ملك ما بين البحرين .. ظاهر العمر الزيداني - الجزء الثاني

لوحة تجسد ظاهر العمر في سرايا عكا كما تخيله الرسام الفلسطيني زياد الظاهر


استعرض الجزء الأول من هذا المقال بداية سيرة حياة ظاهر العمر الزيداني كحاكم فعلي لقرى ومدن الجليل وشمال فلسطين، في المنطقة الممتدة بين بحيرة طبريا ومدينة عكا، وكيف استطاع ظاهر الحصول على مكانه الأول كموظف رسمي للدولة رغم صغر سنه وكونه أصغر إخوته بعد وفاة أبيه عمر الصالح الزيداني الملتزم السابق لطبريا وعرابة والدامون. يستكمل هذا الجزء من المقال سرد الأحداث التي مرت بظاهر في الفترة الثانية لحكمه ابتداء من نقل عاصمته من طبريا إلى عكا وتوسعه إلى حيفا إضافة إلى عودة الصراع بينه وبين ولاة الدولة العثمانية في دمشق بعد فترة قصيرة نسبياً من الهدوء.

كان من ضمن أهم التنظيمات الجديدة التي استدخلها ظاهر العمر لإمارته الصغيرة تكوينه لجيش نظامي بلغت عدته حوالي 3000 جندي ما بين فرسان ومشاة، أغلبهم من الجنود المرتزقة من المغاربة إضافة إلى عدد من شباب الفلاحين، وضع عليهم ظاهر العمر ذراعه الأيمن المغربي أحمد آغا الدنكزلي(1) قائداً وراعياً لشؤونهم. وقد سلَّح ظاهر فرسانه ومشاته ببنادق حديثة من نوع مسكيت فرنسية الصنع إضافة إلى السيوف والخناجر، حصل عليها بتبادل تجاري مع قناصل فرنسا في صيدا مع بداية الفترة الثانية لحكمه، إضافة إلى مراكمته لعدد كبير من المدافع وصل إلى أكثر من مئة مدفع، وهو عدد كبير مقارنة حتى بعتاد جيوش الدولة العثمانية في الولايات الشامية من المدافع والذي لم يكن يصل في أفضل أحواله لعُشر هذا العدد. كانت قوات ظاهر المنظَّمة سبباً في تفوقه في كل حملاته العسكرية التي شنها ضد أعدائه(2) وقد خصص لها ميزانية سنوية وصلت إلى مئة ألف قرش عثماني كانت تُدفع سنوياً إلى قائدها أحمد الدنكزلي. إضافة إلى جيشه، عمل ظاهر على إيجاد موطأ قدم له لدى الباب العالي، فهو لم يكن يملك صفة تخوله في بداية حكمه أن يراسل الباب العالي متجاوزاً سلطة والي صيدا الذي كان الممثل المباشر للدولة بالنسبة له، فعلى سبيل المثال، عندما أراد ظاهر أن يتدخل الباب العالي لإيقاف هجمات سليمان باشا العظم عليه (راجع الجزء الأول) في طبريا، توجه إلى القنصل الفرنسي في صيدا طالباً منه المساعدة في ذلك عن طريق السفير الفرنسي في اسطنبول، وقد كان يظن أن تجارته مع الفرنسيين كانت كافية لأن يُقدِّم له القنصل هذه الخدمة، وقد رفض قنصل فرنسا في صيدا تنفيذ طلب ظاهر وعلل له ببساطة أن فرنسا تستفيد من علاقاتها مع سليمان باشا أكثر بكثير من أي استفادة تجارية بينها وبينه، ولذا فقد عمل ظاهر على تجنيد وكيل خاص به من موظفي الباب العالي ليكون صوته وعوناً له عند السلطان العثماني. وبالفعل، فقد استطاع توظيف يعقوب آغا أحد موظفي القصر السلطاني، والذي كان على علاقة مباشرة بالكازلار آغا (مشرف الحرملك) وسليمان آغا السلحدار (حامل سيف السلطان) وقد لعب يعقوب آغا دوراً مهما في تغيير موقف الباب العالي لمصلحة ظاهر في عدة مناسبات وظل مخلصا له حتى وفاته في سبعينات القرن الثامن عشر.

أصبحت عكا تحت حكم ظاهر، وعزم على تحويلها من قرية صغيرة إلى مدينة كبيرة تصلح لأن تكون عاصمةً لدولةٍ قوية ووجهة اقتصادية لها. فبدأ ظاهر إصلاحته العمرانية داخل المدينة ببناء الأسوار لتحيط بها من جهاتها الثلاث إضافة إلى القلاع المزودة بالمدافع الحديثة وسرايا (قصر) في الزاوية الشمالية الغربية محمية بخندق وعدد من الأبراج المزودة بالمدافع أيضًا مع سوق كبير (ضم أكثر من 100 دكان) وخان قرب الميناء لاستقبال المسافرين عبر البحر كما قام بتشجيع هجرة سكان إمارته إلى عكا والإقامة فيها وممارسة النشاط التجاري، وارتفع عدد سكانها من حوالي 500 نسمة لما يزيد عن 25 ألف خلال عدة سنوات. وما أن حل العام 1750م حتى أصبح لعكا وجه آخر تحت حكمه، وتحولت إلى مركز جذب تجاري رئيسي لإمارته ومركزاً تجارياً رئيسيا لبلاد الشام إجمالاً، ووصف البعض عكا في ذلك الوقت بكونها ثالث أكبر مدينة في بلاد الشام بعد دمشق وحلب، ووصفوا مينائها بكونه أكبر/أنشط ميناء على الساحل السوري بلا منازع. ولم تكن سوى مسألة وقت فقط أن يوجه ظاهر أنظاره تجاه حيفا لأسباب استراتيجية واقتصادية، فحيفا يمكن أن تكون نقطة انطلاق لأي هجوم ضد عاصمة ظاهر الجديدة ويلزمه تأمين الطريق الواصل بين المدينتين، كما أنها تملك ساحلًا مستويًا يصلح لإنشاء ميناء تجاري يضاهي ميناء عكا.

كانت حيفا (ناحية حيفا) وحتى الربع الأول من القرن الثامن عشر جزءاً من سنجق اللجون (جنين) التابع لإيالة دمشق وكانت المدينة تقع - تقريباً - على الحدود الفاصلة بين سنجق اللجون وسنجق عكا، وقد كان نشاطها التجاري ضعيفاً جداً بسبب صغر مينائها ونشاط ميناء مدينة عكا المجاورة، فضلًا عن كونها كانت هدفاً مستمراً لهجمات قراصنة جزيرة مالطا(3) وتتعرض للنهب على أيديهم بانتظام - حتى أنها سميت بمالطا الصغرى، وبناء عليه، فضَّل الباب العالي فصل حيفا عن اللجون عام 1723م وإلحاقها بسنجق عكا وتشجيع سكان قرى عكا على الإقامة بها مع بناء حصن مزود ببرجين للمراقبة حول مينائها وتزويدهما بالمدافع فيها لتوفير حماية أكبر لها وزيادة نشاطها التجاري، وقد تزامن ذلك مع هدنة عقدها الباب العالي مع مالطا بعد وساطات وضغوط من فرنسا التي كانت ترى في حماية المصالح التجارية العثمانية في البحر المتوسط حمايةً لمصالحها كذلك، ولم تتوقف - على إثر هذه الهدنة - هجمات المالطيين تماماً ولكنها قلت بشكل ملحوظ، كما أن التسليح الذي زود به الباب العالي ميناء حيفا ساعد كذلك في زيادة الاستقرار في الناحية.

لا يذكر مؤرخو ظاهر تفاصيلًا عن استيلاءه على حيفا سوى أنه قد "أخذها" بعدما سيطر على عكا وأخذ معها قريتي الطيرة والطنطورة (التي كانت تضم قلعة حصينة، وكانت كلتا القريتين إضافة إلى القلعة ضمن حدود سنجق اللجون)، ويرى الباحث خالد صافي أن ظاهر لم يكن ليقدر على السيطرة على حيفا إلا بعد انتهائه من بناء أسوار عكا، أي خلال عامي 1752 - 1753م على أقصى تقدير. وقد استطاع ظاهر بواسطة وكيله في اسطنبول إقناع الباب العالي بأن يزود حيفا بالمزيد من التحصينات والتجهيزات العسكرية على نفقة السلطان نفسه، وقد وافق السلطان على اقتراح ظاهر، وبحلول العام 1760 كان ظاهر قد أنجز كل التحصينات المتفق عليها، ولكن ليس إلى وقت طويل. جدير بالذكر أن حيفا كانت ثاني مركز تجاري يسلبه ظاهر من مشايخ نابلس وجنين، كما أنه - ولغرض تأمين حيفا عسكرياً - كان قد سيطر أيضاً على قرية الطنطورة وقلعتها الحصينة وكانتا تتبعان ضمناً وفعلاً لمشايخ آل جرار حتى بعد نقل ناحية حيفا إدارياً إلى إيالة صيدا، آلمت هذه الخطوة مشايخ نابلس وجنين، خصوصاً وأن حيفا قد بدأت تنتعش اقتصادياً خلال العقدين السابقين على خلاف عهدها السابق، ولكن لم يتجرأ أحد على محاولة استعادة حيفا من ظاهر عسكرياً وانتظروا كالعادة أوامرهم من الوالي في دمشق، والذي كان - كما سيرد بعد قليل - على علاقة طيبة بظاهر العمر ومشغولاً بشؤون أخرى أكثر أهمية في إيالته.

نجح ظاهر كذلك في تحييد خطر قراصنة مالطا بشكل فعال، وقد أثناهم بحنكته السياسية عن الهجوم على موانئه، ففي أبريل من العام 1752م أرسل ظاهر رسولاً لحاكم مالطا محملاً بهدايا ورسالة يؤكد له فيها على صداقته له وأن لا داعي لحدوث أي خلاف بينهما، وعاد ليؤكد ذلك برسالة أخرى في شهر يوليو من نفس العام، وقد طبَّق ظاهر تأكيده هذا عملياً بالسماح لقراصنة مالطا بالرسو بسفنهم الثلاثين في ميناء عكا ومنحهم مكاناً في خانها الجديد لبيع أسلابهم التي كانوا يحصلون عليها من هجومهم على الموانئ العثمانية الأخرى على الساحل السوري كصيدا وطرابلس وبيروت، وسفن العثمانيين بالبحر. ورغم محاولة ظاهر الحفاظ على سرية نشاط القراصنة المالطيين في عكا إلى أن أخبارهم وصلت تباعاً لوالي صيدا وللباب العالي، والذي أصدر له أمراً بإخراجهم من عكا على الفور، تظاهر ظاهر بعدم معرفته بتواجد القراصنة المالطيين في مدينته، ووعد الباب العالي بملاحقتهم، وقد قام فعلاً بتجهيز عدد من السفن الحربية وأرسلها في البحر في ملاحقة وهمية للسفن المالطية.

كان آخر من ذكر من ولاة دمشق الذين عاصرهم ظاهر العمر في المقال السابق هو أسعد باشا العظم والذي تولى منصب الوالي في إيالة دمشق بعد وفاة عمه سليمان باشا العظم في 1743م، كان أسعد باشا مهتماً بشكل خاص بالشؤون الداخلية لإيالته، ولم يكن يعنيه ظاهر ولا قوته المتنامية في صيدا بشيء، فلم يكن مشكلته، بل إن ظاهر حرص على تنمية علاقته بأسعد باشا وكسب وده وصداقته وهو الأمر الذي منحه إياه أسعد باشا عن طيب خاطر، ونشأت بينهم علاقة مميزة طيلة فترة تولي أسعد باشا لولاية دمشق والتي استمرت لإثني عشر عاماً(4)، ابتدأها ظاهر بإرسال مواد تموينية لإيالة دمشق تعبيراً منه عن وده وولائه، كما ساعد ظاهر العمر أسعد باشا في القضاء على فلول ثوار اليرلية(5) الذين تمردوا ضده في 1745م، ومن ثم لجأوا إلى طبريا واحتموا فيها، فقام ظاهر بإلقاء القبض عليهم وقطع رؤوسهم وإرسالها إلى والي صيدا وإنباء أسعد باشا بما فعل، وقد رد أسعد باشا له الجميل عندما عقد راية الصلح بين ظاهر العمر وابنه عثمان الذي تمرد عليه سنة 1752م وفشل في تمرده والتجأ إلى أسعد باشا طلباً للحماية.

انتهت سنوات الوفاق بين ظاهر ودمشق بعد عزل أسعد باشا العظم، وما لبثت الدولة أن عينت على رأس إيالتها الأكبر في الشام الوالي الغزي حسين باشا الملقب بالمكِّي في فبراير 1757م، والذي تلقى - منذ الأسابيع الأولى لتوليه منصبه - تحريضاً من شيوخ نابلس على ظاهر العمر يشجعه على استعادة حيفا والطنطورة، لم يخيب لهم حسين باشا رجاءً وأرسل من فوره رسالة لظاهر العمر يأمره بإعادة أراضي إيالة دمشق التي استولى عليها وإلا فإنه سيهاجمه سيعود مباشرة إليه بعد عودته من إمارة قافلة الحج وسيعيدها بنفسه. أخطأ حسين باشا المكي في تقدير قوة ظاهر وحنكته السياسية، وأهمل حقيقة أنه تعرض من قبل لهجوم والٍ دمشقي أقوى منه عدة وعتاداً (سليمان العظم) ثلاثة مرات ولم ينجح في القضاء عليه، اتصل ظاهر بحلفائه من بعض القبائل البدوية وعلى مقدمتهم قبيلة بني صخر وأوعز لهم بمهاجمة قافلتي الحج الشامي التي يقودها حسين باشا المكي بنفسه وقافلة الجردة التابعة لإيالته، وكان له ما أراد، فاجتاح بنو صخر قافلة الجردة في سبتمبر 1757م في المنطقة الواقعة بين القطرانة ومعان (شرق الأردن) ثم قاموا بمهاجمة قافلة الحج الشامي أثناء عودتها من الحجاز إلى الشام في أكتوبر 1757م في المنطقة الواقعة بين تبوك وذات صبح، كان الهجومان ساحقين، وبخاصة الهجوم على قافلة الحج والتي لم يبقِ منها بنو صخر ولم يذروا، فقتلوا عديدها ما بين حجاج وحراس وجنود ووصلت تعداد ضحاياهم لأكثر من ستين ألف شخص، ونهب بنو صخر جميع ما في القافلة وعادوا به إلى الجليل، وقد أفلت حسين باشا المكي من القتل بأعجوبة وفر مع نفر ضئيل من حاشيته حتى وصل إلى غزة واحتمى بها.

من المنصف أن نذكر اعتراض بعض المؤرخين على تحميل ظاهر العمر مسؤولية التحريض على الهجوم، وأيعازهم الهجوم لأسباب أخرى متعددة، لكن اعتراضاتهم تسقط - حسب وجهة نظر كاتب المقال - أمام عدد من الشواهد الأخرى، منها أن عرب بني صخر هاجموا القافلة مسلحين ببنادق المسكيت الفرنسية، كما أنه وفر الغطاء والحماية للقبائل المهاجمة للقافلة وراسل الباب العالي واصفاً قبائل البدو بأنهم أصدقائه وحلفاءه وتحت حمايته ولن يسمح لأحد بالاعتداء عليهم، كما أنه سمح لقبيلة بني صخر ببيع أسلابهم من القافلة في أسواق مدن إمارته وقد اشترى منهم بعضها ومنها العقال والمحمل النبوي (الذي يحمله أمير القافلة على هودج ناقته) وأعاد إرساله ، وقد أهدوه جميع الخيول التي كانت في القافلة والتي استفاد منها في تعضيد قوته العسكرية، بالإضافة إلى أن الأحداث اللاحقة ستثبت أن ظاهر لا يظهر أي تحرج من مهاجمة قافلة الحج رغم ما لها من حرمة دينية ورغم كون معظم المرتحلين ضمنها من حجاج بيت الله الحرام من المدنيين الذين لا علاقة لهم بخلافه مع الدولة وولاتها، وقد حاول الهجوم على قافلة الحج الشامي مرة أخرى بعد عدة سنوات باستخدام قواته ولكن الظروف وقتها لم تسمح له بإتمام مهمته، والأهم من كل ذلك، أن ظاهر العمر كانت له المصلحة الأكبر في مهاجمة القافلة والتي ستؤدي فوراً إلى تجنبه خطر حرب جديدة مع إيالة دمشق. بأي حال، فقد اضطر الباب العالي لإيجاد كبش فداء مناسب للكارثة التي حلت بالقافلة لتهدئة الناس الغاضبين من أهالي دمشق وأخذ السلطان باتهام حسين المكي لأسعد باشا العظم لكونه وراء التحريض على مهاجمة القافلة، والذي كان "مربحاً" أكثر للسلطان من اتهام ظاهر، نظراً للثروات التي راكمها أسعد العظم من الضرائب والمكوس طيلة أربعة عشر عاماً من الحكم والتي ستُصادر تلقائياً بمجرد تجريده من منصبه ولقبه بهذه التهمة المشينة، وقد قامت الدولة بتجريده من منصبه كوالٍ لحلب، ونفته إلى جزيرة كريت لمدة عام ثم أعادته إلى أنقرة وأمر السلطان بقتله.

في المحصلة، انتصر ظاهر العمر مجدداً على دمشق وولاتها، وكسب جولة جديدةً من النزاع رفعت أسهمه وجعلته يتفرغ لشؤون إمارته الداخلية حتى قام الباب العالي في السادس من نوفمبر من العام 1760م بتولية عثمان باشا الجورجي والياً على دمشق(6).

نظر عثمان الجورجي في بداية حكمه إلى الجنوب، ويمم وجهه شطر حيفا والطنطورة، وابتدأ أعماله العسكرية الأولى كوالٍ على دمشق بقيادته لحملة عسكرية على قلعة الطنطورة، فدخلها وقتل حاميتها الزيدانية وأعادها لحكام ومشايخ نابلس، بعد فترة قصيرة عاد ظاهر واستعاد الطنطورة بسهولة. علم عثمان باشا أن تأمين الطنطورة يحتاج إلى استعادة حيفا بكاملها، وحيفا - بفرمان سلطاني سابق - لا تدخل ضمن نطاق اختصاصه ومن الصعب عليه أن يطالب بها، لذا فقد بذل جهده من أجل استصدار فرمان جديد من الباب العالي يبطل القرار الأول ويعيد ناحية حيفا إلى سنجق اللجون، وعاجل ظاهر العمر في السابع والعشرين من مايو 1761م بحملة بحرية صغيرة توجهت ناحية حيفا في محاولة خاطفة لاسقاطها، فشلت المحاولة بشكل ذريع بسبب صغر حجم القوة الموكلة بالهجوم وبسبب التجهيزات العسكرية الدفاعية التي زودت بها المدينة قبل عدة أشهر فقط. عاد عثمان باشا الجورجي ليرسل قوة برية لمحاصرة حيفا في سبتمبر 1761م ولكنها فشلت كذلك واستسلمت لقوات ظاهر العمر.

أنبأت هذه المحاولات ظاهر العمر بخطورة وضع حيفا واحتمالية خسارتها في أية لحظة، خاصة وأنها أصبحت خارج نطاق نفوذه بأمر من الباب العالي، أوعز ظاهر إلى وكيله في اسطنبول يعقوب آغا بمحاولة حث الباب العالي على تغيير رأيه بخصوص حيفا وإبطال القرار الجديد، ونجح يعقوب آغا في استصدار أمر بتعليق العمليات العسكرية التي يجريها عثمان الجورجي ضد ظاهر، في ذات الوقت أقدم ظاهر على خطوة مجنونة، فقام بهدم مدينة حيفا القديمة وأزال أبراجها وأرسل مدافعها إلى عكا، وأسس إلى الشمال منها، على بعد عدة أميال، حيفا جديدة، بسور أقوى واستحكامات أشد، وميناء أوسع وخان أكبر، في موقع استراتيجي أكثر أماناً من موقعها القديم وأكثر قرباً من عاصمته في عكا. وما أن أنهى بناء مدينته الجديدة، في حدود العام 1766م، حتى نجح وكيله يعقوب آغا أخيراً في إيجاد حل نهائي لمشكلة حيفا، وذلك بعرض احتجاج كل من ظاهر وخصمه عثمان الكرجي بخصوص حيفا على قاضٍ عثماني، وبالفعل، أجري التحكيم على يد قاضي عكا ونجحت محاججة ظاهر في كسب التحكيم، حيث قال القاضي أن ظاهر اضطر لأخذ حيفا لحفظ ماله وصون نفسه وأنه الأحق بها لكونه الأقدر على حمايتها والأكثر قدرة على الاستفادة منها. هدأت الأمور بين الطرفين لعدة سنوات بعد إنهاء هذا الخلاف، والذي عاد ليتجدد وبشكل أكثر ضراوة وشدة في بداية العقد السابع من القرن الثامن عشر، وهو ما سيأتي تفصيله في الجزء الثالث من المقال.

لم يكن الخلاف بين ظاهر وعثمان باشا الجورجي يقتصر على المواجهة العسكرية أو الديبلوماسية فحسب، فقد قام كلاهما بنشاط استخباراتي داخل الأراضي الواقعة تحت حكم وسيطرة الآخر، فقد ذكرت بعض المصادر أن ظاهر قام بدعم ثورات سنجقي غزة والرملة ويافا ضد الحكم المركزي لإيالة دمشق خلال النصف الثاني من ستينات القرن الثامن عشر مستغلا علاقته الجيدة مع عدد من القبائل البدوية التي كانت تنتشر مضاربها قرب المدن الرئيسية لكلا السنجقين، وكذلك قام عثمان الجورجي بدعم بعض التمردات التي قادها - ضد ظاهر - بعض أبناءه خلال فترة الستينات من القرن الثامن عشر، وأوعز لبعض القوى المحلية في بلاد الشام بدعمهم ووعدهم بتوفير الغطاء السياسي لهم في حال استطاعوا إقصاء أبيهم من الحكم، فعلى سبيل المثال، دعم عثمان الجورجي - بالإضافة إلى متاولة جبل عامل بزعامة ناصيف نصار - ثورة علي الظاهر ضد أبيه في عام 1762م والتي انتهت بالصلح بينهما بعدما منح ظاهر لعلي التزام قرية دير القاسي، وفي 1765م ثار عثمان الظاهر على أبيه (للمرة الثانية، فقد كان قد تمرد ضد أبيه في 1752م كذلك) ولجأ إلى متاولة جبل عامل أيضا واستطاع بمساندة المتاولة الحصول على دعم عسكري لمهاجمة أبيه، وقد انتهت الحرب بين الطرفين بصلح تم برعاية الأمير منصور الشهابي وتحول العداء بين ظاهر والمتاولة إلى حلف قوي، وسيرد تفصيل العلاقة بين ظاهر والمتاولة في الجزء الثالث. يُضاف أخيرا أن عثمان باشا الجورجي دعم كل من علي وسعيد أبناء ظاهر في تمردهما على أبيهما عام 1776م إثر مطالبتهما بإلتزام مزيد من الأراضي والقرى وتحقق الصلح بينهم وبين أبيهم بعد عدة أشهر من الخلاف، وعاد علي الظاهر لإشعال فتيل تمرد جديد ضد أبيه في 1770م وتحصن في قلعة صفد بعد أن حاصرته قوات أبيه بدعم من المتاولة، وانتهى الحصار والخلاف فورًا بعدما علم الطرفان أن عثمان باشا الجورجي كان يخطط للتحرك عسكريًا ضد ظاهر بشكل مباشر، فأنهيا الخلاف وعاد علي إلى الخضوع لسلطة أبيه من أجل مواجهة التحدي الجديد.

ستتداخل الكثير من العوامل في المرحلة القادمة من الصراع بين ظاهر والسلطات العثمانية وسيصبح النزاع بينهم أكثر تعقيدًا وستشهد السنوات الخمس التالية تلاحقًا سريعًا للأحداث وحجمًا كبيرًا من التحديات التي لم يعهدها ظاهر مثيلها من قبل، وتفصيل ذلك سيكون محتوى الجزء الثالث من هذا المقال.



(1) أحمد آغا الدنكزلي، كان قائداً للمرتزقة المغاربة لدى الشيخ أحمد الحسين قائد قلعة جدين ومتسلمها، والذي خسر قلعته لصالح ظاهر العمر في ثلاثينيات القرن الثامن عشر، ويُقال أنه عندما دخل ظاهر بقواته المدعومة من عرب الصقر إلى القلعة لم يجد فيها سوى أحمد الدنكزلي الذي كان شاباً حديث السن ولكنه ذو خبرة واسعة بالعمل العسكري، فألحقه بقواته وما لبث أن عينه قائداً عليها.

(2) كما مر وسيمر معنا فإن ظاهر العمر لم يخسر في حياته معركة واحدة خاضتها قواته على الإطلاق، سواء كانت تحت قيادته أو قيادة آخرين من حاشيته، إلا عندما تواجه مع الجيوش الجرارة للمملوك المصري محمد بك أبو الذهب قبل نهاية إمارته بفترة قليلة.

(3) كانت مالطا في ذلك الوقت تحت حكم منظمة "فرسان مالطا" الدينية الكاثوليكية والذين كانوا امتداداً لمنظمة "فرسان الاسبتارية" التي تشكلت في فلسطين إبان الحملة الصليبية الأولى، معظم فرسانها من الفرنسيين وقد كانت ترى في مهاجمة المصالح التجارية العثمانية واجباً دينياً باعتبارهم أعداء للعالم المسيحي.

(4) تذكر بعض المصادر أن أسعد باشا العظم قد عُزل عن دمشق في 1757م، ولكن الأدق أن عزله كان في 1755م، حيث عزل عن دمشق ليُنقل إلى إيالة حلب ويستمر في حكمها لمدة سنتين قبل أن يقرر الباب العالي نقله إلى مصر، ولكن أهالي حلب كاتبوا الباب العالي يرجونه الإبقاء على أسعد باشا لما لاقوا من عدله وحسن معاملته، فأبقاه الباب العالي في مكانه لشهور قليلة قبل أن يعزله وينكل به وينفيه ثم يعدمه في أنقرة بسبب اتهام حسين باشا المكي، والي دمشق الجديد، له بالمسؤولية عن الهجوم على قافلة الحج الشامي في 1757م.

(5) اليرلية Yerliyya: قوات عثمانية محلية تأتمر بأمر الولاة العثمانيين في الأقاليم المختلفة وتوازي مكانتها مكانة قوات الانكشارية في اسطنبول، وكانت قوات الانكشارية أو الينيارجية (بمعنى: الجيش الجديد) فرق من المشاة تشكلت داخل الدولة العثمانية بأمر من السلطان أورخان الأول وزاد نفوذها وتدخلاتها في الشؤون السياسية.

(6) عثمان باشا الجورجي أو الكرجي (نسبة للكرج، وهي التسمية العثمانية لجورجيا)، كان مملوكاً لأسعد باشا العظم، غدر بسيده لدى الباب العالي ووشى بأماكن خزائن ثرواته جميعها وسلمها للباب العالي ولم يستبق منها شيئا لنفسه حتى يحصل على رضى السلطان، والذي أطلق عليه لقب "الصادق" وعينه لفترة وجيزة والياً على طرابلس (يناير 1760) ثم قام بنقله إلى إيالة دمشق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق