ملك ما بين البحرين .. ظاهر العمر الزيداني - الجزء الرابع

خريطة طبيعية لمنطقة غرب وجنوب غرب بلاد الشام

استعرض الجزء السابق من المقال المرحلة الثانية من الصراع ما بين ظاهر العمر الزيداني والوالي الدمشقي عثمان باشا الجورجي، وذلك بعد أن أتم ظاهر تحالفاته العسكرية مع كل من المتاولة في جبل عامل وقائمقام مصر علي بك الكبير، وانتهى المقال عند ذكر نهاية حقبة عائلة عثمان باشا الجورجي (عثمان وابنيه محمد والي طرابلس ودرويش والي صيدا) في إيالات الشام في هزيمتين متتاليتين تلقاهما على يد محمد بك أبو الدهب مملوك علي بك الكبير وظاهر العمر الزيداني مع حلفائه من المتاولة، حيث استبدل الباب العالي أخيراً عثمان الجورجي في أكتوبر1771م بوزير جديد من آل العظم، هو محمد باشا، والذي تم تعيينه جنباً إلى جنب مع وزير آخر، هو عثمان باشا المصري، والذي تم تكليفه من السلطان بمنصب والي مصر وساري عسكر إيالة دمشق وأمره بحسم الوضع الميداني المتوتر في إيالتي دمشق وصيدا والانطلاق نحو مصر لإعادة السيطرة عليها وانتزاعها من الحاكم المتمرد علي بك الكبير، مانحاً إياه كل ما يحتاج إليه من صلاحيات.

تتعقد الأمور بعد عزل الجورجي عن إيالة دمشق، ولم يكن ينقص الوضع أي تعقيد من الأساس، فها هو ظاهر يتعدى على دمشق وينتصر على ولاتها المرة تلو المرة، ويستعديه وزراء بلاد الشام، وهو على وشك خسران حليفه القوي علي بك الكبير، كما أن الوضع الاقتصادي المتردي في إيالته جعله غير قادرٍ على دفع مال الميري، والذي بدأ بكسره منذ العام 1770م، كان مال الميري في كثير من الأحيان، الحد الفاصل بين رضى الدولة وسخطها عن ظاهر، وكان التزامه بدفعه باستمرار في موعده المحدد سبباً في تغاضي الدولة عن كثير من تجاوزاته، لا تزال الدولة العثمانية في غياهب الحرب مع الامبراطورية الروسية، والتي استطاعت أن تهزم الأسطول العثماني في معركة تشسمي Chesme البحرية في يونيو 1770م واستطاعت بواسطة أسطولها القوي السيطرة على حوض البحر المتوسط ومنافذ البحر الأسود ومنع أي قطع بحرية عثمانية من التحرك نحو إيالات الدولة الجنوبية. يرجو كاتب المقال من القارئ الصبر والتأني أثناء القراءة بسبب تعقيدات المشهد الذي يحاول المقال عرضه ومناقشته، وبسبب تنقل الكاتب في السرد بين عدة خطوط في كل منها جبهة مختلفة، متتبعاً التسلسل التاريخي ما أمكنه، وقد اختبر ظاهر العمر وحلفاؤه على المستويين السياسي والعسكري أصعب وأعقد  فترة مرت بها إمارته على الإطلاق.

بعد هزيمة أبيه في معركة الحولة، قرر والي صيدا، درويش باشا الجورجي، الهرب من صيدا في أسرع وقت، تلفت حوله فلم يجد في إيالته كلها من حليف له سوى فريق من الأمراء الشهابيين يرأسهم الأمير الشاب يوسف بن ملحم الشهابي، فأرسل له طالباً منه العون والنجدة، وأرسل لأبيه في دمشق طالباً منه إمدادتٍ عسكرية ولوجستية لدعم صمود صيدا في وجه ظاهر والذي لم يكن يفصله عن صيدا وحصارها سوى مسافة أيام قليلة. أرسل عثمان باشا الجورجي بعض الامدادات لابنه في صيدا، وأرسل أوامر للأمير يوسف الشهابي بحماية المدينة وبعمل اللازم للتصدي لظاهر وحلفائه ومحاربته بأي طريقة كانت، فوجد يوسف الشهابي فرصته لمقاتلة أعداء عائلته التقليديين (المتاولة) وجرد جيشاً قوامه عشرون ألف جندي وتحرك على رأسه قاصداً مدينة النبطية.

من المهم هنا التوقف قليلاً والعودة إلى الوراء لاستعراض الظروف التي حكمت طبيعة العلاقات بين ظاهر العمر والأمراء الشهابيين، فقد مر في المقال السابق أن الأمير إسماعيل الشهابي أمير وادي التيم وبالتعاون مع بعض مشايخ الدروز قد قام برعاية التحالف الذي تم عقده بين الزيادنة والمتاولة، وقد يكون من المستغرب أن يقوم أمير شهابي برعاية اتفاق بين ظاهر والمتاولة ويقوم آخر باستعدائهم ومحاربتهم، ربما يكون من المفهوم أن يحظى ظاهر العمر والزيادنة بعلاقة مميزة مع الشهابيين لسببين، الأول؛ هو أن جد ظاهر صالح الزيداني عُيِّن ملتزماً في سنجق طبرية بواسطة الأمراء الشهابيين وتحت رعايتهم، والثاني؛ أن الزيادنة - كالشهابيين - قيسيون يشتركون في ذات الانتماء القبلي رغم الاختلاف الطائفي في بعض الأحيان(1)، كما أن هذه الأسباب ذاتها كونت صورة نمطية حكمت العلاقة بين المتاولة والشهابيين، فهم مختلفون قبلياً وطائفياً، لكن نهضة ظاهر وتوسعه في الجليل، وبخاصة سيطرته على ميناء عكا وأعماله العمرانية في المدينة خلقت نوعاً من التنافس على أساس تجاري بينه وبين الأمير الشهابي ملحم بن حيدر (الثالث في ترتيب أمراء الأسرة)، وربما كان هذا التنافس هو الذي دفع الأمير ملحم للسيطرة على مدينة بيروت في عام 1751م ليضمن لتجارته الخارجية ميناءً مفتوحاً على البحر المتوسط، ولم يتطور هذا التنافس الخفي إلى صراع واضح أو مواجهة مكشوفة لعدة أسباب ربما يكون أهمها وقوف جبل عامل والإمارة المتوالية في منتصف المسافة بين الشهابيين والزيادنة. بأي حال فقد بدأت الخلافات تنشأ داخل العائلة الشهابية منذ وفاه الأمير ملحم عام 1754م والذي كان يحكم الأسرة منذ العام 1729م، تولى بعد ملحم أخوه منصور بالاشتراك مع أخيه أحمد الذي توفي في العام 1762م، فاستمر منصور بحكم منفرد حتى العام 1770م حيث ظهر ابن أخيه الشاب الصغير يوسف بن ملحم (حاكم دير القمر) طالباً من عمه التنحي عن الحكم باعتباره أحق به لكونه ابن الأمير السابق، وبنشأة الخلاف بين الطرفين الذين أراد كل منهما الاستئثار بقيادة العائلة، منح كل منهما ولاءه لواحد من ولاة الشام، فنال يوسف بن ملحم دعم عثمان باشا الكرجي، ونال عمه منصور دعم محمد باشا العظم (أحد ولاة صيدا في ستينات القرن الثامن عشر، وكان على عداء مع الجورجي كما سلف ذكره)، وقد ترتب على هذا الانقسام بالتبعية ازدياد حدة العداء بين يوسف والمتاولة وذلك بسبب ما كان معروفاً من لين عمه منصور معهم وتقربه منهم في فترة إمارته. وقد طلب عثمان باشا الجورجي من يوسف الشهابي الانضمام إلى جيشه قبل معركة سعسع (راجع المقال السابق) وقد تلكأ وقتها وتأخر في الخروج، وقاتل عثمان الجورجي مع ولاة حلب وأورفة وأبناءه ولاة طرابلس وصيدا بدونه، ولما عاد الجورجي إلى دمشق بعد انسحاب محمد بك أبو الدهب المفاجئ من دمشق، خرج يوسف على رأس جيشه وتقابل مع عثمان الجورجي على بوابات المدينة، وأوضح له أنه قد أتى لنصرته ومساعدته، وأن سبب تأخره كان عقبات لوجستية واجهته أثناء جمعه لجيشه وتجيهزه للزحف إلى أرض المعركة، ولذا فقد كان يوسف الشهابي خيار عثمان الجورجي الأول لحماية صيدا بعد هزيمته الساحقة في معركة الحولة.

استنجد ناصيف نصار بظاهر العمر وأخبره بأن يوسف الشهابي على رأس جيشه يقصد به مدينة النبطية، إحدى مراكز نفوذ المتاولة، حاول ظاهر مراسلة يوسف وإثناءه عما عزم عليه ولكن مراسلته قوبلت بالرفض، واستمر زحف جيش يوسف إلى النبطية، فأنجد ظاهر حليفه ناصيف نصار وقاد قواته إلى النبطية والتقى الجمعان في معركة كبيرة في 20 أكتوبر 1771م هُزم فيها يوسف هزيمة قاسية واضطر للانساحب مع من تبقى من جيشه، توغل ظاهر مع ناصيف نصار في مناطق نفوذ الشهابيين في إمارة الشوف محاولين اللحاق بفلول جيش يوسف الشهابي، ولم يمنعهم من القضاء على جيشه، سوى تدخل الأمير إسماعيل الشهابي أمير وادي التيم والذي انتصر لأقربائه وبني عمومته ووفر لهم الحماية من ملاحقة الزيادنة والمتاولة، ترك ظاهر يوسف الشهابي والتفت لما هو أهم، فالطريق الآن إلى صيدا أصبح خالياً.

في ذات الوقت الذي كان يوسف الشهابي يهرب فيه من أمام ظاهر العمر، كانت 17 قطعة حربية مصرية تتبع لحاكم مصر علي بك الكبير تدك ميناء صيدا بالمدفعية، قام علي بك بإرسال هذه السفن في وقت سابق لظاهر ووصلت إلى ميناء يافا محملة بالمؤن والذخائر وبعض السيولة النقدية في بداية شهر أكتوبر 1771م، كما أن علي بك قد أرسل قوة برية صغيرة تعدادها حوالي 800 جندي مصري تحت قيادة مصطفى بك جاويش. هرب درويش باشا الجورجي من صيدا بعد هذه التطورات وتوجه إلى دمشق فيما توجه أحمد آغا الدنكزلي (القائد العسكري التابع لظاهر) إلى صيدا ودخلها في 23 أكتوبر 1771م ونهبتها عساكره لمدة ثلاثة أيام قبل أن يحكم السيطرة عليها ويحكمها ملتزماً معيناً من قبل ظاهر العمر. وبذا تم لظاهر سيطرته التامة على طول الساحل السوري الجنوبي من صيدا حتى غزة. وفي ذات الشهر وصل من اسطنبول قرار عزل عثمان باشا الجورجي وأولاده.

وفي وقت ما بين ختام 1771م وبداية 1772م أرسل ظاهر العمر لابنه أحمد الظاهر أوامر بالتحرك إلى شرق الأردن للسيطرة على إربد وجبال عجلون، كان ظاهر قد هاجم منطقة عجلون من قبل في 1760م لتأديب قبائل العدوان التي اعتدت على بعض قوافله المارة بالمنطقة ولكنه لم يثبت فيها حكماً ولم يرسل إليها ملتزماً من طرفه، فلم يكن الوضع السياسي والميداني مؤاتياً للقيام بتلك الخطوة، وتذكر بعض المصادر أن أحمد الظاهر أتم سيطرته على جبال عجلون وإربد في شهر فبراير 1772م وأخذ يرسل السرايا لمهاجمة ونهب قرى سهل حوران الواقع بين السويداء وبحيرة طبريا، واضطر الوالي محمد باشا العظم إلى إرسال رسالة لأحمد الظاهر يعترف فيها بسلطته كملتزم على عجلون وإربد وقراها مقابل كف يده عن قرى حوران. 

أما في مصر، فقد احتدم الصراع بين محمد بك أبو الدهب وسيده السابق علي بك الكبير إلى أقصى حد، ودون الخوض في تفاصيل، فقد انتهى الصراع بحمسه لصالح أبو الدهب، واضطرار علي بك الكبير إلى الهرب لدى ظاهر العمر في عكا ووصلها في 29 إبريل 1772م، برفقة حوالي 800 شخص من مماليكه وأفراد حاشيته، وقد نقل معه بعض أمواله وممتلكاته، وجاء إلى عكا برفقة عثمان الظاهر الذي كان مقيماً عنده منذ انسحاب محمد بك أبو الدهب من دمشق. أنجد ظاهر حليفه حاكم مصر السابق وأحسن ضيافته وانضم له مصطفى بك جاويش على رأس جنوده المصريين الثمانمئة وشارك مع ظاهر فيما بعد في جميع المعارك التي خاضها منذ دخل فلسطين وحتى قراره بالعودة إلى مصر في 1773م. كما أن محمد بك أبو الدهب في مصر عاد واستقبل والي الدولة خليل باشا (وإن بقي حاكماً اسمياً بدون سلطة فعلية) وأعاد إرسال مال الميري للباب العالي (المنقطع منذ بداية تولي علي بك الكبير للحكم في مصر) وتقرب من السلطان بإرسال الهدايا والمنح ورسائل الاعتذار عما بدر منه في السابق عندما كان تحت حكم سيده السابق علي بك، في ذات الوقت، أرسل لظاهر العمر يطلب منه إعادة المؤن والذخائر والسفن التي أرسلها علي بك إلي يافا في وقت سابق. 

كان ظاهر قد منع والي دمشق محمد باشا العظم من الخروج للدورة في المناطق الجنوبية من إيالة دمشق، وأرسل له يحذره من الاقتراب من مناطق نفوذه وإلا فإنه يعرض نفسه للحرب والقتال، ويبدو أن تهديد ظاهر قد أتى بنتيجته إذ لم يخرج محمد باشا للدورة واضطر للاستدانة والاقتراض من تجار دمشق لتمويل قافلة الحج الشامي التي كان مكلفاً بقيادتها، كما أنه أرسل لمشايخ نابلس يأمرهم بدفهم مال الميري لملتزمهم الجديد مصطفى بك طوقان، والذي كان قد عينه في وقت سابق بعد عزله لابن النمر، مع احتفاظ مشايخ آل جرار بسيطرتهم على قلعة صانور وإلتزام القرى المحيطة بنابلس، أثار تعيين ابن طوقان على نابلس سخط بقية شيوخ النابلسية خاصة وأن محمد باشا أعدم وكيلهم في دمشق (ويُدعى ابن بطبوط) بتحريض من ابن طوقان، وهنا نشهد تغيراً (لأول مرة) في مواقف بعض الشيوخ في نابلس من ظاهر العمر ونفورهم من تصرف والي دمشق رغم تفانيهم في خدمة الدولة طوال عقود، وقد كان مصطفى بك طوقان قد أرسل أخاه أحمد بك طوقان إلى يافا (وهو ملتزمها السابق) من أجل إعادة السيطرة عليها مرة أخرى، مستلغلاً الوضع الميداني المتوتر في الإمارة الزيدانية على الجبهة الشمالية بسبب الشهابيين وكذلك هروب علي بك من مصر، فتعاون أحمد طوقان مع بعض العناصر المؤيدة للعثمانيين في يافا من أجل إعادة السيطرة عليها وطرد ملتزمها كريم الأيوب المُعيَّن من قِبَل ظاهر العمر. 

في الشمال، أثارت هزيمة يوسف الشهابي في النبطية حفيظة عثمان باشا المصري وعزم على استرداد صيدا من ظاهر مرة أخرى، خاصة وأن استنجادات يوسف الشهابي لم تنقطع، فأرسل عثمان المصري جيشاً بقيادة الدالي خليل باشا والي كركوك ليعاون يوسف الشهابي في استرداد صيدا، فرض جيش الدالي خليل ويوسف الشهابي حصاره على مدينة صيدا التي تحصن فيها أحمد آغا الدنكزلي منتظراً نجدة ظاهر له، والذي أنجده فعلاً بخروجه بنفسه على رأس جيشه مستعيناً بحلفائه ناصيف نصار وعلي بك الكبير وتقابل الجمعان في سهل الغازية قرب صيدا في معركة كبيرة انتصر فيها حلف ظاهر العمر وطرد جيش الدولة والشهابيين وفك الحصار عن صيدا في 22 مايو 1772م، وقد شهدت هذه المعركة - لأول مرة - تعاوناً عسكرياً بين ظاهر العمر والأسطول الروسي في البحر المتوسط. 

كانت اتصالات ظاهر بالاسطول الروسي قد تمت عبر قناة أرساها حليفه علي بك الكبير أثناء تواجده في مصر، فبعد نجاح الاسطول الروسي في هزيمة العثمانيين في معركة تشسمي عام 1770م كما سلف ذكره ببداية المقال، اتصل علي بك بالروس مهنئاً إياهم بانتصارهم وطلب منهم التعاون من أجل القضاء على شأفة العثمانيين في بلاد الشام نهائياً، وعرض على الروس خدماته، وبعد استشارة سريعة مع حكومة كاثرين الثانية أخذ الأسطول الروسي موافقة بالتعاون مع أي متمردين في الشام ومصر من أجل تضييق الخناق أكثر على الدولة العثمانية وتصعيب الأمور عليها في جبهتها الداخلية. حاولت بعض القطع البحرية الروسية الرسو في ميناء دمياط في أبريل 1772م ، ولكن قائدها علم بهروب علي بك الكبير وسيطرة محمد بك أبو الدهب المؤيد للعثمانيين على مصر، فقامت بتحويل خط سيرها إلى يافا ورست في مينائها بالفعل في نهاية شهر إبريل 1772م وقام قائدها بمباحثات مع ظاهر العمر بواسطة مندوبه القس سمعان الصباغ واتفق مع قائد الاسطول الروسي في المتوسط على تقديم كل المساعدة الممكنة لظاهر في فك الحصار عن صيدا، والتي تمثلت في قصفها لأحدى عشرة سفينة عثمانية كانت ترابض قرب ميناء صيدا وتمنع عنها الإمداد البحري، إضافة إلى قصفها الميناء وبعض معسكرات جيش الدالي خليل خارج الأسوار. وبعد انتهاء مهمتها في صيدا توجهت إلى بيروت وقامت بمحاصرة مينائها من البحر وقصف المدينة لتضييق الخناق على يوسف الشهابي وشغله ببيروت عن صيدا، واستمر حصار القوات البحرية الروسية لبيروت إلى أن استسلم الشهابيون نهائياً بعد انقطاع المؤن في 18 يونيو 1772م وقامت القوات الروسية بالانزال في المدينة ونهبت حوالي ثلاثمئة من بيوتها ولم تتوقف أعمال النهب والتخريب إلا عندما فاوض يوسف الشهابي قيادة الأسطول الروسي ودفع غرامةً تُقدر بحوالي 15 ألف قرش عثماني. وقد كانت تلك الحادثة سابقة في تاريخ بلاد الشام في العهد العثماني، فلم يحدث من قبل أن تعاون حاكم محلي متمرد "عسكرياً" مع جيش أجنبي (من بلاد الكفار) ضد جيوش السلطان الذي يُعد بمثابة خليفة للمسلمين. حتى الأمير فخر الدين الثاني المعني ورغم علاقاته الجيدة مع بعض الدول الأوروبية إلا أنه لم يتعاون مع أي منها عسكرياً ضد جيوش الدولة.

كان مصطفى طوقان قد أرسل أخاه أحمد إلى يافا لاستعادة السيطرة عليها، وبالفعل تم له ذلك في وقت غير معلوم بدقة ما بين نهاية مايو وبداية يونيو 1772م، تحصن أحمد بك طوقان داخل المدينة وأغلق أبوابها في وجه جيش ظاهر الذي سيظهر على عتباتها في أي لحظة، قام ظاهر بالفعل بالزحف نحو يافا وضرب حولها حصاراً في يوليو 1772م واستعان بالأسطول الروسي للمرة الثالثة في تضييق الخناق على المدينة من البحر، وظلت يافا تحت الحصار حتى فبراير 1773م حيث استسلمت حاميتها ووافقت على الخروج والعودة إلى نابلس. أرسل قوة لحصار مدينة القدس تعاونت مع حلفاءه من القبائل البدوية في فرض الحصار عليها والسيطرة على القرى والجبال المحيطة بها، ترك ظاهر أمر حصار المدينة المقدسة واكتفى بسيطرته على محيطها الاستراتيجي، وما أن تم له فتح يافا مرة أخرى بعد استسلام حاميتها حتى أمر بتعيين كريم الأيوب الزيداني - مرة أخرى - ملتزماً على يافا، بالإضافة إلى بيت جبرين والخليل وجبال القدس. 

خلال هذه الفترة، كانت الدولة العثمانية قد أمرت بعزل محمد باشا العظم من منصبه كوالٍ لدمشق وعينت بدلاً منه مصطفى باشا بستانجي في سبتمبر 1772م مع تفويض بإنهاء حالة الصراع مع ظاهر العمر على الوجه الذي يراه مناسباً وتبعاً لما تقتضيه الظروف، وقد حاول مصطفى باشا التفاوض مع ظاهر العمر عبر القنصل الفرنسي في صيدا، وقد اتفق معه بالفعل على إنهاء العداء بينه وبين الباب العالي والعودة مرة أخرى في طاعة السلطان لأن السبب الرئيس في كل هذا الخلاف كان عثمان باشا الجورجي وسياسته المنفردة تجاهه، وقد اتفق ظاهر مع مصطفى باشا على أن ينال جميع ما سيطر عليه من أرض ضمن صيدا وخارجها "على سبيل المالكانة"(2) وسيلتزم هو بدفع مال الميري المكسور منذ 1770م والقيام بأعمال الجردة والدورة السنوية بشرط أن يتم تثبيت هذا الاتفاق بخط شريف (أي قرار رسمي) موقع من السلطان شخصياً، ورغم رفض أولاد ظاهر العمر لهذا الاتفاق الذي سيعيدهم ملتزمين لدى الدولة مرة أخرى بعد أن نالوا شيئاً من الاستقلال وبعد كل ما خاضوه من حروب ضدها، وسيزعزع مركزهم الاجتماعي لدى شيوخ الفلاحين، إلا أن ظاهر أصر على انفاذه، ورغم إصراره لم يُنفذ الاتفاق حيث أن آل العظم نجحوا مرة ثانية في إعادة واليهم السابق محمد باشا إلى دمشق بعد عزل الباب العالي لمصطفى باشا بستانجي في أكتوبر 1773م.

بعد استسلام يافا في فبراير 1773م وصلت لعلي بك الكبير في منفاه القسري في عكا عدد من الرسائل من بكوات وسناجق مصر يدعونه فيها للعودة مرة أخرى، وأبدوا نفورهم وتذمرهم من محمد بك أبو الدهب ودعمهم لعلي بك ووعدوه بدعمه عسكريا ضد أبو الدهب في حال قرر العودة إلى مصر مرة أخرى، وهو الذي يقرره علي بك بالفعل بالرغم من نصائح ظاهر بالتروي وعدم الانجرار إلى رسائل غير موثوقة المصدر، خاصة مع وجود احتمالية كون الأمر مجرد خدعة من أبو الدهب نفسه. أصر علي بك على الخروج واقترض من ظاهر بعض المال وعاد مع قواته بصحبه مصطفى بك جاويش وأمر ظاهر ابنه صليبي وابن عمه كريم الأيوب الزيداني ملتزم يافا بالخروج بصحبة علي بك وضمان سلامته، وصل علي بك إلى بلدة الصالحية (في محافظة الشرقية في مصر حالياً) وفُوجئ بمحمد أبو الدهب ينتظره على رأس جيش كبير عاجلهم بهجوم خاطف قُتل فيه أغلب الجنود المرافقين له وقتل صليبي الظاهر فيما أُسر علي بك نفسه جريحاً ونُقل إلى القاهرة واستطاع كريم الأيوب الهرب مع نفرٍ قليل من عساكره إلى غزة، وبعد سبعة أيام قضى علي بك نحبه (إما قتلا أو بتأثير إصابته) وبذا أحكم أبو الدهب سيطرته على مصر وحيَّد جميع أعداءه.

في صيف 1773م عاد الاحتكاك بين ظاهر العمر والشهابيين ليتصدر واجهة المشهد، وقد كان احتكاكاً إيجابياً هذه المرة حيث طلب الأمير يوسف الشهابي من ظاهر عونه ومساعدته. بعد هزيمة يوسف الشهابي على يد الأسطول الروسي في بيروت بعد معركة سهل الغازية، طلب يوسف من عثمان المصري أن يرسل له حماية لمدينة بيروت، فأرسل إليها أحمد بك الجزار على رأس 300 جندي من المرتزقة المغاربة وقام بإغلاق أبواب المدينة عليه ورفض استقبال أي من قوافل يوسف الشهابي التجارية، وعندما استفسر يوسف من عثمان المصري عن الأمر تلكأ ورفض إعطاءه إجابة حاسمة، ووعده بإخراج أحمد الجزار في أسرع وقت، وعندما وجد يوسف الشهابي أن الجزار عازم على عدم مغادرة بيروت اتصل بظاهر العمر عن طريق وساطة عمه الأمير منصور، واتفق كلا الطرفين على التحالف فيما بينهما وتلقى وعداً من ظاهر بمعاونته في استرداد بيروت، وجرَّد حملة عسكرية خرج على رأسها مع حليفه ناصيف نصار توجهت إلى بيروت لحصارها من البر فيما أعاد ظاهر اتصاله بالأسطول الروسي وطلب منه التوجه إلى بيروت لمحاصرتها بحراً، وبدأ الحصار في يونيو 1773م. علم عثمان باشا المصري بما قام به الشهابي وغدره بالدولة وتعاونه مع ظاهر العمر، فخرج بنفسه على رأس حملة عسكرية تستهدف مهاجمة يوسف الشهابي في مركز حكمه في دير القمر في سبتمبر 1773م، واستنجد يوسف بظاهر فأنجده بقوة عسكرية قادها ابنه علي الظاهر وناصيف نصار ووصلت إلى دير القمر قبل وصول عثمان باشا المصري، والذي فضَّل التراجع إلى دمشق عندما علم بالإمدادات التي وصلت للشهابي، ويذكر بعض المؤرخين أنه خاف من قوة جيش خصومه وترك معسكره في الليل تاركاً خيامه في مكانها ولم يكلف نفسه حتى بجمع مدافعه! استمر الحصار على بيروت براً وبحراً ويذكر محمد كرد علي في خطط الشام أن أهل بيروت أجهزوا على كل ما يمكن أن يُؤكل في المدينة حتى القطط والفئران والحمير! واضطر أحمد الجزار أخيراً إلى الاستسلام وترك المدينة في نوفمبر 1773م. وعادت بيروت وقتها لسيطرة الأمير يوسف الشهابي.

بالعودة إلى نابلس، فكما ذكر بعاليه، لاقى مشايخ جنين وأصحاب قلعة صانور (آل جرار) ومشايخ نابلس من آل النمر (الحكام السابقين لنابلس) سوء معاملة غير مبرر من محمد باشا العظم، إذ عين عليهم مصطفى بك طوقان ملتزماً وقتل مبعوثهم في دمشق، وقد أثار ذلك سخطهم وغضبهم، وبعد استرداد ظاهر العمر ليافا وضمه له في المرة الثانية (بعد إنهاء حصارها في فبراير 1773م) بدأ مشايخ آل جرار (الإخوة حمدان ويوسف) بالإضافة إلى ابن النمر بالتفكير جدياً بالاتصال بظاهر العمر، وبدأوا مفاوضاتهم به بالفعل على أن يساعدهم في التخلص من مصطفى طوقان وتخضع له بذلك نابلس وقراها وتصبح جزءاً من إمارته، وقد تم الاتفاق بين الطرفين في وقت غير محدد (بحسب المراجع المتوفرة)، وفر على إثره مصطفى طوقان وعائلته خارج نابلس قاصداً دير القمر حيث الأمير يوسف الشهابي، والذي أقام لديه لفترة وجيزة قبل أن يتوجه إلى دمشق حيث استقبله عثمان باشا المصري ومن ثم أرسله إلى اسطنبول. ويظهر من تسلسل الأحداث أن الاتفاقية بين ظاهر ومشايخ نابلس قد تمت خلال النصف الأول من العام 1773م ويُستدل على ذلك من تأكيد بعض المصادر لهرب مصطفى طوقان إلى يوسف الشهابي أولاً قبل إلتحاقه بعثمان باشا المصري في دمشق، حيث لم يتم التحالف بين ظاهر العمر ويوسف الشهابي (كما هو موضح بعاليه) قبل شهر يونيو 1773م وليس من المنطقي أن يستقبل الشهابي واحداً من أعداء ظاهر بعد إتمامه للتحالف معه. ولذا نستطيع القول أن ظاهر أصبح يسيطر (فعلياً أو اسمياً) على جميع سناجق إيالة صيدا والسناجق الجنوبية لإيالية دمشق بما يشمل إربد وجبل عجلون كما توضح الخريطة التالية.

خريطة توضح مناطق نفوذ ظاهر العمر حتى العام 1774م
المنطقة البيضاء: مناطق الحكم الفعلي لظاهر العمر
المنظقة الرمادية: مناطق الحكم الاسمي لظاهر العمر (سنجق نابلس)
المنطقة المخططة باللون الأحمر: جبل عامل ومنطقة نفوذ ناصيف نصار والمتاولة

دخل العام 1774م ولا زالت الدولة في حربها المستعرة ضد الامبراطورية الروسية، وعثمان باشا المصري لم يحقق لحد الآن أيّاً من الأهداف التي تم تكليفه بتحقيقها عندما تم تعيينه في أكتوبر 1771م، وبناء على أوامر سابقة من السلطان ارتأى عثمان باشا المصري أن يعود لمفاوضة ظاهر مرة أخرى، خاصة وأنه أبدى استعداده للمفاوضة أثناء الفترة القصيرة التي تولى فيها مصطفى باشا بستناجي ولاية دمشق. وقد اتفق كلا الطرفين على ذات الشروط تقريباً، وعاد ظاهر ليعد بدفع مكسور الميري كاملاً والالتزام بدفع إلتزام صيدا والتكفل بأعباء جردتها كما كرر رفضه للحصول على الباشوية وأصر على الحصول على صيدا على سبيل المالكانة، وفي هذه المرة (وربما لإدراكه لتحسس ناصيف نصار من الشروط السابقة التي كاد أن يصادق عليها مع مصطفى باشا بستانجي) فإنه لم يطلب "إيالة صيدا" بل طلب المدينة فقط، وذلك حتى يضمن لحلفائه من المتاولة والشهابيين سيطرتهم على مناطق نفوذهم التقليدية الواقعة داخل حدود الإيالة مع بقاءهم أنداداً مساويين له في تحالفهم لا أقل منه، وأصدر عثمان باشا المصري قراراً مكتوباً يضمن لظاهر جميع مطالباته، ولكن ظاهر كان ينتظر حتى يتم تثبيت هذا القرار بفرمان موقع من السلطان نفسه.

لسوء حظ ظاهر، فقد كانت الأوضاع داخل اسطنبول تتجه إلى تغير حاد بعد وفاة السلطان مصطفى الثالث، وتولي السلطان عبد الحميد الأول أمور الدولة خلفاً له في يناير 1774م، وللمرة الثانية، لم يستطع ظاهر تثبيت اتفاقيته مع الدولة بسبب عزل السلطان الجديد لعثمان باشا المصري عن قيادة جيوش الدولة في دمشق وتوليته إيالة حلب في يوليو 1774م، في إطار عدد من التنظيمات الجديدة التي أراد إدخالها في الإيالات الجنوبية، خاصة بعد دولته من الامبراطورية الروسية واضطراره لتوقيع اتفاقية كيتشك كينارجه في 21 يوليو 1774م، وهو الأمر الذي تبعه إيقاف العمليات العسكرية بين الدولتين بما يشمل سحب الاسطول الروسي من الشواطئ السورية وتوقف الدعم العسكري الروسي لظاهر العمر، وكذلك إتاحة الفرصة أمام الأسطول العثماني للتحرك بحرية في البحر المتوسط مجدداً. اتجه السلطان العثماني الجديد نحو حسم الأوضاع داخل الشام ومصر والقضاء على المتمردين وإعادة الاستقرار للمنطقة ليعود تدفق أموال الميري لخزينة الباب العالي مجدداً خاصة وأن الأوضاع كانت تتجه نحو مزيد من التوتر على الجبهة الفارسية والتي اندلعت فيها الحرب بين العثمانيين وكريم خان زند الشيرازي شاه الدولة الزندية عام 1775م. بأي حال، فقد أرسل السلطان عبد الحميد الأول مكتوباً لظاهر العمر في يناير 1775م يُعلمه بعفوه عن جميع جرائمه بسبب كبره في السن وشيخوخته ويطلب منه الانتظام مرة أخرى في دفع أموال الميري، لم يرد في رسالة السلطان أي ذكر للأوامر التي حصل بموجبها ظاهر على صيدا على وجه المالكانة بموجب اتفاقه مع عثمان باشا المصري، وكان السلطان قد أرسل - في ذات الوقت - رسالة أخرى لمحمد بك أبو الدهب في مصر يعده فيها بتوليته إيالة دمشق في حال استطاع القضاء على إمارة ظاهر العمر والتخلص منه.

لاقت أوامر السلطان صداها لدى أبو الدهب، فهي الفرصة التي كان ينتظرها للانقضاض على ظاهر والقضاء عليه كمدخل لسيطرته على الإيالات الشامية عموماً، وقد كان السلطان مصطفى الثالث قد منح أبو الدهب التزام سنجق غزة والرملة منذ العام 1773م وقد راسل أبو الدهب ظاهر وطلب منه تسليمها لرجاله، رفض ظاهر وقتها الانصياع لرغبة أبو الدهب وأرسل لابن عمه كريم الأيوب الزيداني في يافا يحذره من هجوم وشيك لأبي الدهب في أي وقت ويطلب منه زيادة تحصينات يافا، انطلق محمد بك أبو الدهب على رأس جيش جرار، كان أضخم يواجهه ظاهر العمر طوال فترة حكمه على الإطلاق، وتجاوز تعداد جنوده وضباطه أكثر من ستين ألف، بالإضافة إلى عدد من القطع البحرية التي انطلقت من عدة موانئ على النيل قاصدة يافا تحمل تعزيزات عسكرية. وكانت انطلاقة أبو الدهب من مصر في بداية مارس 1775م.

اجتاح أبو الدهب غزة والرملة بسهولة بسبب ضعف تحصيناتهما وأحكم سيطرته عليهما في الأول من إبريل 1775م، ومن ثم توجه إلى يافا وحاصرها وجرد حملة عسكرية هاجمت قلعة صانور بهدف إخضاع آل جرار لحكمه، صمد آل جرار في قلعتهم ورفضوا الاستسلام، ولكن تركيز أبي الدهب الأساسي كان على يافا التي يحتاج إلى مينائها من أجل إنزال المؤن والامدادات العسكرية، صمدت يافا مدة أربعين يومٍ في انتظار لأي مساعدة من ظاهر العمر، وذكر ميخائيل الصباغ أن ظاهر أرسل فرقة عسكرية بقيادة ابنه علي الظاهر لنجدة كريم الأيوب والتي توقفت في منتصف الطريق وعادت أدراجها لسبب غير مفهوم، ويُعتقد أن محمد بك أبو الدهب استطاع ترتيب الأوضاع مسبقاً مع علي الظاهر قبل بدء حملته على فلسطين مع وعد بتوليته على صفد وذلك لشق الصف داخل البيت الزيداني وضمان تشتته أثناء بدء الحملة، في النهاية استطاع أبو الدهب نقب أسوار يافا واجتياحها كما يذكر محمد كرد علي، على أي مؤرخين آخرين رأوا أن أبو الدهب استطاع رشوه فرقة المرتزقة المغاربة المسؤولة عن بوابات المدينة والذين يأسوا من قدوم النجدة من عكا. دخل أبو الدهب إلى يافا وقتل ملتزمها كريم الأيوب الزيداني ويتفق المؤرخون على أنه ارتكب فيها مجزرة بشعة طالت عدداً كبيراً من سكانها وابتدأت أول ما ابتدأت بحاميتها المغاربية والذي قتلهم جزاء لخيانتهم لسيدهم! أسر أبو الدهب الكثير من سكان يافا وأرسلهم بالسفن إلى مصر ليتخذهم عبيداً وسبايا، وقد قصد من بشاعة تصرفاته في يافا إرهاب بقية سكان المدن والحاميات الزيدانية فيها، وقد نجحت خطته على ما يبدو إذ بدت طريقه من يافا إلى عكا سالكة بدون أي معوقات.

اتصل ظاهر العمر بناصيف نصار، من ثم بيوسف الشهابي، وحاول إقناع كل منهما بالانضمام إليه في حرب أبو الدهب ولم يتلقَ أي نتيجة إيجابية على الإطلاق، أرسل كذلك يطلب النجدة من أحمد آغا الدنكزلي في صيدا ولم يجد منه أذناً صاغية  ،عدا عن إدراكه لتراخي أبناءه عثمان وعلي عن نصرته وربما عزمهم على خيانته، ترك ظاهر العمر عكا والتجأ إلى قلعة هونين في بلاد المتاولة، ولم يجد من أهلها ترحيباً لاستقباله فاضطر للهرب والتجأ إلى مضارب قبائل عنزة الذين وافقوا على تخبأته حتى هدوء الأوضاع، دخل علي الظاهر إلى عكا بعد فرار أبيه، فجاءته رسالة من محمد بك أبو الدهب تعطيه الأمان مقابل رأس أبيه، رفض علي أوامر أبو الدهب وهرب إلى صفد لكن ليس لوقت طويل، فقد وصل أبو الدهب إلى عكا وعسكر خارج أسوارها وأرسل من يهدم قلاع صفد ودير حنا كما هدم دير مار إلياس في جبل الكرمل وقتل رهبانه، توافد الشيوخ من بلاد المتاولة والشهابيين على عكا حاملين معهم الهدايا يطلبون الأمان من أبو الدهب وجيشه الجرار، وأرسل أحمد آغا الدنكزلي رسالة يعلن فيها طاعته لأبي الدهب ورجاءه لأمانه، فثبته أبو الذهب ملتزماً على صيدا، أرسل محمد بك أبو الدهب معاونه إسماعيل بك، والذي كان واحداً من مماليك علي بك الكبير، إلى اسطنبول يعلن للباب العالي انتصارات أبو الدهب في الشام ويطلب منه توليته عليها، وأجاب الباب العالي طلب أبو الدهب وبر بوعده له وقبل أن يعود إسماعيل بك إلى عكا، سقط محمد بك أبو الدهب صريعاً للحمى وتوفي بعد مرضه بثلاثة أيام، في 9 يونيو 1775م. حمل مراد بك، أحد قادة أبو الدهب، جثمان سيده وانطلق مع جموع عساكره وجنوده عائدين إلى مصر تاركين الإمارة الزيدانية في في أضعف حالاتها على الإطلاق، وجدير بالذكر أن محمد الخليل المرادي، وهو أحد مؤرخي القرن الثامن عشر، انفرد بذكر أن محمد أبو الدهب قد مات مسموماً بـ "دسيسة من ظاهر العمر".

لم ينجح أبو الدهب في مسعاه ولكنه مهد الطريق للدولة العثمانية للقضاء على ظاهر العمر الذي عاد إلى عكا مكسور القلب على هزيمته الساحقة على يد أبي الدهب، ودخلها هو وأولاده مدينة مخرَّبة خالية من الحياة، لم يترك الباب العالي لظاهر العمر الكثير من الوقت بعد عودته إلى عكا، فقد عاجله بحملة عسكرية برية وبحرية، تحت قيادة محمد باشا آل العظم والي دمشق يصحبه إبراهيم باشا ملتزم القدس وأحمد الجزار (الذي تمت ترقيته ومُنح رتبة الباشوية) من البر، وتحت قيادة القبودان (القبطان) حسن باشا الجزائري قائد الاسطول العثماني (منذ 1771م) من البحر. ووصل الأسطول العثماني إلى صيدا في يوليو 1775م ولم يجد عناء في السيطرة عليها، وسلمها للوالي العثماني الجديد محمد باشا مليك، ثم توجه بسفنه إلى حيفا وسلمت حامية المغاربة فيها ميناءها وقلعتها بدون قتال ثم توجه بسفنه أخيراً إلى عكا. عند هذه النقطة تبدأ روايات المؤرخين بالتضارب، يتفق الجميع على أن ظاهر العمر قد تعرض للخيانة من قِبَل حاشيته وأن عكا قد سُلِّمت لحسن باشا الجزائري بغير رغبته وإرادته، ولكن يبقى الخلاف شديداً في التفاصيل، فيقول أحفاد إبراهيم الصباغ، عبود وميخائيل، أن الخيانة قد تمت من أحمد آغا الدنكزلي الذي أمر مغاربته بعدم الرد على نيران مدفعية حسن باشا بسبب اتفاق مسبق بينهما تم وقتما خرج الدنكزلي لمفاوضة حسن باشا ومعرفة شروطه لعدم مهاجمة المدينة، حيث كان ظاهر قد قرر صد هجوم حسن باشا، فيما يذكر مؤرخون آخرون، ومنهم محمد كرد علي ونعم الله نوفل وحيدر الشهابي أن ظاهر وافق على دفع جزء من أموال الميري المكسورة للسلطان على سبيل الترضية ولإيقاف هجوم حسن باشا، ولكن إبراهيم الصباغ وزير ظاهر وأمين خزانته رفض وقال أن ليس لديه أي أموال "وليس لدينا إلا السيف والبارود" رغم أن المبلغ المطلوب لم يكن يتجاوز أكثر من ألف كيس في أقصى حد (الكيس = 500 قرش عثماني)، وعندما دخل حسن باشا عكا ونقَّب عن خزانة إبراهيم الصباغ وأحصى ما فيها وجد فيها أكثر من 83 ألف كيس على الأقل، عدا عن سجلات أملاكه وعقاراته وأملاك وعقارات ظاهر العمر في عكا وحيفا وصيدا، وبرر كرد علي إنكار الصباغ لأمواله بسبب بخله الشديد، وكانت تلك خصلة معروفة فيه.

بأي حال، تتفق معظم المصادر على أن المفاوضات التي جرت بين ظاهر وحسن باشا قد فشلت، وأن حسن باشا ظهر بقطع أسطوله أمام عكا في 19 أغسطس 1775م واستمر بقصف عكا لمدة يومين متتالين فيما كان أبناءه يتهيأون لقتال محمد باشا العظم خارج عكا، ولم يستطع ظاهر حمل مغاربته وقائدهم أحمد آغا الدنكزلي على الرد على مدفعية الأسطول، فاضطر للهرب من عكا، وأصيب بعيار ناري في صدره أثناء خروجه خارج أسوار المدينة أطلقه جندي مغربي، تكالب المغاربة على جثة ظاهر وقطعوا رأسها وحملوها إلى القبطان حسن باشا طالبين منه الأمان.

هرب أبناء ظاهر العمر، وتحصنوا في قلاعهم في صفد وشفا عمرو وطبرية، وحاولوا الإبقاء على نفوذهم داخل المناطق الداخلية لإمارة والدهم قدر الإمكان، واستغلوا ضعف إمكانات أحمد باشا الجزار والذي لم يقدر على حربهم في البداية لهذا السبب، ولكنه انتظر الفرصة المناسبة عندما علم بوجود خلاف بين علي الظاهر وبقية إخوته، فقد كان الوحيد من بينهم الرافض لإعلان ولاءه للدولة العثمانية، فهاجمه الجزار في دير حنا بعد وصول إمدادت عسكرية من القبودان حسن باشا واستطاع السيطرة قلعته بعد هدم جزء من سورها، هرب علي الظاهر عند أخيه عثمان في شفا عمرو. أرسل أحمد باشا الجزار لأبناء ظاهر جميعهم رسائل يعرض عليهم القدوم إليه في عكا وإعلان ولائهم له باعتباره واليهم الجديد وللسلطان في اسطنبول، وبعد مشاورات في العائلة أجمعوا (فيما عدا علي) على تنفيذ رغبة الجزار، والذي قام بإلقاء القبض عليهم جميعاً وتسليمهم لحسن باشا والذي حملهم أسرى للباب العالي.

وبذا، أُسدل الستار نهائياً على آخر فصل من فصول حكاية الإمارة الزيدانية وتجربتها الفريدة واندثرت سيرتها وخبى نجمها بعد سبعين عامٍ من الرفعة والقوة والمنعة.

خريطة لإيالة صيدا ومناطق نفوذ ظاهر العمر في توسعه الأول 1730 - 1750م

التقسيم الإداري لإيالة صيدا في بداية القرن الثامن عشر

السناجق الجنوبية لإيالة دمشق

قلعة طبرية المطلة على البحيرة العاصمة الأولى لإمارة ظاهر العمر


صورة حديثة لجامع ظاهر العمر الكبير في مدينة طبرية والذي تأسس في 1743م

سور عكا البحري

مدفع عثماني فوق سور عكا

قلعة شفا عمرو

قلعة دير حنا

آثار قلعة جدين

آثار قلعة صانور، يُذكر أن القلعة دُمرت على يد الأمير بشير (الثالث) الشهابي في 1831م أثناء حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام

قلعة صيدا البحرية


------------------------------

(1) كان الانتماء الطائفي للأمراء الشهابيين مثار خلاف للعديد من المؤرخين، فبعضهم اعتبرهم سنة، والبعض الآخر اعتبرهم دروزاً، وقد كان سبب هذا الخلاف هو ما جمعهم من رابطة نسب مع أمراء الأسرة المعنية المعروفة بانتماءها للمذهب الدرزي، لكن المعروف أن هذه الاختلافات لم تؤثر على لُحمة العائلة، وكل ما شهدته من خلافات داخلية كانت ذات أساس سياسي، وفي نهاية الأمر، تنصرت العائلة واعتنقت المذهب الماروني بعد تزايد تعداد المارون في مناطق نفوذهم وتشكيلهم أغلبية ديمغرافية.

(2) رفض ظاهر تولي منصب "الوالي" في صيدا أو الحصول على مرتبة الباشوية، فهو أدرى بتاريخ الدولة العثمانية الأسود مع ولاتها وما فعلوه مع أسعد باشا العظم بعد أكثر من 14 عاما من الخدمة ليس عنه ببعيد، كما أنه خاف من أن يعتبر ناصيف نصار والمتاولة تعيين ظاهر والياً على صيدا خيانة لهم. 

ملك ما بين البحرين .. ظاهر العمر الزيداني - الجزء الثالث

صورة حديثة لجامع ظاهر العمر في عكا

استعرض الجزءان الأول و الثاني من هذا المقال تاريخ ظاهر العمر الزيداني وإمارته في الجليل منذ بداية حكمه الفعلي للجليل بعد توسعه الأول في سنجقي صفد وطبريا وسيطرته على قلاعهما المهمة، ومن ثم صراعه مع سليمان باشا العظم والي دمشق الذي انتهى في صالح ظاهر، مروراً بتوسعه في عكا وحيفا وإتمام سيطرته على كامل المنطقة الواقعة ما بين البحرين، بحر طبريا وبحر عكا، انتهاء بتجدد صراعه مع الدولة وولاتها في دمشق ممثلين بحسين باشا المكي وعثمان باشا الجورجي بعد قضاءه فترة من الهدوء على تلك الجبهة، سيروي هذا الجزء قصة السنوات الخمس الأخيرة من حياة ظاهر العمر وحياة إمارته الفتية، وسيلقي الضوء على تعقيدات المشهد السياسي في الجزء الجنوبي من بلاد الشام في هذه الفترة حيث تأزم الصراع ودخلت فيه عدة أطراف دولية وإقليمية لها مصالحها في تأزيم الوضع الداخلي لدى الدولة العثمانية واستغلال ظرفها الحرج أثناء حربها الشرسة مع الإمبراطورية الروسية في الشمال.

من المهم أن يعود المقال عند هذه النقطة خطوة إلى الوراء، لشرح لحظة مهمة في تاريخ إمارة ظاهر العمر، كان لها أثر كبير على الأحداث التي سيتناولها هذا المقال، وهي بداية الاحتكاك الذي نشأ بين ظاهر العمر ومتاولة جبل عامل تحت زعامة أميرهم الشيخ ناصيف نصار، وهو الاحتكاك الذي بدأ بعداء نشأ لأسباب غير واضحة بما فيه الكفاية في ضوء المراجع المتوفرة وانتهى بتحالف كان له عظيم الأثر في تعزيز القوة العسكرية للإمارة الزيدانية وانقاذها من أزمات عميقة كانت لتودي بها لولاه، وهو تحالفٌ يرى كاتب المقال أنه كان حتمياً في ضوء الظروف التي كان يمر بها كلا الطرفين رغم ما ظهر من تنافسية شديدة بينهما.

تثير المصادر التاريخية، الزيدانية والعاملية، لغطاً كبيراً حول بداية الاحتكاك وطبيعته وحول تسلسل الأحداث وترتيبها الفعلي، فمؤرخ ظاهر (عبود الصباغ)، على سبيل المثال، يروي جزءاً لا بأس به من الأحداث التي حصلت بين المتاولة والزيادنة والتي يتفق عليها معظم المؤرخين، لكنه يضعها في الفترة ما بين 1736 - 1737م، أي قبل أول جولة قتال بين ظاهر وولاة دمشق، وبالطبع، فالصباغ نفسه يذكر أن المعاهدة التي عقدت بين ظاهر والمتاولة كانت دفاعية هجومية، أي أن اتفاق كلا الطرفين كان على نصرة الطرف الآخر في كل ما يمر به من أحداث حربية فيهجم حيث يهجم الآخر ويدافع عنه حيث يتعرض للهجوم وهي معلومة صحيحة بالفعل وأثبتتها أحداث لاحقة، ورغم ذلك، فلا يذكر عبود الصباغ نفسه أي تدخل لظاهر في حروب المتاولة مع الأمراء الشهابين من إمارة الشوف وجبل لبنان ولا يذكر أي تدخل للمتاولة في حروب ظاهر مع سليمان باشا العظم وما تلاها من معارك. والمرجح لدى الباحث خالد صافي أن الاحتكاك بين المتاولة وظاهر قد تم في منتصف ستينات القرن الثامن عشر، في 1766 على أقل تقدير، وبالرغم من ذلك، تظل لدينا معظلة إيجاد التسلسل المنطقي للأحداث بسبب الاختلافات الشديدة بين المؤرخين الزيدانيين والعامليين في سرد الأحداث وإخضاعها لتحيزاتهم الشخصية. نذكر على سبيل المثال، أن رواية تتحدث عن معركة خاضها ظاهر العمر للسيطرة على البصة في سبتمبر1766م، وتلاها بعد عشرة أيام معركة أخرى للسيطرة على طربيخة في أكتوبر 1766م، وكلاهما قريتان تتبعان لنفوذ المتاولة، وتنقسم الروايات بين بقاء سيطرة ظاهر على هاتين القريتين وبين عودتهما لنفوذ المتاولة، فيما تذكر رواية أخرى أن المسافة الزمنية بين المعركتين قد بلغت شهوراً عديدة، وقد استعاد المتاولة البصة من ظاهر بعد أن أسروا واحدة من أفراسه الأصيلة (واسمها البريصة) فبادلها ظاهر بقرية البصة، وبعد عدة شهور خاض مع المتاولة معركة في طربيخة ثبت بها ناصيف نصار ورجاله طيلة أسبوعين مع عدم القدرة كذلك على تحديد الجانب الذي انتهت في صالحه المعركة، كما أن ميخائيل الصباغ يروي أن الاحتكاك الأول بين ظاهر والمتاولة كان في معركة سريعة هجم فيها عسكر المتاولة على ظاهر بصحبه ابنه عثمان المتمرد عليه والمدعوم من عثمان باشا الجورجي، في يوليو 1766م، وانتهت وقتها لمصلحة ظاهر رغم الافتراض بأنه قد بُوغت بالهجوم، وهكذا تتذبذب الروايات بين جعل ظاهر معتدياً على المتاولة لرغبته في التوسع في أرضهم، وبين جعل المتاولة معتدين على ظاهر بأوامر من عثمان باشا الجورجي ودعماً لابنه عثمان المتمرد عليه، وتختلف ما بين احتفاظ ظاهر بالبصة وطربيخة بعد صلحه مع المتاولة أو عودتهما لنفوذهم وسيطرتهم.

كل هذا الارتباك يمكن تجاوزه عند التركيز على ما يهم الباحث حقاً، وهو أن الزيدانيين والعامليين دخلوا في صراع نفوذ على البصة وطربيخة، وأن هذا الصراع قد انتهى بتحالف عسكري عُقد برعاية بعض القوى الدرزية في إيالة صيدا، بعد تدخل إسماعيل الشهابي أمير وادي التيم، والذي اشترك مع الشيخ علي جنبلاط والشيخ عبد السلام العماد والشيخ كُليب النادي (وثلاثتهم من مشايخ الدروز) في الجمع بين ناصيف نصار وظاهر العمر على طاولة المباحثات، وذلك في الرابع عشر من أغسطس 1767م، ومن ثم قاموا بإتمام المعاهدة فيما بينهم في عكا في الخامس من ديسمبر 1767م، وقد نصت على أن يبقى جبل عامل خاضعاً لسيطرة المتاولة تحت حماية ظاهر العمر على أن يدفعوا له مال الميري ويتولى هو أمر دفعه للدولة، ويوفروا لظاهر قوتهم العسكرية في أي وقت يحتاجه على أن يكفيكم التعامل مع موظفي الدولة ومتسلميها وجباتها.

كانت المعاهدة بين الزيادنة والمتاولة حتمية، فكلاهما يشترك في عداء الدولة له وكلاهما حاربها من قبل، ظاهر بنفسه والمتاولة تحت حكم المعنيين تارة أو عندما حاربوا الشهابيين كوكلاء عن ولاة صيدا تارة أخرى. كان ظاهر يرى في جبل عامل مكاناً استراتيجياً يمكن أن يشكل خطراً على وجود إمارته ولا بد من إخضاعه لنفوذه، وإذا ما تم له ذلك فقد يشكل نقطة انطلاق للتوسع في ولاية صيدا إلى الشمال من الجليل، ومانعاً طبيعياً يقيه شر الأمراء الشهابيين الموالين للدولة، ولكن يظل العائق الأكبر هو المتاولة أنفسهم، والذين عُرف عنهم بأسهم في الحرب، قد يستطيع ظاهر الانتصار على المتاولة لكنه بالتأكيد لن يستطيع القضاء على وجودهم بالكامل في جبل عامل، إلا لو خاض ضدهم حرب استنزاف طويلة الأمد سترهق ظاهر وإمارته قبل أن يحقق مراده منها، ولذا فقد كان كسب المتاولة أهون عليه من القضاء عليهم، خاصة في ظل تواجد عثمان الجورجي والخطر الدائم الذي يمثله على رأس إيالة دمشق. في ذات الوقت، فإن استقلالية إمارة جبل عامل ستظل مهددة على الدوام طالما بقي وضعهم على حاله، فهم يتمسكون بمساحة جغرافية محاطة بأعداء تقليديين من كل جانب، فهم يمانيون شيعة في محيط قيسي سني/درزي، تعاديهم الدولة في كل فرصة سانحة وتطلق يد الشهابيين في مهاجمتهم كل حين وآخر(1)، ولولا صعوبة تغيير الوضع الإثنوديمغرافي في مناطق سيطرتهم من جهة، واستفادة الدولة من الخلاف العرقي/الطائفي الدائم بين العائلات الكبيرة من جهة أخرى، لتركت الدولة للشهابيين والقيسية بشكل عام العقال في حربهم ضد المتاولة بدون حسيب. ولكل هذه الأسباب مجتمعة، تجاوز كلا الطرفين عن خلافاتهما السابقة واختلافاتهما المذهبية والقبلية وقبلا بالتعاون وتوحيد مجهوداتهم العسكرية تحت راية واحدة.

كانت الدولة العثمانية تتهيأ لاشتعال الجبهة الروسية للمرة السابعة في نهاية ثمانينيات القرن الثامن عشر، ولذا فقد كانت معنية بتهدئة الأوضاع الداخلية والعمل على وأد أي جبهات حربية في الإيالات يمكن أن تستنزف مواردها وتتسبب في تأخير دفع الضرائب وأموال الميري وانقطاع التموينات، ولذا فقد أمرت الباب العالي عثمان باشا الجورجي والي دمشق بعدم التعرض لظاهر العمر بعد انتهاء النزاع القضائي على مدينة حيفا، واسترضت ظاهر نفسه لعدم التسبب بأي اضطرابات ومنحته لقب: (شيخ عكا وأمير الأمراء والحاكم في الناصرة وطبريا وصفد وكل الجليل) عام 1768م. وعلى الرغم من ذلك، فقد تواترت الأحداث وتتابعت بشكل جعل الصدام بين الطرفين حتمياً، واتخذ وقتها أبعاداً أخرى لم تشهدها الإمارة الزيدانية من قبل، فلم يعد الصراع محلياً بل تدخلت فيه قوى إقليمية ودولية.

خطى ظاهر خطوة مهمة في سبيل تقوية موقفه في صراعه مع عثمان باشا الجورجي ولعلها كانت لتكون أهم بكثير من تحالفه مع المتاولة لو كُتب للأمور أن تسير حسبما يرضى ويرغب وهو الأمر الذي سيتم توضيحه بعد قليل، فقد بدأ ظاهر اتصالاته مع شيخ البلد وقائمقام عموم البلاد المصرية، بولوط قابان علي باشا أو كما يُعرف في بعض المصادر العربية باسم (علي بك الكبير)، وأتم تحالفه معه واتفاقه على استقبال حملة عسكرية يرسلها علي بك من أجل مساعدة ظاهر في حربه مع عثمان باشا الجورجي. تتضارب الروايات هنا أيضاً في تحديد الكيفية والفترة الزمنية التي تمت بها الاتصالات بين ظاهر العمر وعلي بك والتحالف العسكري فيما بينهما، حيث يضع البعض العام 1766 مفتتحاً لبداية الاتصال بين الطرفين، وهو العام الذي هرب فيه علي بك من مصر فاراً من بعض منافسيه في مصر إلى مدينة غزة، حيث أرسل له ظاهر العمر من يكرم ضيافته ويخبره بترحيب ظاهر به وبتمنيه أن ينال صداقته، وتخلو هذه الرواية من المنطق، فما حاجة ظاهر لقائمقام هارب من عدد كبير من الأعداء داخل مكان نفوذه الأصلي وغير قادر على تقديم أي مساعدة لظاهر؟ كما أن غزة (وأيضاً صعيد مصر) كانت مكاناً مفضلاً لدى الكثير من مماليك الحقبة العثمانية الهاربين أو المنفيين بسبب الخلافات السياسية داخل الإقليم المصري، وكان أهل المدينة معتادين على استضافتهم. في حين أن البعض الآخر يرجح أن بداية الاتصال بين الطرفين كانت في وقت ما من العام 1770م(2)، حيث راسل علي بك ظاهر طالباً منه شراء بعض الدروع، واستغل ظاهر الفرصة للقيام بمبادرة للتقرب من علي بك فأرسل له الدروع التي طلبها (وكان عددها 75 درعاً) هدية بدعوى أنه ليس بتاجر للسلاح وأنه يطمح في صداقة علي بك، وشكا له في رسالته من بعض المتاعب التي يسببها له عثمان باشا الجورجي وطلب منه أن يسير له بعضاً من المغاربة المقيمين في مصر ليتخذهم مرتزقة لديه في جيشه، وقد قدَّر علي بك المبادرة التي قام بها ظاهر وأرسل له رسالة كال له فيها المديح وقال له أنه "اتخذه والداً له" وأنه علم ما جرى له من تعب من قبل عثمان باشا ولذا فسيرسل له تجريدة. وبالفعل، أرسل له جيشاً بقيادة إسماعيل بك وصل إلى غزة والرملة في نوفمبر 1770م. من المهم معرفة أن علي بك، والذي كان قادراً على تحريك جيوش تعدادها يزيد عن عشرات الآلاف من الجنود، لم يكن مهتماً حقاً بدروع ظاهر الخمسة والسبعين، ولم يكن الجليل مركزاً للصناعات العسكرية بالأصل، والأغلب أن الدروع التي أرسلها ظاهر لعلي بك كات دروعاً مستوردة. الأرجح أن علي بك أراد فعلاً المبادرة إلى الاتصال بظاهر وجس نبضه وفحص إمكانية تعاونه في مشروعه التوسعي ضد أملاك الدولة في الشام، فقد ذكرت بعض المصادر أنه كان - وبعد استتباب الحكم له في الإقليم المصري - يحلم بتوسعة رقعة دولته لتشمل ذات الحدود القديمة لدولة المماليك التي أنهاها العثمانيون في بدايات القرن السادس عشر وسيطروا على أقاليمها، ومن المرجح أن فكرة الاستعانة بحاكم محلي من بلاد الشام ليكون عوناً وسنداً له ودليلاً وعيناً لجيوشه وجنوده قد أغرته وشجعته على الاتصال بظاهر وعرض التحالف العسكري عليه، خاصة وأن مناطق نفوذ ظاهر كانت الأهم استراتيجياً في بلاد الشام كلها، باعتبارها مفتاح الطريق المؤدي إلى مصر في أي غزو محتمل، وقد لاقى ذلك بالطبع لدى ظاهر ترحيباً شديداً بسبب الظروف الميدانية التي كانت تحيط به. فخرج ظاهر في نوفمبر 1770م على رأس جنده لاستقبال مبعوث علي بك، إسماعيل بك، والذي تقدم إلى غزة والرملة على رأس جيش بلغ تعداده 10 آلاف جندي واستطاع السيطرة عليهما بسهولة وسط فرحة الأهالي الذين أسعدهم التخلص من متسلمي عثمان الجورجي وبسبب فرحتهم بإعلان إسماعيل بك إعفائهم من مال الميري أربعة سنوات إن أعلنوا ولائهم لعلي بك الكبير، وفي طريقه، سيطر ظاهر على سهل السارونة (ضمن سنجق اللجون) الخاضع لسلطة أحد شيوخ نابلس، مصطفى بك طوقان، والذي ترك السهل وارتد إلى نابلس. في ذات الوقت، كان ظاهر العمر قد أرسل ابنه عثمان الظاهر على رأس قوة عسكرية لملاقاة حملة إسماعيل بك، ولكن الطريق قُطع أمامه بجنود عرب الصقر (المتحالفين وقتها مع عثمان باشا الجورجي) واضطر للتأخر. من سوء حظ عثمان باشا أن هذه الأحداث وقعت في ذات الوقت الذي كان فيه خارج دمشق في دورته السنوية، كان الجورجي قد خرج للدورة في غير موعدها، لم يكن يجمع مال الميري بقدر ما كان ينهبه، مر بالمدن والقرى التي رفضت دفع مال الميري في غير موعده السنوي بسبب القحط والوضع الاقتصادي المتردي فنهبها ودمرها وقتل كل من اعترض طريقه، وصل للخليل فنهبها، حاصر الرملة ودخلها كذلك، وعندما وصل إلى غزة خرج إليه وفد من علمائها ووجهائها فألقى القبض عليهم ودفنهم أحياء، تزايد سخط الناس على الدولة وواليها السفاح هذا ولم يحسب الجورجي حساباً لقادم الأيام. تفاجأ عثمان باشا الجورجي بقدوم إسماعيل بك وهو بالقرب من يافا واضطر للمواجهة مع فرقة استطلاعية تابعة له، ألقى القبض على أفرادها وأعدمهم جميعاً، وأرسل لإسماعيل بك يستفهم منه عن سبب قدومه، فأجابه بأنه قد أتى بأمر من علي بك ودعاه للمواجهة، وربما كان عثمان الجورجي يفكر بمواجهة إسماعيل بك فعلاً لولا أن وصلته رسالة أخرى من ظاهر نفسه يعلمه بوقوف العساكر المصرية إلى جانبه ويدعوه كذلك للنزال، ارتد عثمان الجورجي إلى يافا، ودخلها رغم رفض أهلها استقباله، وتحصن فيها وأرسل إلى شيوخ نابلس طالباً منهم المدد، ولما يأس من إمداداتهم هرب وتخفف من مدافع جيشه بإلقائها في آبار المياه في قرية قاقون وارتد مسرعاً إلى دمشق ووصلها في منتصف ديسمبر 1770م. ودخل إسماعيل بك وظاهر العمر إلى يافا وأحكما السيطرة عليها. ووصلت إلى إسماعيل بك تعزيزات عسكرية في فبراير 1771م.

كان الوقت قد داهم عثمان الجورجي وحضر موعد سفره في قافلة الحج الشامي، أرسل الباب العالي إلى دمشق كلا من نعمان باشا والي أورفة (الذي تم تعيينه والياً على مصر لاستردادها من علي بك وساري عسكر لإيالة دمشق) وعبد الله باشا والي حلب ومحمد باشا الجورجي والي طرابلس ودرويش باشا الجورجي والي صيدا(3) إضافة إلى متسلم كلس(4) من أجل حمايتها وسد الفراغ الذي سيخلفه عثمان الجورجي أثناء رحلة الحج، وعندما تجهز للخروج أرسل لإسماعيل بك وظاهر العمر رسالة يرد فيها على دعواتهم للقتال بأنه خرج لزيارة بيت الله الحرام "فإن كان ترومون محاربة زوار بيت الله فقد استعنا بالله عليكم"، حاول ظاهر العمر استغلال هذه الفرصة وإقناع إسماعيل بك بمهاجمة قافلة الحج عند المزيريب، رفض إسماعيل بك جملة وتفصيلاً لما في ذلك من دعاية سلبية لسيده علي بك وخوفه من تأثير ذلك على مستوى شعبيته الذي اكتسبه لدى الناس، وبسبب خلاف وقع بينه وبين أبناء ظاهر (علي وعثمان). فخرج عثمان الجورجي وعاد دون أن تتعرض قافلته لأي أذى، وأثناء تواجده في الحج توقفت العمليات العسكرية في بلاد الشام تماماً، فقد التزم نواب عثمان الجورجي في دمشق سياسة الحذر، ومع دخول الشتاء وقع ظاهر فريسة مرض خطير أقعده قرابة الشهرين واضطر للعودة إلى عكا للاستشفاء فيما بقي إسماعيل بك معسكراً في مخيمه في مرج بن عامر. خرجت قافلة الجردة التابعة لإيالة دمشق تحت قيادة محمد باشا الجورجي وحاول علي الظاهر بأمر من أبيه مهاجمتها قرب المزيريب في مارس 1771م وباءت محاولته بالفشل بسبب تغيير القافلة لمسارها.

بعد شفاء ظاهر، كانت أول خطوة اتخذها هو إرسال رسالة للسلطان في اسطنبول في 17 إبريل 1771م يخبره بأنه تحالف مع علي بك الكبير دفاعاً عن نفسه وصيانة لنفسه بسبب تهديد عثمان باشا الجورجي له ولإمارته التي يحكمها تحت رعاية وحماية السلطان بنفسه، رغم كل شيء، وهذا ما يثبت أن ظاهر وبالرغم من كل عدائه لولاة الدولة ظل حريصاً على رضى السلطان وإبقاء الباب مفتوحاً أمامه لخط رجعة قد يضطر لسلوكه في أي لحظة إن ساءت الأمور. خرج ظاهر على رأس قواته وبمساعدة من ناصيف نصار والمتاولة متوجها ناحية نابلس بغرض محاصرة قلعة صانور ومر أثناء الطريق إلى نابلس بقرية قباطية فهاجمها ونهبها، ووصل إلى صانور في أواخر إبريل 1771م وفرض عليها الحصار ووضع أمام شيوخها من آل جرار شروطه لفك الحصار؛ وضع السلاح وطرد مصطفى بك طوقان من نابلس والدخول في طاعته، وأمر ظاهر قواته بمهاجمة القرى المجاورة لنابلس والسيطرة عليها للضغط على آل جرار وإجبارهم على التسليم، ولم يُوفق ظاهر في مسعاه واضطر لرفع الحصار عن القلعة في شهر مايو والعودة إلى عكا بسبب عودة عثمان باشا الجورجي من رحلة الحج ووصوله إلى دمشق في 24 مايو 1771م، فيما استمر ظاهر بمضايقة قوافل شيوخ نابلس التجارية والتعرض لها.

كان علي بك الكبير قد جرَّد حملة عسكرية ثانية بقيادة مملوكه وقائده العسكري المحنَّك محمد بك أبو الدهب، وصلت إلى فلسطين في 17 مايو 1771م، عاد ظاهر إلى عكا ورفض الخروج بنفسه لاستقبال أبو الدهب لعلمه باستحاله سيطرته على قواته والتي بلغ تعدادها أكثر من 40 ألف جندي (حدثت الكثير من الخلافات بين ظاهر وإسماعيل بك رغم أنه تلقى أمراً من علي بك بطاعة ظاهر العمر وتنفيذ أوامره)، أرسل ظاهر كلا من أبناءه علي وصليبي وعثمان إضافة إلى ابن عمه كريم الأيوب الزيداني الذي سبق وعينه ظاهر ملتزماً على يافا برفقة ناصيف نصار لاستقبال محمد بك أبو الدهب برفقة أربعة آلاف فارس بعضهم من المتاولة. أرسل محمد بك أبو الدهب رسالة لعثمان الجورجي يطلب منه فيها مغادرة دمشق وأنه قادم للاستيلاء عليها وحكمها بأمر من علي بك الكبير. خرج عثمان الجورجي من دمشق على رأس الجيوش الشامية معضَّداً بقوات إيالات حلب وطرابلس وصيدا وأورفة برفقة ولاتها وتقابل مع محمد بك أبو الدهب وحلفاءه المحليين قرب بلدة سعسع (31 كم شمال شرق صفد) في 3 يونيو 1771م في معركة ضخمة سقط فيها عدد كبير من جنود الطرفين، وتقهقر فيها عثمان الجورجي وجيشه حتى وصلوا إلى مشارف دمشق تحت الملاحقة الحثيثة للجيش المصري، واستمرت المعركة على بوابات دمشق خلال الفترة من 4 إلى 6 يونيو وانتهت بهروب عثمان الجورجي خارج دمشق تاركاً المدينة لرحمة أبو الدهب وجيشه وتوجه إلى حماة. صمد في قلعة دمشق حوالي ألف وخمسمائة من الإنكشارية (جنود الدولة) وأغلقوا أبوابها على أنفسهم ورفضوا تسليم القلعة حتى يأتي أمر بذلك من الباب العالي، دك محمد أبو الذهب القلعة بالمدافع لعدة أيام قبل أن يستجيب لمناشدات أعيان دمشق وعلمائها بسبب سقوط القذائف على الأحياء المجاورة للقلعة وتضرر أهل دمشق أنفسهم، فأوقف أبو الدهب القصف واكتفى بحصار القلعة وسيطرته على المدينة.

عمت أخبار سقوط دمشق جميع بلاد الشام وقد كان خبر سقوطها مدوياً، وقد عم الوجوم جميع دوائر الحكومة والباب العالي في اسطنبول، وما كان أحد يظن أن يصل الأمر بالمتمردين، سواء في مصر أو الشام، لحد السيطرة على دمشق وطرد واليها، وما كان السلطان ليقدر على اتخاذ أي خطوة عاجلة لمعالجة الأمر، فالشخص الوحيد القادر على تنفيذ أي تدخل عاجل هو عثمان الجورجي نفسه الهارب إلى حماة، وجيوش الدولة العثمانية مشغولة بحرب الروس وأساطيلها ممنوعة من مغادرة البحر الأسود بسبب تواجد الأسطول الروسي في البحر المتوسط، عمت الاحتفالات جميع مدن الإمارة الزيدانية ووصلت أخبار الانتصار لمصر وبدأت الاحتفالات في القاهرة مع أوامر صدرت لمحمد بك أبو الدهب بمواصلة التقدم والتوغل في بلاد الشام وتوزيع مناصب الولاية والإمارة على البكوات المرافقين له في حملته العسكرية، ووعد بإرسال المزيد من التعزيزات بحراً عبر ميناء يافا، ولكن محمد بك أبو الدهب اتخذ الخطوة الأكثر غرابة والأقل توقعاً وانسحب بجيشه مغادراً دمشق في 18 يونيو 1771م، أي بعد دخوله دمشق بإثني عشر يوما فقط.

كان قرار أبو الدهب مفاجئاً للجميع حتى لأعدائه، وتعددت الأسباب التي ذكرتها المصادر أو افترضها الباحثون، فقال البعض أن أبو الدهب خشي من غضب السلطان عليه بسبب اقتحامه لدمشق (لو كان ذلك الأمر لما اقتحمها أصلا) وذكر الجبرتي أن محمد بك جمع أمراء الحرب في جيشه واستشارهم في أوامر علي بك بمواصلة التقدم في الشام وأنهم رفضوا الأوامر لتوحشهم من الغربة وسأمهم من القتال! لكن رواية الجبرتي يشوبها الشك رغم ذكره لتفاصيل محضر الاجتماع بين أبو الدهب والبكوات المرافقين له، خاصة وأنه لم يملك معلومات دقيقة عن نشاطات حملة أبو الدهب العسكرية وأدعى أن قواته وصلت إلى حلب! بينما يذهب بعض المؤرخين إلى القول بأن اتصالاً تم بين أبو الدهب وبعض موظفي الدولة العثمانية (ومنهم عثمان الجورجي نفسه وأمين الصرة السلطانية والذي كان مرافقاً لقافلة الحج الشامي) تم على إثره إقناعه بالانسحاب من دمشق على أن ينال الرضى والعفو من السلطان ويُكرم مستقبلاً على خدماته، ويبدو ذلك أقرب للتصديق وللتسلسل المنطقي للأحداث.

يعود عثمان الجورجي بأقصى سرعة إلى دمشق بعد إتمام أبو الدهب لانسحابه وأرسل بعض قواته إلى غزة والرملة لاستعادتهما مرة أخرى، فيما بقيت يافا - حتى تلك اللحظة - في يد ظاهر وتحت حماية ملتزمها كريم الأيوب الزيداني، برر أبو الدهب انسحابه أمام سيده علي بك بخيانة قام بها ظاهر العمر وأولاده له في دمشق وانسحابهم من المعركة قبل اتمامها وخوفه على جيشه ونفسه من الزيادنة والمتاولة بعد خيانتهم، تبادل علي بك الرسائل مع ظاهر ونقل كل منهما صورة الوضع للآخر، وأرسل ظاهر لعلي بك ابنه عثمان رهينة كدليل على صدق كلامه وأنه لم يخن أبو الدهب وأن انسحابه كان مفاجئاً وبدون أي سبب مفهوم، أدرك علي بك أن مملوكه أبو الدهب تمرد عليه وإن لم يعرف بعد السبب الذي دفعه لذلك ونواياه وراء هذا التمرد. بأي حال، قرر ظاهر مواصلة حربه ضد عثمان باشا الجورجي وقرر أن يعيد فرض الحصار مرة أخرى على قلعة صانور في نابلس.

كانت صانور تشكل شوكة في حلق ظاهر وإمارته، كان بإمكانه ضمان حماية يافا وولاء أهل غزة والرملة ولكن نابلس طالما استعصت عليه، وولاء مشايخها للوالي العثماني لم يهتز يوماً، ولذا فقد وجد أن المفتاح لفرض انتشاره وتوسعه في جنوب غرب بلاد الشام مرتبط بنابلس وسيطرته على قلعتها، فضرب حولها حصاراً في أغسطس 1771م. استنجد الشيخ حمدان بن جرار بعثمان الجورجي والذي لم يتأخر عنه فخرج في 25 أغسطس على رأس قوة عسكرية ضخمة قاصداً نابلس في موعد دورته السنوية، رفع ظاهر حصاره عن نابلس وحشد عساكره وعساكر حليفه ناصيف نصار وتوجه من فوره لقطع الطريق على عثمان الجورجي وتلاقى الجمعان قرب بحيرة الحولة في 2 سبتمبر 1771م، وعلى غير المتوقع، مُنِي عثمان باشا الجورجي بهزيمة ساحقة أُبيد فيها معظم جيشه وكاد أن يُقتل فيها بسيوف الزيادنة، ولم ينجُ إلا بإلقاء نفسه في بحيرة الحولة وخوضها سباحة، وكاد يغرق فيها لولا أن أنقذه أحد الجنود الدلاتية(5) والذي رافقه إلى دمشق التي دخلها في 5 سبتمبر في حالة يرثى لها جعلت منه محط سخرية الجميع.

لم تمهل الدولة العثمانية عثمان الجورجي أكثر من ذلك، ورغم وفاءه التام وإخلاصه المطلق للدولة فإن الفشل تلو الآخر في مواجهته لظاهر أدى بالسلطان إلى إصدار أمر بعزل عثمان الجورجي عن دمشق وعزل ابنيه محمد ودرويش عن طرابلس وصيدا في أكتوبر 1771م، وعينت بدلا منه محمد باشا آل العظم واليا على دمشق وقامت بتعيين عثمان باشا المصري واليا على مصر ومنحته منصب ساري عسكر بلاد الشام. في ذات الوقت، أرسل ظاهر العمر حملة بقيادة ابنه علي الظاهر إلى المناطق الجنوبية من إمارته لإحكام السيطرة على غزة والرملة كما أنها قامت بالسيطرة على قلعة بيت جبرين في سنجق الخليل ومن ثم سيطر على المدينة نفسها في اكتوبر 1771م.

في المقال اللاحق، سيستمر تطور الأحداث بين ظاهر وولاة الدولة العثمانية، وستشهد إمارته توسعها الأخير، كما ستشهد تطوراً في مستوى المواجهة بينه وبين الدولة سيسببه تورط العثمانيين في حربهم مع روسيا والتغير الدراماتيكي للأحداث عند انتهاء هذه الحرب والذي سيتزامن مع وفاة السلطان مصطفى الثالث وتولي عبد الحميد الأول مقاليد السلطنة خلفاً له.

------------------------------------------

(1) حارب الأمراء الشهابيون أعدائهم المتاولة (بإذن من ولاة صيدا) عدة مرات خلال القرن الثامن عشر وانتصروا عليهم في غالبية معاركهم، مرة في 1701م، سيطروا بعدها على مقاطعات جبل عامل وتمت مكافأتهم بإعطائهم مقاطعات وسناجق من الجليل، منها طبرية التي عُيِّن صالح الزيداني (جد ظاهر) متسلماً عليها تحت رعاية الأمير منصور الشهابي، ثم أُخذت منهم بعد عدة سنوات وأُعيدت إلى المتاولة ضمن سياسة ولاة الدولة في صيدا لحفظ توازن القوى بين العائلات المتخاصمة، وأعاد الشهابيون الكرة مرة أخرى في 1751م ويذكر بعض المؤرخين أن هذا الانتصار الثاني كان السبب الرئيسي في تحصين ظاهر لأسوار عكا خوفاً من هجوم الشهابيين عليه، مع التنبيه على ما يبدو في هذا القول من مبالغة.

(2) عاد علي بك الكبير إلى مصر في 1768م واستطاع هزيمة جميع أعداءه ومنافسيه من المماليك بمعاونه مملوكيه إسماعيل بك ومحمد بك أبو الدهب، إضافة إلى قضائه على ثوار قبيلة الهوارة بقيادة شيخ العرب همام والذين كانوا يطمحون في الحصول على استقلال الصعيد عن القطر المصري والدولة العثمانية، بعد أن استتب له الأمر، تخلص من الولاة العثمانيين الذين كان يرسلهم له الباب العالي، فطرد الأول وسمم الثاني ورفض استقبال الثالث، كما صك عملة جديدة يظهر فيها اسمه بجانب اسم السلطان.

(3) كان عثمان باشا الجورجي قد نجح في حمل الباب العالي على تعيين ابنه محمد باشا والياً على طرابلس في بداية ستينات القرن الثامن عشر، كما أنه نجح في استصدار فرمان بتعيين ابنه الآخر درويش باشا والياً على صيدا في سبتمبر 1770م لمساعدته في حربه ضد ظاهر، فقد كان الوالي السابق (محمد باشا العظم) يعادي عثمان الجورجي (كحال جميع باشاوات آل العظم في تلك الفترة) بسبب وشايته بسيده السابق أسعد باشا العظم (راجع هوامش الجزء الثاني من المقال) فرفض محمد التعاون مع عثمان كما أنه ساعد في تأليب بعض أمراء جبل لبنان عليه وحثهم على التعاون مع ظاهر العمر.

(4) مدينة صغيرة تقع الآن على الحدود بين سوريا وتركيا.

(5) الدلاتية: جمع "دلي" بمعنى "مجنون" أو "جسور" وهو لفظ يستخدم لوصف طائفة من الجنود المعروفين بالجسارة والقوة والذين يتصدرون عادة طليعة الجيش العثماني، وهم فرسان شجعان لا يهابون الموت.

الاستعمار البريطاني في الجزيرة (2): بداية العلاقات البريطانية السعودية


(1)

أجمل الجزء الأول من هذا المقال عن الدور الاستعماري لبريطانيا في للإمارات والمشيخات داخل الجزيرة العربية الحديث عن بداية احتكاك المنطقة بالاستعمار الأوروبي الحديث، وبداية تزايد النفوذ التجاري البريطاني والهولندي والتنافس بين الدولتين ومن يمثل مصالح كل منهما في المنطقة وفي جنوب آسيا، وانتهى باستعراض لأهم الأحداث التي سبقت سيطرة السياسة البريطانية على إمارة الكويت وانتزاعها من السيادة العثمانية عبر الاعتراف باستقلالها تحت حكم الشيخ مبارك بن صباح آل الصباح وإعلانها محمية بريطانية، وسيكمل هذا الجزء من المقال الحديث عن إمارة عربية ثانية في الخليج، هي إمارة نجد الصاعدة تحت حكم الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، مؤسس سلطنة نجد (الدولة السعودية الثالثة والمملكة العربية السعودية لاحقًا) فيستعرض أهم الأحداث التي رافقت صعودها وبداية الاتصال بينها وبين الحكومة البريطانية كذلك.

(2)

للمرة الثانية على التوالي، ورغم اتساع رقعتها وانتشار دعوتها وحيازتها تأييد العديد من قبائل نجد والأحساء، انهزمت العائلة السعودية في محاولتها الثانية للاستقلال في نجد عن الحكم العثماني، وكما دمر إبراهيم باشا محمد علي عاصمتهم الأولى، الدرعية، في 1818، انهزم السعوديون خارج عاصمتهم الجديدة، الرياض، بعد خسارتهم لحربهم ضد أمير حائل وشيخ جبل شمر محمد ابن الرشيد في 1892، واضطر شيخهم عبد الرحمن بن فيصل آل سعود للتقهقر إلى الصحراء، في مكان ما بين الأحساء والرياض حيث مضارب بعض أنصار عائلته القدامى من قبائل العجمان وآل مرة، يرسل أبناءه إلى حكام وشيوخ القبائل يبحث بينهم عمن يقبل بإيوائه وحمايته، حيث رفض كل من أمير البحرين وأمير الكويت استقباله، ووجد ملتجأه في قطر.

أمضى عبد الرحمن بن فيصل آل سعود عدة أشهر في قطر قبل أن يتلقى اتصالاً من حاكم الكويت محمد بن عبد الله آل الصباح يدعوه فيه للإقامة لديه في الكويت، لقد رفض ابن الصباح بدايةً استقبال ابن سعود بسبب موقف كل منهما من الدولة العثمانية، حيث يناصرها ابن الصباح ويعاديها ابن سعود، ولكن ابن الصباح كان قد تلقى إيعازاً من والي الدولة العثمانية في البصرة باستقبال ابن سعود لديه، وتعهداً بالالتزام بدفع 60 ليرة ذهبية شهريا لتغطية مصاريف عائلته، يرى بعض المؤرخين أن الغرض من ذلك هو وضع نشاطه المستقبلي تحت المراقبة وحتى يظل ابن سعود فزاعة يمكن أن تستخدمها الدولة العثمانية في أي وقت يحاول فيه ابن الرشيد الخروج عن طاعتها والحصول على الحماية البريطانية. على أن الوقت الذي قضاه عبد العزيز، أكبر أبناء عبد الرحمن الأربعة، في الكويت قد أفاده بشكل كبير، بسبب توطد صداقته مع الشيخ مبارك بن عبد الله الصباح من جهة، وبسبب تعرفه على عالم جديد لم يكن يعرف عنه في صحراء نجد شيئاً، فقد تميزت الكويت ومنذ بداية تأسيسها بتنوع إثني وثقافي لا مثيل له في الصحراء، وكان ميناؤها نشطاً ويستقبل وفوداً تجارية وديبلوماسية من كل مكان في غرب وجنوب آسيا، إضافة إلى مندوبي الدول الاستعمارية الأوروبية، وكان احتكاك ابن سعود بهذا العالم سبباً في توسيع مداركه وزيادة حنكته بأمور السياسة، وربما كان ذلك الوقت الذي أدرك فيه أن حلم أبيه وأجداده بدءاً من إمام العائلة الأول محمد بن سعود الذي أسس الدولة السعودية الأولى في 1745، الحلم بسلطنة مستقلة في نجد يمتد نفوذها بحيث تتمكن من توحيد جميع مشيخات الجزيرة تحت سلطتها، لم يكن ليتحقق بدون ظهير قوي يقوم بإسنادها، وهذا الظهير لن يكون الدولة العثمانية بكل تأكيد، يُذكر أن السعوديين الأوائل، أمراء الدولة الأولى (1745 - 1818) رفضوا من قبل أي نوع من التعاون مع بريطانيا وظلوا مصدر رعب لسفنها التجارية خاصة بعد سيطرتهم على الأحساء وحصولهم على منفذ بحري على الطريق التجارية الرئيسية في الخليج، وقد احتفت بريطانيا بحملة إبراهيم محمد علي باشا على عاصمتهم الدرعية والتي دمرها في 1818م، على أن الظروف الآن اختلفت بالنسبة لعبد العزيز، فها هي دولة أجداده تتعرض لخطر الاندثار للمرة الثانية، بسبب رفض أمرائها أول مرة أي اسناد أجنبي، وبسبب عدم قدرتهم على الحصول هذا الاسناد في المرة الثانية، وأصبح يفكر جدياً بالحصول على الدعم البريطاني من أجل إعادة بناء هذه الدولة مرة أخرى، وهو الذي سيتحقق له كما سيتوضح بعد قليل.

(3)

بعد سيطرة مبارك آل الصباح على مقاليد الحكم في الكويت وبعد إظهاره للعداء مع الدولة العثمانية، اشتد العداء بينه وبين آل الرشيد في حائل وجبل شمر، ونجم عن ذلك قيام كل منهما بتوجيه عدة حملات عسكرية على مناطق نفوذ الآخر، وقد حاولت الدولة العثمانية استغلال آل رشيد في حائل ليقوموا بدلا عنها بالقضاء على مبارك حتى لا يستفز تدخلهم المباشر عداء الانجليز، الذين لم يتدخلوا في معارك مبارك ضد آل رشيد لذات الأمر، وقد استغل مبارك ضيفه عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وجعله قائداً على بعض الفصائل التي شنت هجماتها على مناطق نفوذ إمارة شمر مستفيداً مع العلاقات السابقة بين عائلته وبين قبيلتي العجمان وآل مرة، وفي عام 1900 وضع مبارك خطة مع عبد العزيز للهجوم على إمارة جبل شمر من جبهتين منفصلتين بإيعاز من البريطانيين، فجمع كلاهما تأييد بعض القبائل في نجد والكويت، وجرَّدا حملتين عسكريتين على الرياض بقيادة عبد الرحمن آل سعود وعلى الصريف بقيادة مبارك نفسه، استطاع عبد الرحمن اجتياح الرياض وسيطر على المدينة وبقي الحصن مستعصياً عليه فضرب عليه الحصار، فيما تلاقت قوات مبارك مع القوات الحائلية وانهزمت أمامها شر هزيمة، الأمر الذي شجع ابن رشيد على الهجوم على منطقة الجهراء الساحلية تنفيذاً لرغبة العثمانيين في الحصول على منفذ بحري يساعد في إحكام الحصار على ميناء الكويت بحراً، ولكن قوات ابن رشيد ورغم سحقها وتشتيتها لقوات مبارك إلا أنها فشلت في اتمام سيطرتها على الجهراء بسبب التدخل العسكري البحري البريطاني. وصلت أنباء هزيمة مبارك لعبد الرحمن، ففض حصاره حول حصن الرياض وغادرها عائداً إلى الكويت.

ظل عبد العزيز بن عبد الرحمن فيما بعد عاماً كاملاً يحاول إقناع مبارك باستئناف الحرب ضد ابن رشيد، وهو الأمر الذي رفضه مبارك جملةً وتفصيلاً بسبب تشتت قسم كبير من قواته وخوفه من خسارة تأييد البريطانيين له إذا ما تكررت هزيمته على يد ابن رشيد مرة أخرى، كما أنه ما كان ليغامر بخسارة تأييد وولاء القبائل النجدية التي ساندته في الهجوم الأول، لكنه في النهاية استجاب لرغبة عبد العزيز فسمح له بالخروج لوحده مع خاصته وبني عمومته فقط، وسلحه بثلاثين بندقية ومنحه مبلغ مائتي جنيه استرليني، وخرج عبد العزيز على رأس قوة مكونة من أربعين شخصاً من الكويت(1) ووصل إلى الرياض في يناير 1902 وقتل عجلان عامل ابن رشيد(2) وسيطر على المدينة، ولم تفلح محاولات ابن رشيد في استعادة الرياض فيما بعد بسبب تمسك عبد العزيز بمدينته ومناصرة أهلها لها بكل قوتهم. طلب عبد العزيز من والده عبد الرحمن الحضور إلى الرياض، وقد أعلن الأب البيعة لابنه متنازلاً له عن الإمارة ومكتفياً بموقعه كمستشار سياسي له.

عادت العائلة السعودية إلى الواجهة واستعادت نفوذها في نجد بعد استعادة الرياض، وبدأت تتشكل إرهاصات قيام دولتها الثالثة، وتحالف عبد العزيز مع مبارك على حرب ابن رشيد، إذ طمح ابن سعود في تعزيز موقعه وسلطته في نجد، وفيما ظل مبارك يمثل بريطانيا في صراع النفوذ بينها وبين الدولة العثمانية التي يمثلها ابن رشيد، وقد خاض من 1902 حتى 1921 ضد إمارة جبل شمر وزعيمها بن رشيد عشرة معارك كان ختامها معركة حائل والتي تم بها السقوط النهائي لإمارة جبل شمر وحكم ابن رشيد في الجزيرة العربية.

(4)
 
عزم عبد العزيز على كسب ود بريطانيا وإقناعها بالاعتراف باستقلاله منذ اللحظة التي استلم فيها مقاليد الأمور مرة أخرى في الرياض، وقد أرسل في مايو 1902 (بعد انتصاره في معركة الرياض بأقل من أربعة أشهر) رسالة إلى المقيم السياسي في الخليج يطلب منه إقناع حكومته بتقديم حمايتها له، وعاد وكرر طلبه مع وفد ضم بعض أعيان الأحساء أرسله للوكيل السياسي البريطاني في الشارقة في 1903 يطلب فيه الضوء الأخضر لمهاجمة الأحساء والقطيف التابعتين للدولة العثمانية، وأرسل عدة رسائل في 1904 وطلب من مبارك الصباح أن يتدخل كذلك لمحاولة إقناع بريطانيا بمساعدته وعاد ليحتج أمام بريطانيا ضد الدولة العثمانية بسبب تدخلها العسكري المباشر لصالح ابن رشيد وطلب من بريطانيا أن تتدخل لتعديل ميزان القوى على الأقل، وقد عزز طلبه هذا بعدة رسائل أرسلها للمقيم السياسي في الخليج والقنصل البريطاني في البصرة والسفير البريطاني في اسطنبول يخبرهم فيها بنتائج فوزه الساحق على بن رشيد في معركة روضة مهنا في 1906.

بقيت بريطانيا على تلكؤها رغم إلحاح عبد العزيز الشديد ورغم استعداده المطلق للانضواء تحت جناح بريطانيا وحماية جميع مصالحها في المنطقة، وذلك خوفاً من مواجهة مباشرة مع الدولة العثمانية وما قد ينتجه ذلك من أزمة ديبلوماسية قد تتطور إلى حالة تهدد المصالح التجارية لبريطانيا في الخليج، وقد رد وكلاء حكومة الهند البريطانية ومقيموها السياسيون في الخليج على عبد العزيز دائماً بأن بريطانيا لا تملك مصلحة في تجاوز نفوذها على الساحل والتعمق إلى داخل الصحراء، ولا مصلحة لها في معاداة الدولة العثمانية خاصة وأنها (أي بريطانيا) كانت قد انتزعت منها السيادة على الكويت منذ وقت قصير، إضافة إلى أن بريطانيا لم تكن تثق في عبد العزيز بعد وترى أنه غير قادر لوحده على فرض سيطرته على الصحراء خاصة وأن بن رشيد يحظى بالرعاية العثمانية. 

عينت حكومة الهند البريطانية في 1910 الكابتن وليم شكسبير(3) وكيلاً سياسياً جديداً في الكويت، وقد كان الرجل يتصف بميزات خاصة منها إجادته للعربية ومعرفته بشيوخ القبائل وطبيعته المغامرة، وقد التقى شكسبير بعد العزيز في الكويت في سنة تعيينه، وقام بشد الرحال إلى إمارته في العام الذي يليه واستقبله ابن سعود في الرياض، وجرت بينهم عدة جولات من المحادثات غير الرسمية أفضت إلى اكتساب شكسبير قناعة شبه تامة عن أهمية عبد العزيز بالنسبة لبريطانيا، وعن تأكده من قدرة عبد العزيز من حماية المصالح البريطانية ، وظهر ذلك في الرسائل التي كان يرسلها تباعاً للمقيم السياسي في الخليج وللحكومة البريطانية في الهند. ولكن بدون أن يستطيع تقديم أية وعود حقيقية لعبد العزيز، كما أن ردود فعل حكومته كانت مخيبة للآمال كالعادة، وأبدت إصراراً على عدم تجاوز الحدود التقليدية للنفوذ البريطاني على الساحل.

كان أمل عبد العزيز الوحيد يتمثل في سيطرته على الأحساء والقطيف وما يتبع للمنطقة من موانئ، فهو إن استطاع الوصول إلى منفذ على مياه الخليج سيجبر البريطانيين على التحالف معه بدون شك، فيما ظل الأمر معقداً بالنسبة له، فهو لا يريد مهاجمة الأحساء بدون موافقة ورعاية بريطانية، ويحتاج لمهاجمة الأحساء والسيطرة عليها حتى يحصل على هذه الرعاية، حاول عبد العزيز إقناع مبارك الصباح بضرورة الهجوم على الأحساء في منتصف العقد الأول من القرن العشرين، ولكن مبارك نصحه بالتريث والانتظار للحصول على فرصة مواتية، وخلال السنوات اللاحقة تضافرت الأجواء المناسبة بسيطرة الاتحاديين على الحكم في اسطنبول، وتورطهم في الحرب البلقانية العثمانية وخسارتهم لليبيا لدولة أوروبية ضعيفة نسبياً هي إيطاليا، مما هز صورة القوة العسكرية للعثمانيين في الجزيرة العربية، كما أنه ومع مرور الوقت أصبح عبد العزيز الحاكم الأوحد في وسط الجزيرة بنفوذ يمتد من وادي الدواسر في الجنوب حتى حدود حائل في الشمال ومن حدود الأحساء شرقاً حتى حدود الحجاز في الغرب، واستطاع أخيراً الحصول على موقف بريطاني مؤيد لهجومه على الأحساء بوساطة كويتية، مع وعد بوقوف بريطانيا على الحياد وعدم مهاجمته إذا وصل إلى البحر تحت شرط واحد، وهو ألا يقترب من مصالحها في الخليج. وبالفعل، فقد جهز عبد العزيز قواته وغزا بها الأحساء في مايو 1913 وهزم حاميتها العثمانية.

بعد انتصاره في الأحساء، سارعت الحكومة البريطانية بإرسال المقيم السياسي في الكويت وليم شكسبير إلى الرياض مرة أخرى، والتقى مع عبد العزيز في مدينة القطيف في ديسمبر 1913، أكد شكسبير أهمية صداقته بالنسبة للحكومة البريطانية، وطلب منه أن يوقف تقدمه باتجاه إمارات الساحل العماني، وأبدى لعبد العزيز تفهمه لضرورة منح بريطانيا حمايتها لعبد العزيز واعترافها بإمارته، ويمكن القول أن الكابتن شكسبير استطاع نقل قناعاته هذه لحكومة الهند البريطانية، ولكنها تلقت رداً سلبياً من لندن بخصوص تقرير شكسبير وطلبت من حكومة بومباي الإبقاء على الوضع الحالي وإبقاء النشاط السياسي لحكومة الهند البريطانية محصوراً في الساحل فقط.

في الواقع فإن بريطانيا قد كانت قد خطت بالفعل مع الدولة العثمانية حدود الإمارات الخليجية حسب معاهدة أنجلو-عثمانية تم الاتفاق عليها في 29 يوليو 1913 وقد اعترفت بريطانيا حسب هذه المعاهدة والخرائط الناتجة عنها بسلطة العثمانيين على نجد والأحساء، صحيح أن هذه المعاهدة لم تُطبق ولم يتم المصادقة عليها بسبب تحفظات بريطانية ظلت مستمرة حتى دخول كلا البلدين في الحرب العالمية، ولكنها عبرت عن تجاهل بريطاني سافر لعبد العزيز، رغم إبداءه الاستعداد في كل مناسبة للتعاون مع بريطانيا، ما أجبره على توقيع معاهدة مع طالب النقيب، وهو سياسي عراقي مخضرم مثل السلطات العثمانية، واعترف عبد العزيز في المعاهدة بالسيادة الاسمية للباب العالي على نجد والأحساء ووافق على استقبال حامية عثمانية ورفع علم الدولة على مقر حكومته في الرياض، وتم توقيع المعاهدة في 15 مايو 1914، لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى كان كفيلاً بتغيير كل شيء، فرغم أن المعاهدة بين عبد العزيز والسلطات العثمانية قد كانت تضم صراحة بنداً يلزم عبد العزيز بنصرة الدولة العثمانية عسكرياً في حربها مع أي دولة أجنبية، إلا أن عبد العزيز تلكّأ في نصرة إيالة البصرة بالرجال والسلاح عندما طُلب منه ذلك وتركها لتقع تحت سلطة البريطانيين في نوفمبر 1914 دون تدخل منه، وكررت السلطات العثمانية طلبها من عبد العزيز بعد احتلال البريطانيين للبصرة عبر وفد خرج من بغداد سالكاً طريقاً وعراً وطويلاً يمر بحلب والحجاز ثم إلى مدينة الرياض، وكان الوفد برئاسة السياسي العراقي العثماني محمود شكري الألوسي، والذي حاول بمعاونه وفده المرافق تشجيع عبد العزيز على الدخول في الحرب وتنفيذ التزامه حسب المعاهدة المبرمة بينه وبين سلطات الباب العالي، إلا أن عبد العزيز رفض محتجاً بضعف قوته العسكرية وألمح إلى ضرورة إنهاء العثمانيين لحكم بن رشيد قبل أن يقدم خدماته لهم. فضَّل عبد العزيز البقاء على الحياد خلال تلك الظروف ورفض أن يحارب لأجل العثمانيين أو الانجليز، في ذات الوقت الذي بدأ فيه الانجليز أخيراً، وبسبب ظروف الحرب بشكل خاص، بتقدير أهمية عبد العزيز والموقع الاستراتيجي لإمارته، وتزايدت الدعوات داخل أروقة الخارجية البريطانية ووزارة شؤون الهند لعقد اتفاق معه، خاصة وأنه أبدى سلوكاً سلبياً تجاه العثمانيين المتورطين في الحرب، فحاولوا حثه على مساعدة مبارك الصباح وخزعل بن جابر (حاكم المحمرة، الأحواز) على احتلال البصرة وطرد العثمانيين منها، وأرسل له مبارك رسالة يدعوه فيها للقدوم إلى الكويت للتشاور في الأمر مع بعض المسؤولين البريطانيين الذين حضروا خصيصاً إلى الإمارة لمناقشة الدور الذي يمكن أن تلعبه المشيخات الخليجية الموالية لبريطانيا في الحرب (في يناير 1915)، ولكنه رد عليهم بكل تهذيب برفضه ذلك وتفضيله تجنيب رعيته ويلات الحرب. وقد كان الإنجليز فقدوا الأمل في تشكيل قوة متحدة ومنظمة من مشيخات الخليج العربية يمكن أن تقاتل العثمانيين نيابة عنهم، وقاموا بإنزال عدة فيالق مكونة من عناصر إنجليزية وهندية على الأراضي العراقية قاتلت ضد العثمانيين والقبائل العربية في العراق ونجحت في السيطرة على البصرة بعد أقل من شهرين من القتال.

(5)

أرسلت بريطانيا في الثالث عشر من يناير 1915 مقيمها السياسي في الكويت وليم شكسبير إلى الرياض، وقد أجرى عدة جولات من المحادثات مع عبد العزيز محاولاً إقناعه بالثورة ضد الأتراك والمساهمة في النشاط العسكري في الحرب، وظل عبد العزيز، ورغم اعجابه الشديد بشكسبير ومحبته له، مصراً على موقفه الرافض لدخول الحرب بشكل مباشر، متذرعاً بابن رشيد وخطر إمارة جبل شمر على سلطته في نجد، أرسل شكسبير لحكومته في الهند رسالة يؤكد فيها على موقف عبد العزيز المحايد ويؤكد أنه لن يتحرك ضد العثمانيين إلا بعد تثبيت مركزه الفعلي كحاكم مستقل لنجد والأحساء تحت الحماية البريطانية، كان الوضع الميداني بين عبد العزيز وبن رشيد متوتراً وكان كلاهما يحشد قواته لمعركة مرتقبة، وقد اندلعت بالفعل في السابع عشر من يناير 1915 في جراب، وقد أصر شكسبير على المشاركة في المعركة كبادرة حسن نية رغم معارضة عبد العزيز لذلك بشدة، وأصيب خلال المعركة في مقتل وهُزم عبد العزيز في المعركة، تعثرت المفاوضات بعد وفاة شكسبير وعادت لتُستأنف مرة أخرى تحت رعاية المقيم السياسي في الخليج (بيرسي كوكس)(4)، تركزت المحادثات بين كوكس وعبد العزيز على نقطة جوهرية واحدة، وهي المساهمة العسكرية التي يمكن أن يقدمها لبريطانيا ضد العثمانيين خلال الحرب، استطاع عبد العزيز إقناع كوكس بأنه يقدم للإنجليز خدمة بالفعل في حربه ضد بن رشيد الموالي للعثمانيين والذي سينخرط في العمليات العسكرية العثمانية ضد البريطانيين قريباً، وأن ما يفعله ضد بن رشيد أكثر من كافٍ ليعبر عن دعمه للتاج للبريطاني، اقتنع كوكس بكلام عبد العزيز وأتم اتفاقه معه بناء على هذا الأساس ووقع معه معاهدة الحماية البريطانية المعروفة باسم معاهدة (دارين-العقير) في السادس والعشرين من ديسمبر 1915، وقد نصت المعاهدة على توفير بريطانيا للدعم المادي والعسكري لعبد العزيز بعد اعترافها باستقلال إمارته عن الدولة العثمانية  التي تشمل أراضي الأحساء والقطيف ونجد وتوفير الحماية لها، مع تعهد عبد العزيز بعدم التعرض لأي من المشيخات العربية الخاضعة للحماية البريطانية، وعدم التصرف في أي من أراضي إمارته بالبيع أو التأجير أو التنازل لأي قوة أجنبية، وعدم التعامل مع أي دولة أجنبية إلا تحت المظلة البريطانية، وتوفير الحماية في الطرق النجدية الأحسائية للقوات البريطانية وقتما احتاجت ذلك، ودعمت بريطانيا خزينة عبد العزيز بعشرين ألف جنيه استرليني دُفعت له على الفور بجانب معونات عسكرية من أسلحة وذخائر وراتب شهري قدره خمسة آلاف جنيه. وحصل بذلك عبد العزيز على مبتغاه الذي انتظره لأكثر من ثلاثة عشرة عاماً (5).

-------------------------------------------

(1) رغم المبالغة في القول بأن عبد العزيز استطاع فتح الرياض بأربعين مقاتل فقط، إلا أن أغلب المراجع والمصادر التي ذكرت الحادثة اتفقت على هذه التفصيلة بالذات، وقد كان عبد العزيز قد جمع كثيراً من الأنصار خلال خروجه من الكويت والذين ساعدوه على شن غزوات متفرقة على بعض قوافل ابن رشيد ومصالحه التجارية ولكنهم تفرقوا عنه بعد انتهاء الغزو وحصولهم على الأسلاب والغنائم، فلم يغامر أي منهم بمعاداة ابن رشيد والدولة العثمانية ووصل عبد العزيز للرياض ومعه ذات العدد الذي خرج به من الكويت، كما أن تفاصيل في بعض الروايات، والتي تجعل اقتحام حصن عجلان عامل ابن رشيد على الرياض واغتياله أشبه ما تكون بعمليات الكوماندوز، ومعاداة أهل الرياض لعجلان ورئيسه بسبب قسوتهم في التعامل مع العاصمة السعودية وأهلها ومناصرتهم لابن سعود، إضافة إلى حقيقة أن عبد العزيز قد قضى بعض الوقت في العام الماضي محاصراً لقلعة الرياض ومن المرجح أنه كسب لنفسه أثناء تواجده في تلك الفترة القصيرة حلفاء وأنصار من الرياضيين ساعدوه على اقتحام حصن الرياض من الداخل، كل هذه العوامل ساعدت عبد العزيز وسهلت له المهمة الصعبة.

(2) سيستخدم هذا المقال وصف "بن رشيد" كمسمى لرأس عائلة آل رشيد وأمير حائل اختصاراً، مع العلم أن الفترة التي يغطيها المقال (من معركة الرياض في 1902 حتى معاهدة العقير 1915) تعاقب على حكم الإمارة خمسة أمراء وفيما يلي بيان أسمائهم وسنوات حكمهم:

- عبد العزيز بن متعب 1897 - 1906
- متعب بن عبد العزيز بن متعب 1906
- سلطان بن الحمود 1906 - 1907
- سعود بن الحمود 1907 - 1908
- سعود بن عبد العزيز 1908 - 1920

(3) وليم آرفن شكسبير (1878 - 1915): ضابط بريطاني من مواليد إقليم البنجاب، عمل في حكومة الهند البريطانية وتم تكليفه بالإقامة في الكويت كمبعوث لحكومة نائب الملك، ويعتبر أحد أفضل رجال الحكومة الهندية في الخليج بدون منازع، فقد كان يجيد اللغة العربية بطلاقة ويتأقلم سريعاً مع الحياة في الصحراء وقادر على السفر خلالها دارياً وعالماً بمجاهلها وقد قام بعدة رحلات انطلاقاً من الكويت وصلت حتى حدود سيناء وفلسطين والحجاز ويمكن اعتبار أهميته بالنسبة لحكومة الهند البريطانية موازية لأهمية توماس لورانس (لورانس العرب) بالنسبة لمكتب الخارجية البريطانية في القاهرة. كوَّن صداقات كثيرة ساعدته في إتمام مهامه الديبلوماسية وكان مبارك الصباح وعبد العزيز آل سعود يعتبرونه من أعز أصدقائهم وخير من يمثل مصالحهم لدى الحكومة البريطانية. أصر على المشاركة في معركة جراب بجانب ابن سعود ضد قوات بن رشيد في 1915 وقتل خلال المعركة.

 (4) بيرسي ز. كوكس (1864 - 1937): سياسي بريطاني وعسكري مرموق عمل لصالح الحكومة البريطانية في عدد من مستعمراتها (في الهند والصومال) وأدى عديداً من الوظائف الديبلوماسية في الخليج الفارسي، كمقيم سياسي في عُمان وبوشهر وعملاً قنصلا لصالح بريطانيا في البصرة، وأصبح رئيساً للمقيمين السياسيين في الخليج، وعين مندوباً سامياً في العراق بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.

(5) بحسب شهادة حافظ وهبة، وزير عبد العزيز وممثله في بريطانيا بعد الحرب العالمية، فأن عبد العزيز قد أخبره بعد اتمام معاهدته مع بريطانيا وممثلها بيرسي كوكس: (لقد اعطاني كوكس الشمس في يميني والقمر في يساري).