الناصرة العثمانية: صفحات من التاريخ السياسي

كنيسة البشارة للروم الأرثوذكس في الناصرة
تملك الناصرة أهمية مركزية بالنسبة للمسيحيين حول العالم باعتبارها موطن المسيح ومكان بشارته ونشأته، كما تملك موقعًا استراتيجيًا هامًا كبوابة شرقية لمرج ابن عامر أخصب مناطق فلسطين وبلاد الشام، بخلاف وقوعها على طريق القوافل التجارية الواصل بين دمشق ووسط وجنوب فلسطين، وقد أهلها موقعها لأن تكون مدينة تجارية مهمة وواحدًا من "الموانئ الداخلية"[1] في بلاد الشام، وهو الأمر الذي لم يحدث بالفعل إلا في وقتٍ متأخر من وقوعها تحت الولاية العثمانية (منتصف القرن الثامن عشر)، وبخلاف الموانئ الداخلية الأخرى في سورية العثمانية التي ارتبطت بشبكات تجارية إقليمية وقعت في معظمها داخل الفضاء العثماني، فإن الناصرة قد نهضت اقتصاديًا بسبب قربها من موانئ الشمال الفلسطيني النشطة التي كانت مسرحًا هامًا للتجارة الدولية بين أوروبا وبلاد الشام، وقد تزامنت نهضة الناصرة مع نجاح مجموعة من أعيان الجليل في القرن الثامن عشر من تأسيس شبكة دولية للتبادل التجاري ربطت بين فلسطين كمصدرٍ للمحاصيل التجارية والمواد الخام وبين أوروبا كمصدرٍ للبضائع الاستهلاكية، وقد شهدت الناصرة خلال هذه الفترة صراعًا ناعمًا على النفوذ بين جهات عدة، محلية وإقليمية ودولية، حسمه الأعيان المحليون في الجليل بقيادة عشيرة الزيادنة وزعيمها ظاهر العمر، الذين تمكنوا من فرض سيطرتهم على الناصرة وتحويلها من بلدة مهملة إلى مركز تجاري قوي.

تعرضت الناصرة الصليبية لتخريب ممنهج على يد المماليك ضمن سياسة وضعها السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس لإنهاء جميع مظاهر الوجود الصليبي في سورية، وقد تقلص تعداد السكان في المدينة المقدسة بعد استخلاصها من يد الصليبيين، حيث كان معظمهم من اللاتين الكاثوليك، فيما تهدمت المعالم الدينية في المدينة، وأهمها كنيسة البشارة اللاتينية التي بناها الصليبيون أنفسهم، بسبب انعدام جهود الصيانة تقريبًا، وعندما انتقلت الناصرة، لولاية العثمانيين في بداية القرن السادس عشر، لم يكن تعداد سكان الناصرة بحسب الإحصاءات العثمانية يتجاوز عدة مئات[2] على أقصى تقدير، جُلُّهم من المسلمين، فيما تقلص الوجود المسيحي في البلدة إلى عدة عشرات من السكان فحسب.

أمست الناصرة العثمانية ظلًا باهتًا للمدينة الصليبية المزدهرة، إلا أن الثقل الديني للمدينة قد أعادها إلى دائرة الأضواء مرة أخرى عندما استخدمته الحكومة الفرنسية ذريعة للبحث عن موطئ قدمٍ لها داخل سورية من أجل توطيد علاقاتها الاقتصادية بالمنطقة، وناضلت فرنسا عبر دبلوماسييها في إسطنبول وسورية وبالتعاون مع منظمات الرهبنة الفرنسيسكانية؛[3] أولًا من أجل فرض سيطرة على الناصرة، وثانيًا من أجل تمكين الناصرة من النفاذ إلى أراضي مرج ابن عامر الخصبة لاستغلالها لزراعة محاصيل فرنسا التجارية. أرسل الرهبان الفرنسيسكان عدة بعثات إلى الناصرة ولم ينجح أي منها في تأسيس وجود دائم في البلدة بسبب رفض السكان المسلمين وتعاملهم العنيف مع الزائرين المسيحيين، الأوروبيين منهم على وجه الخصوص، وقد تمكنت الديبلوماسية الفرنسية من استصدار فرمان في 1546 يمنح الحق لمنظمة أوصياء الأرض المقدسة (إحدى الجمعيات التابعة للتنظيم الفرنسيسكاني) بإعادة بناء كنيسة البشارة اللاتينية المهجورة منذ تفكيك المملكة الصليبية، وهو الذي ظل حبرًا على ورق حتى الربع الأول من القرن التالي لذات الأسباب.

بالطبع فإن فرنسا لم تكن لتتمكن من التدخل على هذا النحو داخل أراضي الإمبراطورية العثمانية بدون غطاء سياسي، والذي وفرته اتفاقيات الامتيازات التي وقعتها باريس مع إسطنبول، كان يفترض بهذه الاتفاقيات أن تمنح فرنسا نفاذًا حرًا إلى أسواق الإمبراطورية مع تسهيلات جمركية وضريبية، لكنها منحتها كذلك الحق في ممارسة الضبط القضائي على رعاياها داخل الإمبراطورية (وكان معظمهم من التجار والديبلوماسيين) عوضًا عن المحاكم العثمانية، وقد كان يحلو لفرنسا تفسير هذا الحق إذا ما واتت الظروف بشموليته لكل سكان الإمبراطورية من الكاثوليك، بما يشمل الأجانب منهم (وبخاصة رجال الدين)، أما مؤاتاة الظروف فقد ارتبطت هنا بعاملين أساسيين، ضعف السلطة المركزية من جهة وما نتج عنها من تقوية مركز الأعيان المحليين داخل الإقليم السوري[4] من جهة أخرى، والذي انعكس في ذات الوقت على علاقات فرنسا بالمنطقة، والتي تعززت عبر قنوات اتصال خلفية، غير رسمية أو شبه رسمية، أنشأت بعيدًا عن سيطرة الباب العالي، وإن لم تكن بعيدة عن مراقبته، لكن في نفس الوقت الذي بدأت تتضاءل فيه قدرة الباب العالي على التدخل على الأرض في الإيالات والأقاليم البعيدة عن مركز الإمبراطورية، فإن قدرته على منع القوى الأجنبية على ممارسة التدخل دعمًا لمصالحها قد تقلصت بالتبعية.

كنيسة البشارة للاتين في الناصرة
كانت فرنسا قد أقنعت الباب العالي برفع درجة التمثيل الديبلوماسي الفرنسي عبر نشر المزيد من البعثات في مدن الإمبراطورية (عواصم الإيالات الساحلية تحديدًا) مع مطلع القرن السابع عشر، فنشأت قنصلية في طرابلس، واستجاب التجار العاملون تحت سلطة القنصل الطرابلسي لدعوة الزعيم المتمرد فخر الدين المعني الثاني أمير جبل لبنان فنقلوا جزءًا من تجارتهم إلى صيدا وعكا، الخاضعتين لحكم المعني، بعد العام 1618، وتحسنت أوضاع الكاثوليك في الناصرة خاصة مع استصدار المعني لقرار قضائي من محكمة صفد يمنح جمعية أوصياء الأرض المقدسة صك ملكية للموقع التاريخي لكنيسة البشارة اللاتينية، والذي جعل من وجود الجمعية في الناصرة رسميًا ودائمًا، وبالنسبة للمعني العائد بقوة بعد عدة سنوات من النفي في أوروبا فإن الدعم الديبلوماسي الفرنسي قد شكَّل حجر زاوية في علاقته مع الباب العالي وسلطته المتهالكة في سورية، ومهد له لفرض سيطرته على جبل عامل وجبال الجليل بالإضافة إلى معظم المناطق البدوية في إيالة دمشق، وتثبيتها  رسميًا بتفويضٍ من الباب العالي، وفي سبيل ذلك وطد المعني علاقته التجارية بالفرنسيين، وأنفق بنفسه على إعادة ترميم كنيسة البشارة اللاتينية، وتوسط بين الفرنسيسكان والبطريركية المارونية في جبل لبنان من أجل إرسال بعض العائلات المسيحية إلى الناصرة للمساعدة في إعادة البناء، كما أنه فرض سيطرته على الأغلبية المسلمة في البلدة، فكف أيديهم عن المسيحيين ومنعهم في ذات الوقت من ترك البلدة والاستمرار في العمل في أراضيها.

استعادت السلطات سيطرتها على مناطق نفوذ فخر الدين المعني بعد هجوم كاسح شُن على إمارته في 1633، وقد ضيق رجال الدولة في سناجق صفد واللجون (جنين) ومقاطعات الموانئ في صيدا وعكا على التجار والديبلوماسيين الفرنسيين، وطال تضييقهم بالطبع ممثلي الرهبنة الفرنسيسكانية في الناصرة، وقد وقعت البلدة في ذلك الوقت (1633 – 1677) تحت سيطرة أمراء آل حارثة (أو طراباي) حكام سنجق اللجون والذين مارسوا اضطهادًا ممنهجًا بحق سكانها الكاثوليك، فألقي أمير اللجون (ابن طراباي) القبض على رئيس الرهبان الفرنسيسكان في الناصرة، وفرض على كنيسة البشارة اللاتينية ضرائب إضافية (حتى أنه ألزمهم بدفع ضريبة مقابل الحق في ضرب أجراس الكنيسة)، فيما منح تسهيلاتٍ لأخوية القبر المقدس للروم الأرثوذكس (تأسست في القدس في 1534)، وقد كان الأرثوذكس الذين بدأوا بالتوافد على الناصرة بالتزامن مع منتصف القرن السادس عشر على أقصى تقديرٍ قد لاقوا في بداية مجيئهم إلى الناصرة ترحيبًا من الفرنسيسكان بهدف "تكثير العنصر المسيحي" في البلدة، لكن سرعان ما انقلب الأمر إلى مزاحمة بين الطرفين على الأماكن المقدسة، وبينما نقل الكاثوليك دار عبادتهم إلى كنيسة البشارة اللاتينية، فإن الأرثوذوكس حاولوا الاستيلاء على أطلال كنيسة الملاك جبرائيل (أو كنيسة البشارة للروم الأرثوذوكس) الموجودة بالقرب من عين العذراء، وقد حاولت الرهبنة الفرنسيسكانية إزاحة الأرثوذكس من البلدة خلال سنوات حكم فخر الدين المعني، وقد انقلبت الآية رأسًا على عقب بعد تفكيك إمارته، واستمر النزاع بينهم قائمًا طيلة عقود، ومن الجدير بالذكر أن سلوك (آل طراباي) تجاه الفرنسيسكان في الناصرة لم يكن استثناءً، فقد لاحق العثمانيون النشاط الفرنسي في سورية، وراقبوا بعين ثاقبة تحركاتهم واتصالاتهم بالقوى المحلية من أجل منع تكرار نموذج فخر الدين المعني، وعلى سبيل المثال، فقد شنق العثمانيون حسين آل رضوان حاكم غزة في 1663 بسبب ارتباطاته بالفرنسيين والتسهيلات التجارية التي منحها لهم، وذلك على الرغم من كونه سليل إحدى أكثر الأسر الحاكمة في سورية ولاءً للباب العالي.

انتهت سيطرة آل طراباي على الناصرة بانتهاء دورهم كحكام لسنجق اللجون في 1677، وانتقل النفوذ على الناصرة تدريجيًا إلى مشايخ جبل نابلس والذين تعاملوا مع الناصرة باعتبارها بندرًا (بلدة سوق) ومحطة على طريق القوافل الرئيسي المار بجسر بنات يعقوب والواصل بين دمشق وفلسطين، وقد امتدت حدود جبل نابلس ونفوذ مشايخه حتى سنجق اللجون نفسه، واستمر النابلسية في كبح جماح القوى المحلية في الناصرة، وضيقوا عليهم الخناق عبر منعهم من توسيع رقعة نشاطهم الزراعي. ومن الجدير بالذكر هنا أن السلطات العثمانية قد استفادت من ميزات التقسيم الإداري للإيالات من أجل خنق الناصرة منذ وقت مبكر وحصرها داخل حيز محدد، فالبلدة كانت على الدوام جزءًا من سنجق صفد، فيما كان برها الداخلي وامتدادها الطبيعي المتمثل في مرج ابن عامر جزءًا من سنجق اللجون، وفي العام 1660 أسس العثمانيون إيالة شامية جديدة في صيدا، شملت حدودها سنجق صفد وبلدة الناصرة، فيما ظل سنجق اللجون جزءًا من إيالة دمشق، لقد ساعد تأسيس الإيالة الجديدة الفرنسيين على تأسيس قنصلية في صيدا ساعدتهم على الاقتراب أكثر من المنطقة مثلما كان الحال خلال سيطرة المعنيين عليها، وقد وصل بهم الأمر للنجاح في تعيين بعض تجارهم ملتزمين على الناصرة (حكام محليين وجامعي ضرائب بالوكالة عن الدولة) ومشاركتهم كذلك في التزام عكا نفسها، لكن التقسيم الإداري نفسه صعَّب عليهم تسخير هذه المواقع من أجل الاستفادة من أخصب مناطق فلسطين على الإطلاق (مرج ابن عامر)، وعلى العكس، فإن هذا العائق الإداري لم يقف في طريق امتلاك مشايخ نابلس وآل طراباي من قبلهم اليد الطولى في الناصرة، بما يتوافق بالطبع مع مصالح الباب العالي وأهدافه.

حاول فلاحو الناصرة الذهاب للزراعة في مرج ابن عامر، وقد واجههم المشايخ النابلسية بمنتهى الصرامة، ونجح الفرنسيون في نقل النزاع على المرج إلى القضاء، واستصدروا في 1712بعد مداولات استمرت فترة طويلة حكمًا من محكمة جنين الشرعية يقضي بضم ما مساحته 10 كيلومترات من شمال المرج إلى حدود سنجق صفد، وتمكين فلاحي الناصرة بالتبعية من الزراعة فيها، وهو القرار الذي ظل حبرًا على ورق بسبب صعوبة إنفاذه على الأرض، لم يتمكن الفرنسيون من مجاراة القوى المحلية في لعبة النفوذ والسيطرة، على أن هذا الوضع كان على وشك التغير في ثلاثينات القرن الثامن عشر، إذ ظهر الزيادنة في الجليل، وهم عشيرة صغيرة وقوية تمكنت عبر قائدها الشاب والمحنك ظاهر العمر من توحيد الجليل تحت راية واحدة بعد عقود من الفراغ السياسي، وقد بدا واضحًا أنه أمل الفرنسيين الوحيد في رفع يد النابلسية عن الناصرة وربطها مجددًا بمرج ابن عامر.

استولى ظاهر العمر على الناصرة بحدود العام 1735 بعد أن وحَّد معظم الجليل تحت سلطة عائلته السياسية، وقد استفاد العمر من ضعف ولاة الدولة في صيدا وتمكن من إقناعهم بترسيم خطواته التوسعية بما في ذلك استيلائه على الناصرة، والتي كانت أول اختبارٍ حقيقي لسلطته الناشئة، إذ طرد منها النابلسية وحرمهم من عائدات ضرائبها كما منعهم من استخدامها لتسويق بضائعهم أو كمحطة لقوافلهم المتوجهة من وإلى دمشق، ولم يلبث النابلسية كثيرًا قبل أن يتداعوا إلى قتال الزيادنة في معركة شرسة قرب قرية المنسي (على حافة سهل مرج بن عامر) لاقوا فيها الهزيمة وقتل خلالها كبيرهم الشيخ إبراهيم الجرار.

لاقى العمر دعمًا فرنسيًا (على الأقل حتى بداية أربعينات القرن الثامن عشر) بسبب سيطرته على مساحات واسعة من الأرض في الجليل، والذي عنى بدون شك تحويله إلى أكبر شريكٍ تجاري للفرنسيين في المنطقة، غامر الفرنسيون ببيع السلاح للعمر بناء على نصائح من نائب القنصل الفرنسي في عكا رغم ما قد يتسبب به ذلك من أزمة ديبلوماسية مع إسطنبول، وقد أملوا في أن يساعدهم العمر في ضبط أسعار المحاصيل التجارية في الجليل (وبخاصة القطن والحبوب) والتي كانت في ارتفاع جنوني بسبب مضاربات التجار الفرنسيين أنفسهم واستغلال مشايخ الفلاحين والملتزمين للطلب المتزايد على المحاصيل في السوق الفرنسي، كما أنهم أملوا كذلك في الحصول على مساعدة العمر فيما فشل فيه من سبقوه، فخر الدين المعني وحسين آل رضوان على وجه الخصوص، وهو ترسيخ سلطة فرنسية على الأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين. لم يكن العمر ينتوي بأي حال أن يصنع من نفسه رجلًا لفرنسا في سورية، لكنه على الرغم من ذلك سعى للتقرب منهم خلال الفترة المبكرة من حكمه، فمنح إذنًا للرهبان الفرنسيسكان بتوسيع كنيسة البشارة اللاتينية، كما منحهم التزام الناصرة وثلاثة قرى أخرى داخل مرج ابن عامر.

على الرغم من ذلك، بدأت الخلافات بين الطرفين تتصاعد في وقتٍ مبكر من أربعينات القرن الثامن عشر، فالعمر لم يضبط أسعار القطن بل فرض احتكارًا على تجارته لاستفادته الخاصة، وضبط وجود التجار الفرنسيين في الجليل وحصره داخل الأسواق الرسمية في الموانئ، ونصب نفسه وكيلًا أوحدًا لتجارة الجليل الدولية والإقليمية، وعلى النقيض من فخر الدين المعني الذي قدَّم تنازلات لصالح الفرنسيين للحصول على دعمهم الديبلوماسي، فإن العمر سعى للاستفادة من الديبلوماسية الفرنسية عبر فرض نفسه كحاكم للجليل وممثل أوحد له بما يتجاوز القنوات الرسمية في إسطنبول، وقد استغل العمر أهمية الناصرة عند الفرنسيين وحولها إلى واحدة من ساحات صراعه الديبلوماسي معهم في سبيل تحقيق أهدافه.

لقد أدرك العمر أهمية الناصرة بسبب موقعها الاستراتيجي المميز، فباستيلائه عليها سيضمن نفاذًا إلى قطاع محوري من خط القوافل النشط الواصل بين دمشق ووسط فلسطين، وهو تقريبًا الخط الوحيد الذي جهزته الدولة من أجل السفر بين المنطقتين عبر إنشاء مجموعة من قلاع الحراسة وخانات المسافرين على طول مسافته، ويمر عبره قسم كبير من تجارة دمشق الإقليمية مع فلسطين ومصر (حيث يُصدَّر بعضٌ من بضائعها إلى الأخيرة عبر مرفأ يافا)، وباستيلاء العمر على الناصرة فقد ضمن التحكم بمصير قسم كبير من تجارة جبل نابلس التي لم تكن قد ولجت إلى معترك التجارة الدولية بعد كما الجليل ولا زال اعتمادها على التجارة داخل الفضاء العثماني. بالإضافة إلى ذلك فقد تميزت الناصرة بكونها مدينة مقدسة عند جميع الطوائف المسيحية، وبإدراك العمر لكم النفوذ الذي قد تمنحه البلدة للفرنسيين (رعاة الكاثوليك في فلسطين) فقد ضمن باستيلائه عليها إمكانية تجنيد الطوائف المسيحية المختلفة كجماعات وظيفية تقوم بدورٍ ضاغطٍ مضادٍ للوجود الفرنسيسكاني في البلدة، أسس العمر سرايا في الناصرة (دار للحكومة) استخدمت كذلك مقرًا لإقامته وإقامة زوجته الأولى، حيث اعتاد أن يقضي في الناصرة شهرين على الأقل كل عام، وقد عزز البلدة اقتصاديًا عبر دعم نشاطها الزراعي ووصل ما بينها وبين الأراضي الخصبة في مرج ابن عامر، كما اتخذها خطًا أولًا للدفاع عن الحد الجنوبي لإمارته بجانب مجموعة من القلاع المنتشرة على طول مرج ابن عامر، واستخدمها كمخزن للدعم اللوجستي ومكان لتجمع قواته المسلحة في أوقات الحرب.

كان العمر قد اكتسب سمعة في جميع أنحاء سورية كحامٍ للأقليات وحافظٍ للأمن ما شجع رعايا الدولة على الهجرة إلى مقاطعته، وقد شجع العمر هجرة المسيحيين بشكلٍ خاص إلى الناصرة، فازداد تعدادها السكاني أضعافًا وساعد ذلك على إنهاض البلدة اقتصاديًا خاصة في ظل تحول المنطقة إلى نقطة تبادل تجاري دولي، وهو الأمر الذي انعكس بالإيجاب، لا على تعداد سكان البلدة فحسب، بل على تنوع النشاط الاقتصادي فيها، مع ازدياد أعداد الحرفيين والتجار، كما ظهر تأثيره بوضوح على تطور البلدة العمراني، فتحولت من بلدة ريفية إلى حاضرة مدينية عامرة، وواحدة من أكثر مدن الجليل أهمية واكتظاظًا.

كانت أول استجابة للعمر لأول خلافاته التجارية مع الفرنسيين هي معاونته للطائفة الأرثوذكسية في مسعاها لاستعادة السيطرة على كنيسة الملاك جبرائيل (كنيسة البشارة الأرثوذكسية)، كان الموقع الذي بُنيت عليه الكنيسة يقع بالقرب من عين العذراء المقدسة، وقد استخدمه الفرنسيسكان كمحلٍ للعبادة في بداية وصولهم إلى الناصرة في بداية القرن السابع عشر، وقد شجعوا الأرثوذكس على مشاركتهم الصلاة في نفس المكان بهدف زيادة التعاضد بين المسيحيين في البلدة،  وسرعان ما نشب الخلاف بين الطائفتين على أحقية كل منهما بالموقع المقدس، وظل المكان تحت سيطرة الرهبان اللاتين حتى العام 1741 حيث انتزعه ظاهر العمر منهم وسلم مفاتيحه لمطران عكا للروم الأرثوذكس والذي سعى لإعادة ترميم الكنيسة القائمة ونجح في مسعاه في حدود العام 1750.

بعد مضي حوالي العقدين، سمح العمر للمارونيين ببناء كنيسة جديدة للطائفة في 1769، ويبدو أن العمر قد طمح إلى تشتيت المجموع الكاثوليكي في البلدة بين أكثر من كنيسة، بعد أن كان خاضعًا بمجمله للرهبان الفرنسيسكان، وبعد أقل من سنة منح إذنًا لطائفة الملكيين الكاثوليك ببناء كنيسة جديدة في البلدة على موقعٍ تاريخيٍ لكنيس يهودي تلقى فيه السيد المسيح التعليم خلال طفولته، وجدير بالذكر أن نشأة الملكيين الكاثوليك في الناصرة قد ارتبطت بانقسام داخل مجتمع الروم الأرثوذكس في الناصرة في 1741 تحولت على إثره بعض العائلات الأرثوذكسية إلى المذهب الكاثوليكي، وظلت منذ ذلك الوقت في حماية الفرنسيسكان وخاضعة لسيطرتهم.

كان لظاهر العمر دور محوري في ترسيخ جميع العوامل التي ساهمت في تحديث الناصرة خلال القرن الثامن عشر وتحويلها إلى مدينة مركزية في الجليل، ويُعزى إليه الفضل في بناء الناصرة الحديثة، وهو ذات ما صنعه مع بلدات أخرى كعكا وحيفا وطبرية، حيث تطورت حضريًا في عهده وامتلكت تأثيرًا متعاظمًا في السياسة المحلية في الإقليم العثماني السوري، ظل مستمرًا حتى بعد مقتل ظاهر العمر وانتهاء إمارته في 1775، وباختصار، يمكن القول ظاهر العمر قد نجح في "وضع الناصرة على خارطة فلسطين".


[1] المقصود هنا المدن التي شكلت محطات هامة للتبادل التجاري وجزءًا رئيسيًا من طرق القوافل البرية التجارية، سواء الواقعة داخل إقليم واحد أو الواصلة بين عدة أقاليم، وقد كانت نابلس ودمشق أهم الموانئ الداخلية في سورية العثمانية بالإضافة إلى حلب التي كانت محطة تجارية دولية وإحدى أغنى مدن الإمبراطورية العثمانية على الإطلاق.
[2] بحسب إحصاء العام 1556 فقد كان في الناصرة 232 خانة (أسرة) منها 17 خانة مسيحية.
[3] منظمات فرنسيسكانية إيطالية المنشأ تأسست في مطلع القرن الثالث عشر على يد القديس فرانسيس الآسيزي تحت مظلة الكنيسة الكاثوليكية، وتتبع اتجاهًا مرتبطًا بالتعاليم الروحية لمؤسسها.
[4] يمكن الاطلاع على تحليل مفصل لطبيعة العلاقة بين السلطة المركزية العثمانية والأعيان المحليين في السياق الفلسطيني في دراستي عن فلسطين في القرن الثامن عشر المنشورة في موقع باب الواد: اضغط هنا.