب بني أسد في مكان بين إيالتي دمشق وحلب، وبعد فترة من التنقل مع بني أسد اضطروا لمغادرتهم لأسباب غير واضحة، ووصلوا أخيراً بعد فترة قصيرة من التنقل إلى بلاد الجليل، حيث وفرة المراعي والأراضي الخصبة فرعوا ماشيتهم وزرعوا الأرض وتمتعوا أخيراً بالاستقرار بعد سنوات من التنقل، وهناك، وفي العام 1689م تقريبا ولد ظاهر العمر الزيداني، أصغر أبناء الشيخ عمر الصالح الزيداني.

يكتنف تلك الفترة من حياة ظاهر وتاريخ الزيادنة عموما الكثير من الغموض وتتناقض الكثير من الروايات التي ينقلها مؤرخو سيرة ظاهر العمر وغيره من الأمراء الشاميين أو مؤرخو تلك الفترة من حياة بلاد الشام عموماً فيما يخص الظروف التي أحاطت بصعود الزيادنة وانخراطهم في العمل لدى مؤسسات الدولة، ونجد عدداً من المؤرخين يتفقون على جعل حادثة "معركة قرية سلامة" التي وقعت في في أواخر العقد الأخير من القرن السابع عشر منطلقا لصعود نجم هذه العائلة، فقد كانت قرية سلامة المركز الرئيسي لعائلة درزية حاكمة في ناحية الشاغور تتولى بأمر من والي صيدا التزام الناحية وقد كان رئيسها على خلاف دائم مع غالبية سكان قرى الناحية من المسلمين السنة والمسيحيين وقد تصدى الشيخ صالح الزيداني (جد ظاهر) بمعاونة عائلته لهم وقام بنصب كمين لهم في قريتهم وقتل رئيسهم ودمر القرية عن بكرة أبيها، والتي لم تعد تسكن منذ ذلك اليوم وأصبحت تُعرف باسم "خربة سلامة"، وقد رفع ذلك من أسهم الزيداني لدى أهالي الناحية، وجعلهم يرسلون لوالي صيدا بمطالبتهم بتعيين الزيداني ملتزمًا عليها، وهو الذي حدث فعلا في حدود العام 1698م، ولكن يشوب هذه الرواية شك مرده إلى أن تلك المنطقة من إيالة صيدا وفي ذلك الوقت بالذات كانت تخضع للحكم المباشر للأمراء الشهابيين، وقد أوردت مصادر أخرى أن الشيخ صالح الزيداني قد نُصِّب ملتزماً بأمرٍ من الأمير بشير الأول بن حسين الشهابي(2)، وقد توفي صالح الزيداني في عام 1701 تقريباً وفي ذات العام نُصِّب ابنه عمر الصالح الزيداني ملتزماً على طبريا والدامون وعرابة البطوف بأمر من الأمير منصور الشهابي، وبعد أربعة سنوات توفي عمر نفسه واتفق أولاده على توكيل أخيهم الأصغر ظاهر بمهام الإلتزام وقد نالوا وقتها الموافقة على وضعه في هذا المنصب من والي صيدا مباشرةً(3).

كان ظاهر في ذلك الوقت شابًا صغيرًا غير ملم بأمور الحكم وطريقة التعامل لا مع الدولة وممثلها في صيدا من جهة ولا مع الفلاحين وأهل الأرض من جهة أخرى، في الواقع، كان تعيين ظاهر (والذي كان أصغر أولاد عمر الزيداني) ملتزمًا على تلك المناطق اسميًا وصوريًا لا غير، والذي حكم فعليًا هم إخوته سعد ويوسف (الذين تولوا أمر عرابة البطوف وطبريا) وعمه علي (الذي كان ملتزمًا على الدامون تحت اسم أخيه عمر قبل وفاته وظل كذلك عندما تولى ابنه ظاهر الالتزام اسميًا خلفًا لأبيه)، وذلك خشية منهم أن تظهر أسمائهم في سجلات الدولة بسبب تأخرهم في دفع مستحقات الإلتزام من أموال الميري لوالي صيدا. ولكن يبدو أن هذا الحذر لم ينفع إخوة ظاهر في شيء، فقد ألقى سليمان باشا العظم والي صيدا (من 1728 - 1731م) القبض على أخ ظاهر الأكبر (سعد العمر) سنة 1730م  بسبب تأخره في دفع مال الميري لصالح الوالي ولم يخرج من السجن إلا عندما افتداه عدد من شركائه في تجارة القطن من الفرنسيين بدفع قسط من المستحق عليه. وقد كانت هذه الحادثة سبباً في علاقة متوترة ستنشأ بين الزيادنة وسليمان العظم لاحقاً وقت توليته إيالة دمشق. وقد كان ظاهر قد نال نصيبه من معاداة ولاة صيدا مبكراً كذلك حينما شارك في صد هجوم الوالي العثماني على قلعة البعنة عام 1721م والتي هوجمت وفُرض عليها الحصار بسبب تأخر ملتزمها في دفع مستحقات الدولة من مال الميري، وقد فشلت البعنة في الصمود ضد الوالي وقواته واستسلمت له ونجا ظاهر من عقاب والي صيدا وقتها بأعجوبة.

بقي ظاهر العمر على هذا الحال ملتزماً تحت رعاية إخوته حتى العام 1730م ، والذي يجعله الباحث خالد صافي(4) نقطة تحول في حياة ظاهر وبداية لحكمه الفعلي، فقد وطد مكانته داخل عائلته، واستفاد من السنوات التي قضاها ملتزما على طبريا والدامون اسميا ليكتسب شهرة لدى ولاة صيدا وشيوخ الفلاحين وبدأ في العام 1730 حركته التوسعية الأولى داخل سنجقي طبريا وصفد مستفيدا من تحالفه مع بدو عرب الصقر تحت قيادة زعيمهم رشيد الجبر، فسيطر على قلعة جدين والقرى التابعة لها بعد أن قتل صاحبها أحمد الحسين بمعاونة من حلفائه الجدد وسيطر على قلعة صفد بعد تهديد صاحبها محمد نافع الذي هرب منها تاركًا إياها لسيطرة ظاهر، ثم سيطر على قلعة البعنة بعد أن صاهر صاحبها عبد الخالق الصالح والذي تنازل لصهره عن قلعته طواعية، وبذا تم لظاهر السيطرة على صفد وطبريا قبل عام 1735م. وحرص ظاهر مع كل حركة توسعية أن يحصل رسمياً على التزام المنطقة التي يسيطر عليها من والي صيدا الذي كانت تصله من ظاهر أموال الميري في مواعيدها وبمنتهى الانتظام ومعها الكثير من الهدايا التي تسترضي جشعه. وفي عام 1735م ولَّى ظاهر وجهه شطر الناصرة وقد كان قد صاهر واحدة من عائلاتها الكبيرة وضمها لحكمه وحصل على التزامها من الوالي كذلك ومنعها عن مشايخ وتجار سنجقي نابلس واللجون (التابعان لإيالة دمشق) والذين كانت تمثل لهم الناصرة مركزاً تجارياً مهماً، وقد كان ذلك شرارة لعداء استمر لفترة طويلة بين ظاهر والشيوخ النابلسية، وقد حسم مشايخ نابلس وجنين (آل جرار وآل ماضي) أمرهم وقرروا الخروج لحرب ظاهر وتحالفوا مع بدو عرب الصقر، كان عرب الصقر قد اهتموا بداية بالتحالف مع ظاهر لزعزعة استقرار المنطقة وجعلها مناخاً أكثر ملائمةً لنشاطهم الرئيسي في السلب والنهب وفرض الأتاوات على الفلاحين، لكن ظاهر انقلب عليهم بعد أن سيطر على صفد وطبريا ورفض استمرارهم بأعمال قطاع الطرق تلك حيث كان هدفه خلق سلطة مركزية في الجليل تتمتع بسيادة سياسية واستقرار أمني واقتصاد نشط وذلك يتعارض مع أهداف عرب الصقر، والذين فضلوا الانضمام في تحالف مضاد لظاهر مع شيوخ النابلسية الذين ساءهم سيطرة ظاهر على الناصرة كما تم التوضيح، وقد تواجه كلا الفريقين في العام 1735م في معركة كبيرة قرب قرية المنسي الواقعة على حافة مرج بن عامر بين حيفا وجنين، وانهزم النابلسية وعرب الصقر أمام عسكر ظاهر الذي أوقع فيهم مقتلة كبيرة كان من ضحاياها كبير مشايخ جنين إبراهيم الجرار، ويروي ميخائيل الصباغ (مؤرخ سيرة ظاهر) أن عدد القتلى من حلف النابلسية وعرب الصقر وصل لثلاثين ألف مقاتل وأن رائحة نتانة الجثث غمرت مرج ابن عامر لفترة طويلة بعد انتهاء المعركة، ورغم ما في كلام م. الصباغ من مبالغة واضحة، خاصة وأنه المؤرخ الوحيد الذي انفرد بذكر هذه الرواية، إلا أن كلامه يوضح الحالة التي كانت عليها المعركة والانتصار الساحق لظاهر فيها، والذي توغل بجيشه في أراضي سنجق نابلس حتى وصل إلى قلعة صانور التي كان يريد اخضاعها أيضا، ولكنه تخلى عن تلك الفكرة سريعا لحصانتها ومتانة أسوارها(5) فعاد إلى الناصرة مكتفيا بما وضع يده عليه من أرض. وجدير بالذكر أن كل ما سيطر عليه ظاهر من أراضٍ في سنجق نابلس عاد ورفع يده عنها مرة أخرى بعد صلح عقده من الشيخ محمد الجرار في مقابل أن يدفع آل جرار وآل ماضي له تكاليف الحرب التي خاضها ضدهم، ويتضح من ذلك أن ظاهر كان لا يرغب - في تلك الفترة على الأقل - أن يسيطر على أي أرضٍ لا يقدر على الحصول على التزامها رسمياً، فنابلس كانت تتبع لدمشق، وما كان الوالي الدمشقي ليمنحه التزام شيء من أراضِ إيالته قط، وكذلك فإن غرض ظاهر الأساسي من حربه مع النابلسية كان تأديبهم ولمنع تعدياتهم على الناصرة ولكف يد بدو عرب الصقر عن مزارعي القرى الخاضعة لسيطرته وعن قوافله التجارية التي كان يرسلها تباعاً إلى ميناء عكا في تجارته المستمرة مع الفرنسيين.

انتهت أولى جولات الصراع بين ظاهر ومشايخ نابلس ولكن لم تنته آثارها، من جهة، أصبح ظاهر - بالنسبة للعثمانيين - أكثر من مجرد شيخ إقطاعي صغير مهووس بالتوسع في ولاية صيدا، ومن جهة أخرى فقد تعدى ظاهر على إيالة دمشق، ولم يكن والي دمشق - في ذلك الوقت - سليمان باشا العظم (ت 1743م) ليسمح بمرور هذا التعدي بدون حساب، كما أن الرحلة السنوية لوالي دمشق لجمع أموال الميري من ملتزمي مناطق الإيالة كانت تمر حتما إلى نابلس عبر أراضي سنجق طبريا، أي في احتكاك مباشر مع مناطق نفوذ ظاهر العمر، إضافة إلى الخلاف القديم بين سليمان العظم والزيادنة والذي سبق ذكره قبل قليل. كل هذه العوامل ساهمت في جعل ظاهر العمر يستعد لمواجهة مرتقبة مع سليمان باشا، ولذا فقد بدأ عام 1737م بزيادة تحصينات عاصمة دويلته الصغيرة ومقر حكمه، طبريا، ولم يمهله الباشا سوى سنة واحدة فقط قبل أن يشن هجومه عليها، وفي وقت ما من العام 1738م كانت قوات سليمان باشا تحاصر طبريا وتدك أسوارها بالمدافع بشكل متصل لمدة 15 يومًا ولم ينجُ ظاهر أو قلعته إلا بقرار مفاجئ من الباب العالي بعزل سليمان باشا من منصبه كوالٍ لدمشق.

وخلال ثلاثة أعوام لاحقة، قرر الولاة الثلاثة الذين عينهم الباب العالي تباعًا على دمشق أن أمر ظاهر العمر ونفوذه في إيالة صيدا لا يعنيهم كثيراً، واستغل ظاهر ذلك في توطيد حكمه في الجليل وذلك بضم الدامون وشفا عمرو لحكمه المباشر. منذ بداية القرن الثامن عشر كان إلتزام الدامون في يد علي الظاهر الزيداني (أخو عمر الزيداني وعم ظاهر) وكان يلتزمها من والي صيدا بشكل غير مباشر تحت اسم أخيه عمر، وعندما توفي عمر في 1705م ظل ملتزماً عليها تحت اسم ابن أخيه ظاهر الذي تولى أمر التزامها بشكل صوري كما أسلفنا، وقد توفي علي الزيداني في نهاية ثلاثينات القرن الثامن عشر وترك التزام الدامون لابنه محمد العلي، الذي حركته الغيرة - على ما يبدو - لتقليد ظاهر في توسعاته فضم لسلطة التزامه منطقة شفا عمرو في وقت ما من منتصف الثلاثينات وفي ذات الوقت راسل سليمان باشا العظم والي دمشق محرضّاً إياه على ظاهر مع وعد بمساندته عسكرياً ضد ابن عمه. لكن مخططات محمد العلي لم تنجح، فقد عُزل سليمان باشا ولم يطل الأمر قبل أن يتعرض للاختطاف على يد ابن عمه ظاهر ويُقاد إلى قلعته في طبريا أسيرًا لفترة وجيزة قبل أن يُقتل. وسارع ظاهر بعد قتله ابن عمه للحصول على التزام شفا عمرو من والي صيدا بشكل رسمي. انتهت السنوات الثلاث التي نعم بها ظاهر بالسلام مع ولاة دمشق، وعاد سليمان باشا العظم لتولي مسؤولية الإيالة في العام 1741م وعاد مرة أخرى لمهاجمة طبريا.

هذه المرة، كان موقف سليمان العظم أكثر قوة، فابن أخيه إبراهيم باشا العظم كان واليا على صيدا، وكان مستعدا للتعاون مع عمه من أجل الحد من نفوذ ظاهر في الجليل، وفي سبتمبر 1742م خرج سليمان باشا على رأس جيشه المزود بالمدافع وبعدد من الخبراء العسكريين الذين استقدمهم من اسطنبول، قاصداً طبريا ومحاصرا أسوارها العالية، وفرض عليها حصاراً شديداً استمر لمدة ثلاثة شهور بمعاونة بعض قبائل البدو وعائلات الدروز في جبل لبنان إضافة إلى حكَّام نابلس والقدس، صمد ظاهر في طبريا قدر المستطاع وهو يعلم أن رفع الحصار عن قلعته ليس إلا مسألة وقت، فموعد قافلة الحج الشامية على وشك أن يداهم سليمان باشا في أي وقت (بدأت حملة سليمان باشا في رجب 1155هـ) وسيضطر إلى إخلاء الجيش ورفع الحصار رغمًا عنه، وقد أصابت توقعاته فعلاً مع انتصاف شهر شوال من ذلك العام، وبالرغم من ذلك، فقد أشاع سليمان باشا في دمشق خبر انتصارٍ وهمي على ظاهر وأنه ألزمه بدفع مال الميري إليه، وهو الأمر الذي يخالف فعلا ما حصل بعد أقل من عام، ففي يوليو 1743م عاد سليمان باشا وشن حملة جديدة على ظاهر بهدف القضاء عليه نهائياً ولكنها انتهت بموته في أغسطس 1743م بمرضٍ مفاجئ, وبوفاته انتهت - حتى تلك المرحلة - تهديدات ولاة دمشق لظاهر العمر، ما جعله يلتفت أكثر لزيادة توسعه في ولاية صيدا والذي كلله بنجاحه أخيرًا بالسيطرة على مدينة عكا.

كان لجولات الصراع الذي خاضه سليمان باشا العظم ضد ظاهر العمر أثرٌ في تقوية نفوذة داخل إيالة صيدا، فقد فشل والٍ دمشقي في إخضاعه بعد ثلاث محاولات خلال أربعة أعوامٍ فقط، وقد اختار الوالي التالي على دمشق (أسعد باشا العظم) مهادنة ظاهر ونزع من رأسه فكرة إخضاعه، وأصبح ظاهر مرهوب الجانب من جميع مسؤولي الدولة في صيدا، ينطبق ذلك على آغا مدينة عكا الذي فقد مدينته لظاهر في عام 1745م. كان ظاهر في عكا لا يعطي أي اعتبار لآغا المدينة أو ما يمثله كمنفذ لسلطة الدولة، وكان يتجول في المدينة بدَرَكِه الخاص بمنتهى الحرية، وقد روى القنصل الفرنسي في صيدا في رسالة لحكومة دولته أن ظاهر أرسل إلى خان التجار الفرنسيين من يقوم بإلقاء القبض على بعض التجار الذين تخلفوا عن سداد ديونهم له، بل إنه عندما ألقى القبض على ابن عمه محمد العلي ملتزم الدامون - كما سبق ذكره - فعل ذلك داخل مدينة عكا. كانت خطوة مثل الاستيلاء على مدينة ساحلية مهمة ذات مستقبل تجاري واعد مثل عكا أمراً صعباً بالنسبة لظاهر وبحاجة لحجة قوية لتبريرها أمام الوالي في صيدا والسلطات في اسطنبول، لذا فقد استمر في تصرفاته الاستفزاية لآغا المدينة وتجاهله التام لوجوده منتظراً منه أن يقع في الخطأ، وحدث ذلك فعلا عندما رست في ميناء عكا سفينة تحمل تجهيزات عسكرية أرسل الآغا في طلبها خصيصاً - فيما يبدو - من أجل معركة محتملة بينه وبين ظاهر، ولم يمهله ظاهر كثيراً بعد علمه بالموضوع فقد أرسل من يهدده ويأمره بمغادرة المدينة ويهدد أهالي عكا بالبطش بهم إن هم ساندوه(6)، فهرب الآغا من المدينة ولحقه الأهالي عندما علموا بمغادرته لهم، واقتحم ظاهر المدينة على رأس 3000 جندي من جيشه واستولى عليها.

وقع ظاهر في مشكلة أمام والي صيدا بسبب ما فعله وسيطرته على المدينة التي كانت ذات أهمية كبيرة بالنسبة للإيالة ومركز جذب مهم للتجارة الدولية، وقد برر ظاهر أمام الوالي ما فعله بسبب مشكلة شخصية بينه وبين الآغا وأن وضع المدينة بالنسبة للإيالة لن يتغير وأموال الميري الخاصة بها ستظل تصل له بانتظام ووعد بتنشيط التجارة فيها وتحسين وضعها وطلب نقل الصورة للباب العالي بناء على هذا الأساس، وهو الأمر الذي كان، وقد رغب الباب العالي في مهادنة ظاهر حتى حين، فلم تكن الظروف مؤاتية في تلك الفترة لتولي أمره وإخضاعه، وبناء عليه وافق الباب العالي على تسليم عكا لظاهر رسميا وتعيينه حاكمًا عليها في النصف الثاني من العام 1746م. ولم يضيع ظاهر وقتًا، فقد باشر فورًا بتحويل عكا إلى مدينة كبيرة وإحاطتها بسور ضخم وتشييد عدة قلاع على أطرافه وتزويدها بالمدافع وبنى فيها قصرًا كبيرًا ليجعل منها في الختام عاصمةً له ومقرًا لحكمه.

وبسيطرته على عكا، نستطيع القول أن المرحلة الأولى من توسع ظاهر قد انتهت، وأصبح يملك تحت يده سيطرة على غالبية مدن وسناجق الشمال الفلسطيني موحدًا إياها تحت حكم إمارة واحدة تمتد فيما (بين البحرين)، بحر طبريا (بحيرة طبريا) في الشرق، وبحر عكا (البحر المتوسط) في الغرب. وللحديث بقية.



(1) إيالة أو ولاية، وهي اللفظ المستخدم بالعثمانلية لوصف أكبر التقسيمات الإدارية التي استخدمها العثمانيون في تنظيماتهم الإدارية ويقوم على رئاستها والٍ (=وزير) يحمل رتبة باشا، وتتكون الإيالة من عدة سناجق (سنجق = قضاء) ويتكون السنجق من عدة نواحي.

(2) تولى الأمراء الشهابيون الحكم في إمارة الشوف وجبل لبنان بعد وفاة الأمير أحمد المُعني وقد اتفق وجهاء الإمارة على تولية ابن أخت الأمير المعني، بشير الأول بن حسن الشهابي، مكان خاله، ثم صدر أمر من الباب العالي بتولية حفيد الأمير المعني، حيدر بن حسين الشهابي عوضاً عن بشير، ولكن تحت وصايته حتى بلوغه سن الرشد.

(3) حارب الشهابيون بأمر من قبلان باشا والي صيدا أمراء جبل عامل (المتاولة)، وعلى رأسهم مشرف بن الصغير وهزموهم في وقت ما خلال نهاية القرن السابع عشر، وجزاءً لهم مُنحوا الحكم على مقاطعات جبل عامل وعلى سناجق صفد وطبريا، غير أنه وبعد عزل قبلان باشا أُخذت منهم إمارات جبل عامل وأُعيدت للمتاولة وأخذت منهم سناجق صفد وطبريا وأُعيدت للحكم المباشر لوالي صيدا ومن يختاره لتولي الالتزام فيها. وكان ذلك خوفاً من أن يكون امتداد نطاق حكم الشهابيين إغراءً لهم بتكرار تجربة أنسبائهم المعنيين الانفصالية.

(4) اعتمد كاتب هذه المقالات على مجموعة من المراجع التي درست أو تحدثت عن ظاهر العمر الزيداني، على أن أهمها والذي كان مصدراً للقسم الأبرز من معلومات السلسة هو: حاكم الجليل في القرن الثامن عشر ظاهر العمر الزيداني لمؤلفه خالد محمد صافي، ط. المركز القومي للدراسات والتوثيق - غزة 2005.

(5) كانت قلعة صانور من أشد قلاع فلسطين تحصيناً في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وتعرضت للهجوم على يد ظاهر العمر وأحمد باشا الجزار والي عكا لاحقاً عدة مرات، ولم يستطع إخضاعها وتدميرها سوى الأمير بشير الثاني الشهابي في 1830م.

(6) كانت عكا في ذلك الحين قرية صغيرة للصيد وكان تعداد سكانها الدائمين لا يتجاوز 500 نسمة كحد أقصى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق