لتحميل نسخة إليكترونية PDF من المقال (اضغط هنا)
تقديم
مضت ثلاثة أشهر فقط على تولي عثمان باشا الكرجي وزارة دمشق في تشرين الثاني 1760 قبل خروجه لأول مرة لأداء مهام قافلة الدورة[1] في الأجزاء الجنوبية لإيالته، استعدادًا لموسم الحج، مرت قافلة عثمان باشا من قرية الطنطورة القريبة من حيفا والواقعة ضمن التخوم الفاصلة بين سنجقي حيفا واللجون، كانت الطنطورة حتى تلك اللحظة خاضعة لسيطرة ظاهر العمر الزيداني وإمارته المتمركزة حول عكا والممتدة نحو بر الجليل حتى بحيرة طبرية، قتل عثمان باشا رجال ظاهر العمر وسيطر على الطنطورة وترك فيها حامية صغيرة وأكمل طريقه نحو الجنوب، لم يمض الكثير قبل أن يعود ظاهر العمر مرة أخرى ليطرد رجال دمشق من الطنطورة ويستعيدها مرة أخرى.
انشغل عثمان باشا لاحقًا برحلته إلى الحجاز بصفته أميرًا لقافلة الحج الشامي، ولكنه أوعز لمحمد باشا العظم والي صيدا باستعادة السيطرة على حيفا، وقد تحرك محمد العظم مجبرًا على طاعة عثمان باشا، الذي كان يتصرف بناء على أوامر استصدرها في وقت سابق من إسطنبول باستعادة ميناء حيفا الصغير من سيطرة ظاهر العمر، دفع محمد العظم بثلاثين من جنده على متن سفينة نقل فرنسية نقلتهم من صيدا إلى حيفا، وكانت محاولته من الضعف والخجل بمكان لدرجة أن الأمر لم يتطلب من ظاهر الكثير من الجهد لإفشالها، فسيطر على السفينة وألقى القبض على رجال الوالي وقائد السفينة الفرنسي والذي لم يُفرج عنه إلا بعد فدية أُجبر على دفعها لظاهر.
مثلت تلك الحادثة بداية لتحول حاد في طبيعة العلاقة بين ظاهر العمر وإمارته في الجليل التي كانت في طور التشكل والنماء طيلة عقود سابقة وبين إيالة دمشق التي كانت أقوى كيان سياسي يمثل النخبة العثمانية في بلاد الشام، بعد سنوات من الهدوء الذي ساد خلال فترة ولاية وزير دمشق السابق أسعد باشا العظم، وسيأخذ هذا المنعطف العلاقة بين دمشق وعكا إلى حدود غير مسبوقة في تاريخ المنطقة التي لم يتمظهر فيها هذا العداء بين المدينتين بهذه الصورة إلا في الفترة الأخيرة من تاريخ الوجود الصليبي في بلاد الشام في نهايات القرن الثالث عشر.
ستناقش السطور اللاحقة فترة مهمة وحاسمة في تاريخ ظاهر العمر الزيداني وإمارته في عكا والجليل، وستمثل استكمالًا لجزئين سابقين من دراسة قمت بتخصيصها لدراسة التاريخ السياسي والاقتصادي للزيادنة في شمال فلسطين وعلاقاتهم الإقليمية والدولية، حيث شرحت الظروف التي مكنت زعيمًا محليًا من خلق كيان سياسي بقوة عسكرية واقتصادية أهلته ليتمتع بدرجة عالية من "الحكم الذاتي" داخل الفضاء العثماني، وسيستكمل هذا الجزء من البحث دراسة تاريخ السنوات الأخيرة من حكم الزيادنة في الجليل وعلاقاتهم بالقوى المحلية والإقليمية في بلاد الشام والإمبراطورية العثمانية، حيث تشكل هذه السنوات فترة حاسمة في تاريخ الإمارة الزيدانية التي تداعت بالانهيار عقب مقتل قائدها ظاهر العمر بعد هجوم بحري عثماني على عكا في 1775. [2]
ما بعد أسعد العظم
أنهت الحكومة العثمانية خدمات وزيرها أسعد باشا العظم على دمشق في العام 1755 بعد أكثر من عقدٍ استقرت خلاله العلاقات بين دمشق والزيادنة وقد خلت في معظم الأوقات مما قد يعكر صفوها، وغالبًا ما ينسب الفضل في فترة الهدوء هذه إلى أسباب من قبيل تضاؤل اهتمام أسعد العظم بمحيطه الإقليمي مقارنة بعمه وزير دمشق السابق سليمان باشا واهتمامه أكثر بدمشق نفسها وتطوير عمرانها وتجارتها الإقليمية، بالإضافة إلى "خوفه" من مقارعة الزيادنة الذين فشل عمه في هزيمتهم بشكل حاسم بعد ثلاثة حملات عسكرية خلال السنوات 1737 – 1743، وكلا السببين صحيح ولو بشكل نسبي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أسعد باشا لم يتوان عن التدخل في شؤون الجليل بطريقته الخاصة ممارسًا اللعبة السياسية ومستغلًا حاجة بعض الجهات داخله وخارجه لتحجيم نفوذ ظاهر العمر وهو ما قد تناوله الجزء السابق من هذه الدراسة بالشرح والتحليل.
بأي حال فإن الظروف التي ساهمت في تحاشي أسعد باشا للتدخل المباشر في الجليل لم تتوافر لخلفائه، وقد نقول (خلفاءه) ولكن المقصد هنا هو عثمان باشا الكرجي تحديدًا، وقد فصل بين أسعد وعثمان ثلاثة وزراء لدمشق، أولهم كان هشام باشا المكي الذي عُزل بعد فاجعة هجوم القبائل البدوية شرق الأردن على قافلة الحج الشامي خلال عودتها من الحجاز في 1757، وهو الهجوم الذي نتج عنه مجزرة بشعة راح ضحيتها الآلاف من رواد القافلة، والثاني كان عبد الله باشا شتجي الذي عينته الدولة خصيصًا لشن حملة تأديبية على قبائل بني صخر التي هاجمت قافلة الحج خلال العام الماضي، وتلاه عبد الله باشا الشالك والذي انشغل بمعالجة الآثار المدمرة لسلسلة من الزلزال التي ضربت دمشق في 1759، ولم يجد ثلاثتهم لا الوقت ولا الموارد الكافية للالتفات لظاهر العمر أو غيره من الأعيان والسياسيين المحليين.
جدير بالذكر هنا أن هشام باشا المكي قد أعلن عن نيته باستعداء الزيادنة فور وصوله إلى كرسي الوزارة، وقد أرسل لظاهر العمر يأمره بتسليم ما تحت يده من الأراضي والقرى الخاضعة إداريا لسيطرة دمشق (ومنها الطنطورة المذكورة بأعلى المقال)، وضرب له موعدًا بالحرب بعد عودته من قافلة الحج التي نُكبت بالهجوم كما سبق ذكره. لقد حملت بعض المصادر التاريخية مسؤولية الهجوم لظاهر العمر، على الرغم من اختلاف المصادر في تحديد سبب الهجوم من الأصل، مع الأخذ بالاعتبار أنه لم يكن الهجوم الأول على القافلة، فمنذ أن فرض العثمانيون سيطرتهم على الشام وطريق الحج وقع ما يقارب 24 اعتداء على قافلة الحج، منها 19 هجومًا في القرن الثامن عشر فقط، وتفيد بعض الروايات أن ظاهر العمر قد سمح للقبائل البدوية المهاجمة للقافلة ببيع منهوباتها في أراضيه، كما يفيد البعض بأن ظاهر قد اشترى منها العقال والمحمل النبوي[3] الذي تحمله القافلة وقام بإرساله لاسطنبول، أثار ذلك الشكوك بتحريض ظاهر العمر لبني صخر وحلفائهم بالهجوم على القافلة، وهو اتهام لا يمكن تأييده أو نفيه في ضوء المتوفر من المعلومات، ولكن دافعه هو ما ذكر قبل قليل من تهديد هشام باشا لظاهر العمر بالحرب بعد عودته من الحج.
ما يهمنا هنا أن تهديدًا قد وقع بالفعل ضد ظاهر العمر، وهو دليل على تغير في توجهات الدولة نحوه، والتي كانت حتى تلك اللحظة قد امتنعت، على الأقل بعد وفاة سليمان العظم، عن إصدار أي أوامر بالتحرك ضده عسكريًا. لقد أرسل الباب العالي توجيهات عامة لأسعد باشا العظم سابقًا تأمره بتسيير شؤون التجار الأجانب، الفرنسيين تحديدًا، في أراضي ظاهر العمر وميناء عكا على وجه الخصوص، وكانت هذه التوجيهات مدفوعة بجهود السفير الفرنسي في العاصمة إسطنبول الذي حاول عبر القنوات الرسمية أن يكف أذى ظاهر العمر عن التجار الفرنسيين الذين عانوا من الاحتكار الذي فرضه على تجارة القطن والحبوب، حيث منع أي اتصال بين الفرنسيين والتجار المحليين ومشايخ الفلاحين، ونصب نفسه وسيطًا أوحدًا بين الطرفين بحيث تمر جميع التعاملات التجارية عبر جهازه الإداري في عكا حصرًا، ومما يبدو فإن الباب العالي قد بدأ في تغيير سياسته تجاه ظاهر، مفضلًا العمل على تحجيم نفوذه قدر الإمكان لمنع انتشاره خارج حدود إيالة صيدا، وكان واضحًا أن كارثة قافلة الحج لم تقم إلا بتأخير الباب العالي فحسب عن تنفيذ سياسته، والتي أكدتها الأوامر التي وصلت إلى عثمان باشا الكرجي عقب تسلمه مهام وزارة دمشق، والتي شرع في تنفيذها فورًا.
مواجهة منخفضة الكثافة
بدأ العقد السابع من القرن الثامن عشر بمواجهة كانت تبدو حتمية بين دمشق وعكا، خصوصًا بعد أن أمضى ظاهر العمر العقدين الماضيين يرسم حدود كيان سياسي قوي واضح المعالم يمكن أن يتحول في أي لحظة إلى مشكلة عويصة بالنسبة للباب العالي، صحيح أن ظاهر قد أبقى على علاقات وطيدة مع الحكومة، وحاول استغلال كل قناة ديبلوماسية ممكنة من أجل صرف نظر السلطان عنه، كما أنه التزم دائمًا بدفع مال الميري لوالي صيدا في موعده دون تأخير أو نقص، وحاول بكل استطاعته قطع الطريق على أي ذريعة قد يستخدمها الباب العالي لاستنهاض أي عمل عسكري ضده، لكنه في المقابل رسم على الأرض صورة لكيان سياسي يسعى لتجاوز الحدود التقليدية في العلاقة بين الباب العالي والشبكة الواسعة من الأعيان المحليين المنتشرين في أقاليم الإمبراطورية والذين أنيطت بهم ضمنًا مهمة الوصل بين سلطة السلطان وخزينته وبين ضرائب رعاياه وشرعية السلطان السياسية والدينية التي قبلوا الاعتراف بها، مع مراعاة الاختلافات الواضحة في الظروف الاجتماعية والاقتصادية بين كل إقليم وآخر، وقد ظهر أن الزيادنة قد بدأوا يتجاوزون حدودهم في مسعاهم نحو مستوً أعلى من "الاستقلالية" وكان لا بد من العمل على تحجيم طموحاتهم قدر المستطاع.
على الرغم من ذلك، يمكن القول أن هذا الادعاء على منطقيته لا يكفي لتفسير التغير في سياسة الباب العالي تجاه الزيادنة، والحق أن هذا التغير لم يكن منشأه الباب العالي وما قد كان لديه من تخوفات منطقية فحسب، فحتى ذلك الحين لم يكن ظاهر العمر قد أظهر ما يكفي من الخطورة على السيادة العثمانية في شمال فلسطين، ولم يظهر في سلوكه أي بادرةٍ للعصيان، لكن النخبة العثمانية في دمشق كانت تراقب بعين حذرة النهضة الاقتصادية التي نَعِم بها الجليل تحت الحكم الزيداني خلال العقود الماضية، وقد وجدت في تركز ثروات الجليل ذي الإمكانات الاقتصادية الواعدة في يد سياسي محلي لا يملك صفة رسمية بخلاف كونه ملتزمًا للضرائب خطرًا لابد من إيقافه، وكذلك فرصة لابد من استغلالها، وقد أوضح الجزء السابق من الدراسة أن أسعد باشا العظم قد أطلق يد ظاهر العمر في المنطقة بدون أي تدخلات حادة يمكن أن تقلب الأمور ضد الزيادنة في الجليل، وقد وفر لهم ما يمكن وصفه بغطاء سياسي لتوطيد علاقتهم مع التجار الأجانب في عكا، والتي قام الزيادنة بترسيمها عبر اتفاق رسمي مع الحكومة الفرنسية يقضي بتعاملهم مع ظاهر العمر فقط باعتباره محتكرًا لتجارة المحاصيل التجارية في المنطقة، وبصرف النظر عن دوافع أسعد باشا لمنح الزيادنة مثل هذا الامتياز، فإن من لحقه من وزراء دمشق لم يكن لديهم مثل هذا الدافع، وقد وجدوا في الشبكة التجارية الدولية التي أرساها الزيادنة في عكا فرصة ممتازة لتحقيق الثروة، بخلاف حقيقة انتباههم للخطر الذي تمثله إمارة الزيادنة على اقتصاد إيالتهم نفسه وسناجقها الجنوبية على وجه الخصوص، خاصة وأن مراكمة الزيادنة للثروة والقوة العسكرية كانت ستعني بلا شك البدء في تحركهم عاجلًا أو آجلًا نحو التوسع جنوبًا خارج حدود إيالة صيدا، وهو ما لم يكونوا ليسمحوا بحدوثه، وانطلاقًا مما سبق، حرص عثمان باشا الكرجي على بدء فترة ولايته الطويلة لدمشق بتحرك عسكري ضد الزيادنة، فحاول فصل الطنطورة وحيفا عن إمارة الزيادنة واستعادتهما مرة أخرى تحت إدارة دمشق.
كانت حيفا حتى 1723 جزءًا من إيالة دمشق، وقد فُصلت عنها وأُلحقت رسميًا بإيالة صيدا في مسعى من الباب العالي لتطوير مينائها وحمايته من سيطرة القراصنة المالطيين، دعَّم ظاهر العمر دفاعات حيفا بعد سيطرته عليها في مطلع خمسينات القرن الثامن عشر، وعقد اتفاقات مع حكومة فرسان المعبد المالطية تقضي بمنح سفنهم حرية الملاحة والتجارة في عكا وحيفا مقابل عدم التعرض لتجارته، وكانت بلدة الصيد الصغيرة في ذلك الوقت ذات إمكانات اقتصادية واعدة، خاصة وأن سهلها الساحلي منبسط ويصلح لبناء مرافئ واسعة ذات قدرة استيعابية أكبر من ميناء عكا الطبيعي ذي السعة المحدودة والمليء بالردم. بأي حال، فإن وضع حيفا الإداري، باعتبارها منطقة تخوم سبق وأن خضعت إداريا لدمشق، كان ذريعة ممتازة لرجالات دمشق للتحرش بالزيادنة، ولذا فقد طالب بها هشام باشا مكي من ظاهر العمر وجدد المطالبة بها عثمان باشا الكرجي فور صعوده على كرسي الإيالة الشامية.
إلا أن تحركات عثمان الكرجي كانت ضعيفة ومتواضعة، ولم يكن في وضعه ذاك يلقى الدعم المتوقع من جاره والي صيدا محمد باشا العظم، كان من المعروف ضمنًا وقتها اعتبار باشا دمشق أعلى مرتبة من باشا صيدا ومُنحت له صلاحيات أوسع وقدرة على التدخل في شؤون إيالة الأخير، وحرص الباب العالي على دعم باشا دمشق لتوطيد هذه السلطة بما يلزم من الفرمانات والمراسيم، إلا أن باشاوات صيدا لم يكونوا في وضع يسمح لهم بتقديم دعم عسكري لائق يوازي قوة الزيادنة، ولم يكن في مصلحتهم أصلًا أن يفتعلوا أي مشاكل معهم، فالزيادنة كانوا يسيطرون بالفعل على القسم الأكبر والأكثر ثراء من إيالتهم، وهذا الذي عنى أن غالبية ما دانوا به لخزينة السلطان من مال الميري قد كان يمر عبر ظاهر العمر نفسه، ولذا فإن أي ارتباك في الدورة الاقتصادية، كان سيهدد قدرة والي صيدا على الإيفاء بما عليه من مستحقات ضريبية.
بخلاف ما سبق، فأن عثمان باشا الكرجي قد اكتسب عداوة آل العظم بالذات بسبب طريقة وصوله إلى السلطة في دمشق، لقد كان عثمان باشا مملوكًا لدى أسعد باشا العظم في السابق، وقد ساعد الحكومة العثمانية على الوصول إلى أمواله وخزائنه وحصر أملاكه وثرواته بعد الإطاحة به وإعدامه في 1757 عقب اتهامه بالمسؤولية عن هجوم قبائل شرق الأردن على قافلة الحج، وقد منحته الدولة بسبب خدماته هذه رتبة الباشوية ولقبته بالصادق، فولت ابنه محمد باشا الكرجي على طرابلس وولته شخصيًا على دمشق، ولهذه الأسباب مجتمعة، لم يكن والي صيدا في ذلك الوقت محمد باشا العظم، ابن أسعد باشا، متحمسًا لمساعدة عثمان باشا أو تقوية موقعه في سورية، وهذا مما يفسر أيضًا ضعف محاولته للاستيلاء على حيفا كما ذُكر قبل قليل.
على صعيد آخر لم يقف الزيادنة مكتوفي الأيدي في مواجهة الخطر الدمشقي، وإن كان أمر عثمان باشا منوطًا بأوامر إسطنبول، فلم يكن لديهم صعوبة في ذلك الوقت بعكس الأوامر التي استصدرها الباشا بضم حيفا إلى دمشق مرة أخرى. كان ظاهر العمر قد استقبل يعقوب آغا أحد موظفي الحكومة العثمانية أثناء زيارته لبيت المقدس قبل عدة سنوات، وأرسى معه علاقة وطيدة في مقابل حماية الأخير لمصالحه في إسطنبول، وقد كان يعقوب آغا بالمقابل قد وطد علاقاته مع اثنين من أركان صناعة القرار داخل البلاط، وهما القيزلار آغاسي (آغا الحرملك) وسليمان آغا السلحدار (حامل سلاح السلطان)، وقد اتصل ظاهر بيعقوب آغا موضحًا له ما كان من أمر حيفا، وقد تمكن الأخير من إلغاء أوامر السلطان السابقة وكف يد عثمان باشا الكرجي ولو مؤقتًا عن مسعاه في استعادة حيفا.
لم يقدم أي من الطرفين بعد تلك الحادثة على القيام بأي عملٍ عسكري ضد الآخر، على أن العداء بينهما لم يختفِ، واستمر الصراع بينهما خلال عقد الستينات من القرن الثامن عشر. إذ لم يتمكن عثمان باشا من تجاهل حيفا وظل يطالب الباب العالي بالسماح له بالقتال، وقد سنحت له الفرصة عندما عُزل القيزلار آغاسي ونُقل (أو نُفي) سليمان آغا السلحدار إلى قبرص، ففقد ظاهر فجأة أوراق الضغط التي كان يملكها في البلاط، لم يدم هذا الوضع طويلًا فقد عاد سليمان آغا من منفاه وأعيد تنصيبًا حاملًا لسلاح السلطان مرة أخرى، في وقت كان عثمان باشا قد دفع فيه باتجاه إعادة الخلاف بينه وبين الزيادنة على حيفا إلى السطح مرة أخرى، ورغم ذلك فقد نجح سليمان آغا في تمرير اقتراح بمنع أي نزاع عسكري بين دمشق وعكا وحسم الخلاف على حيفا عبر القضاء. وقد عُقد التحكيم في المحكمة الشرعية في عكا وحكم قاضيها بأحقية ظاهر في حيفا وشرعية التزامه عليها، وبذا فقد حسم أمر حيفا بشكل نهائي، فحتى إن لم يكن عثمان باشا في مزاجٍ مواتٍ لاحترام المؤسسة القضائية، فإن ذلك لم يكن الحال بالنسبة للباب العالي الذي رأى في حكم المحكمة نهاية لهذه الدراما.
جبهات أخرى
كانت الأوضاع قد هدأت نسبيًا في عكا والجليل بعد الهدنة التي انتزعها ظاهر العمر من دمشق عبر أروقة الباب العالي، إلا أن الأخطار التي هددت إمارته لم تختفِ تمامًا، وعلى الرغم من أن عناصر قوة الزيادنة قد سمحت برجوح كفتهم في الميزان في أي صراعٍ محتمل ضد مراكز القوى المحلية المحيطة بهم، إلا أن خطرين آخرين قد تهددا الإمارة القوية تمثل أحدهما في جبل عامل الواقع تحت سيطرة عشائر المتاولة القوية وقائدها المخضرم ناصيف النصار آل الصغيِّر، بالإضافة إلى خطر النزاعات الداخلية التي استثارها أولاد ظاهر في نزاعهم مع أبيهم على نصيبهم من السلطة والثراء.
ولَّى ظاهر العمر أبنائه ملتزمين على مختلف القرى والبلدات داخل الجليل محاولًا عدم الاعتماد قدر المستطاع على أي عناصر دخيلة، وبعكس ما توقع ظاهر فإن تنصيب أبنائه ملتزمين لم يساعد في استقرار الأوضاع الداخلية بقدر ما تسبب في زيادة إرباكها، فأبناء ظاهر لم يكونوا أشقاءً من أم واحدة، وهو ما استحث العداوة بينهم، كما أن جزءًا منهم قد تزوج زيجاتٍ ذات طابع سياسي، حيث صاهروا عددًا من العائلات المتنفذة داخل الجليل نفسه في مسعى من ظاهر لضمان ولائها، إلا أن ما حدث قد انعكس على ظاهر سلبًا، حيث وجد كل من أبنائه في أصهارهم حليفًا متوقعًا ضد أبيه في حال اختار الثورة ضده أو مطالبته بنطاق أوسع من السلطة، وقد سبق وأن أوضحت الأجزاء السابقة من الدراسة بداية الخلافات داخل العائلة الزيدانية منذ الثلاثينات، فقد تعاون محمد العلي الزيداني ابن عم ظاهر مع سليمان باشا العظم خلال حملاته ضد طبرية، كما قاد عثمان ابن ظاهر العمر وسعد أخوه خلال سنتي 1752 و 1755 على التوالي محاولتين فاشلتين للتمرد، إلا أن المشاكل الداخلية قد برزت إلى السطح بحدة خلال الستينات حيث كثرت ثورات أبناء ظاهر ضد أبيهم، وقد استغل عثمان باشا الكرجي هذه الظروف وقدم غطاءً سياسيًا لأبناء ظاهر عن طريق حث القوى المحلية في إيالة صيدا على تقديم الدعم لهم في مسعاهم.
بدأت خلافات ظاهر مع أبناءه في الستينات في 1762 بتمرد لابنه علي، أكثر أبناء ظاهر شراسة وغرورًا، وتلقى دعمًا من شقيقه سعيد بالإضافة إلى إيعاز والي دمشق عثمان باشا لمتاولة جبل عامل بدعمه، وانتهى تمرد علي بالصلح بينه وبين أبيه الذي أضاف التزام بلدة دير القاسي إلى أملاكه، وفي 1765 جدد عثمان الظاهر التمرد ضد أبيه بدعم من بعض عائلات الدروز في صفد وأصهاره من عرب الصقر، وقد انتهى تمرده بالفشل وألقى ظاهر القبض عليه وأبقاه حبيسًا في بيته في طبرية لستة أشهر، قبل أن يهرب ويلجأ للمتاولة حيث تلقى دعمهم لشن سلسلة من الهجمات على مناطق أبيه طيلة عام 1766، ولم يلبث أن هرب مرة أخرى، غالبًا بعد الصلح الذي عقده المتاولة مع ظاهر العمر خلال العام التالي، ووصل إلى جبل لبنان ولجأ إلى الشيخ منصور الشهابي الذي توسط من أجل إعادته إلى الجليل مرة أخرى، وقبل به ظاهر ونصبه مرة أخرى حاكمًا على شفا عمرو. وفي 1767 تمرد علي مرة أخرى على أبيه بمعاونه شقيقه سعيد، ولم يلبث أن تصالح كلا الطرفين مرة أخرى، ولم يمنع ذلك عليًا من التمرد مرة أخرى على أبيه في 1770 على الرغم من حساسية الوضع الميداني وقتها، وقد جدد علي وسعيد تمردهما مرة أخرى عام 1773 والذي كان أقسى صراعات الابنين مع أبيهما، حيث دارت معركة شرسة بين الطرفين راح ضحيتها واحد من أبناء عثمان الظاهر برصاصة من عمه سعيد.
يتضح مما سبق أن جميع الخلافات داخل العائلة الزيدانية خلال ستينات القرن الثامن عشر قد قادها ابنا ظاهر عثمان وعلي، ومن المرجح أن عوامل شخصية قد أدت بكليهما إلى حالة النزاع الدائم هذه مع رأس العائلة، فعثمان هو الأخ الأكبر والأكثر ترجيحًا لوراثة السلطة بعد ظاهر، ولذا فقد رأى في نفسه أحقية بالسيطرة على التزام أكبر قسم ممكن من أراضي أبيه، والجدارة باحتلال الموقع الأهم في إدارة الإمارة ساعدًا أيمنًا له، ولم يقبل بالاكتفاء بالتزام عدد محدود من القرى حتى لو كان منها شفا عمرو التي كانت أكبر بلدات الجليل وأوفرها انتاجًا للقطن، في ذات الوقت الذي يرى فيه أباه وهو يسند معظم مهام الإدارة في عكا إلى وزيره ومعاونه الأوثق إبراهيم الصباغ، كما أسند مهمة قيادة القوات العسكرية إلى أحمد آغا الدنكزلي الذي كان يقود قوات الزيادنة النظامية من المرتزقة المغاربة، وإلى صهره وأحد أبناء عمومته كريم الأيوب الزيداني الذي قاد مليشيا فرسان الزيادنة التي تشكلت في معظمها من أبناء العائلة و عامة الفلاحين. أما بالنسبة لعلي فقد كان أشد أبناء ظاهر غرورًا وثقة بالنفس، ورأى في نفسه كذلك الأحقية بقيادة الإمارة حتى في حياة أبيه الذي كان يتهمه بالضعف والتخاذل في مواجهة السطوة العثمانية، رافضًا سياسته التي اعتبرها مهادنةً للباب العالي، ومن المعروف أن علي قد أقام لنفسه ديوانًا في قلعته في صفد، واستضاف فيه الشعراء والمادحين وأغدق عليهم بالعطايا كأي حاكم شرقي وأمر حاشيته بتلقيبه بالملك، ويدلل ذلك على أن علي لم يكن يرضى بأن يعامله أبوه كبقية إخوته وأنه رأى نفسه متفوقًا عليهم.
من الآمن إذًا أن نجادل في أن ظاهر قد استبطن قناعة بعدم أهلية أيٍّ من أبنائه للحكم، وقد استخدمهم كإداريين محليين وكضاغطة ضد القوى المحلية والعائلات المتنفذة في الجليل في أفضل الأحوال، بهدف الحفاظ على استقرار الشؤون الداخلية في الجليل فحسب، لكن الفترة الطويلة نسبيًا التي قضوها ملتزمين على قرى وبلدات الجليل، منذ سيطرته على عكا في منتصف الأربعيات على أقل تقدير، لم تؤهلهم لاحتلال مكان إلى جانبه في عكا حيث تصنع القرارت بخصوص الإمارة وتصاغ سياساتها، وربما رأى أبناءه أنه خاضع لسيطرة وزيره إبراهيم الصباغ الذي قاد جهاز ظاهر الحكومي في عكا وأثرى من تجارة الميناء إلى أقصى حد وكان له كلمة فصل في صياغة سياسة الإمارة وشؤونها الخارجية، بينما هم مكتفون بعوائد هامشية من التزام القرى التي وكلهم عليها، وهو ما دفع أبناءه للثورة عليه بشكل مستمر. ومن المرجح أن أبناء ظاهر قد أكدوا له بسلوكهم هذا رأيه فيهم، ورغم ذلك فقد هادنهم ظاهر وحاول استرضائهم، ومن جهة أخرى حاول الضغط عليهم وتحجيم تأثيرهم، لم يكن ظاهر بأي حال ليقتل أيًّا من أبناءه، فلم يكن يضمن تأثير ذلك على أبناءه الآخرين، ومن المرجح أنه تخوف من أن اتصالاتهم المستمرة بالقوى الإقليمية وما قد ينتج عنها من ارتهانهم لسياساتها، فحاول قدر المستطاع ضمهم تحت جناحه، وعدم تحميلهم من المسؤولية ما لا طاقة لهم به في ذات الوقت.
لقد دعم عثمان الكرجي ثورات أبناء ظاهر من أجل دفع الأوضاع الداخلية في الإمارة الزيدانية نحو الفوضى، وقد استخدم ظاهر ذات سياسته، إذ كان يقدم الدعم لكل اضطراب محلي داخل دمشق يمكن أن يدفع نحو إشغال عثمان باشا وإلهائه، وخلال النصف الثاني من الستينات اشتعلت عدة ثورات في سناجق يافا وغزة والرملة بالإضافة إلى مناطق ريفية أخرى، رفضًا لسياسة دمشق الضريبية التي أنهكت الفلاحين حتى حدودهم القصوى، وقد تعامل عثمان باشا مع الثورات بمنتهى العنف والقسوة، فعلى سبيل المثال، تذكر بعض المصادر أنه قتل وفدًا من علماء غزة بدفنهم أحياء عندهم خرجوا له أثناء قافلة الدورة يرجون منه إعفاء أهل المدينة من الضرائب، وقد تلقت تلك الثورات عمومًا دعم ظاهر العمر، خاصة بعد أن أرسى تحالفه مع المماليك المصريين في بداية السبعينات.
مسألة المتاولة: من عدو إلى حليف
من الصعب الوصول إلى خط زمني دقيق لمراحل تطور العلاقة بين الزيادنة والمتاولة، على الأقل خلال الفترة التي سبقت منتصف ستينات القرن الثامن عشر، بسبب ارتباك معلومات المصادر المتوفرة، ليس من المعروف بالضبط متى بدأ أول احتكاك بين الطرفين، وبعض المصادر تقترح مواجهة مبكرة تعود إلى عام 1743 حيث شارك 400 مقاتل من المتاولة وشيخهم ناصيف النصار في الحملة الأخيرة لسليمان باشا العظم على الجليل، ويشكك البعض في ذلك مشيرين إلى أن علاقة المتاولة بسليمان باشا كانت عدائية، وفي الواقع فإن استعداء المتاولة لأي وزيرٍ للدولة لم يكن أمرًا غير اعتيادي، فللمتاولة تاريخ من الثورات ضد سلطة الدولة، خاصة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولطالما تعرضوا لغضب الدولة ونخبها في سورية التي قمعتهم إما بشكل مباشر أو غير مباشر عبر جيرانهم في جبل لبنان من الشهابيين، على أن عدائهم هذا كان موجهًا في الغالب لمركز الوالي في صيدا على العكس من والي دمشق الذي طمحوا في نصرته لهم على خصومهم في جبل لبنان وصيدا،[4] وبأي حال فإن من الموثق أن المتاولة قد قدموا المعونة لأبناء ظاهر العمر في ثوراتهم على أبيهم خلال عقد الستينات، ومن المرجح أن هذا العون قد كان مدفوعًا بأوامر وتعليمات من عثمان باشا الكرجي، وعلى ما يبدو فإن ناصيف النصار قد كان واثقًا من قدرته على التصدي لظاهر العمر في حال تطور الأمر إلى مواجهة مباشرة بين جبل عامل والجليل.
وبأي حال فإن المواجهة المباشرة قد بدت حتميةً في ضوء الأحداث المذكورة، إذ اختار ظاهر العمر اتخاذ إجراءات للرد على تحرشات المتاولة وإيوائهم لابنه عثمان، فقام بالسيطرة على عدد من القرى الموجودة على التخوم بين جبل عامل والجليل، إذ احتلت قواته قرى يارون والبصة (وربما طربيخة) من أعمال جبل عامل، وقد تطور الوضع بسرعة إلى مواجهة عسكرية دموية على شكل سلسلة من المعارك التي استمرت لعدة أيام، وقد تكبد كلا الطرفين خسائر فادحة بالأرواح دون أي نتائج ميدانية ملموسة، وهو ما عجَّل بتطور الوضع إلى اتجاه غير متوقع.
كان واضحًا أن حسم الأمور عسكريًا كان سيعرض كلا الإقليمين لاستنزاف كان كلاهما في غنى عنه، وقد دفعهم ذلك للاستجابة لوساطة قدمها شيخ جبل لبنان الأمير منصور الشهابي، فاتفق الطرفان على إيقاف الأعمال العسكرية وتوصلوا بعد مفاوضات وجيزة إلى اتفاق مشترك كسبا به أكثر بكثير مما توقع أي منهما إنجازه عبر القتال، فقبل المتاولة السيطرة الاسمية للزيادنة على جبل عامل، وتمثيل ظاهر العمر لهم عند الدولة، في مقابل معاونته عسكريًا وقتما احتاج، في ذات الوقت الذي يعيد فيه ظاهر يارون والبصة إلى المتاولة ويضمن منح جبل عامل غطاءً سياسيًا يحميهم من أي تدخلات للدولة ومنع أي من موظفيها إداريين كانوا أو عسكريين من أن تطئ أقدامهم أرض الجبل، وهو إنجاز طالما فشل المتاولة بتحقيقه خلال العقود الماضية، ويتكفل ظاهر بدفع مال الميري عن جبل عامل بشكل مباشر لوالي صيدا.
استعاد ظاهر التوازن مرة أخرى في مناطقه، وأمَّن الطرق التجارية الواصلة بين عكا ودمشق مرة أخرى عن طريق تأمين التخوم بينه وبين جبل عامل، وكسب حليفًا جديدًا ذا قوة عسكرية مشهودة ونزع من يد عثمان باشا الكرجي رأس النبل الذي كان ينخز به خاصرة الجليل بين الحين والآخر، فيما وسَّع مجال سيطرته الميدانية لتشمل جبل عامل ومينائه في صور، وحسن موقفه الميداني ضد نخب الدولة في صيدا ودمشق على السواء. لقد أثبت المتاولة في السنوات اللاحقة أنهم كانوا خير حليف لظاهر العمر، وقد استفاد من قوتهم العسكرية في جميع معاركه اللاحقة تقريبًا، وظلوا حليفًا وفيًا لظاهر العمر حتى اللحظات الأخيرة من عمر إمارته.
السباحة ضد التيار: التحالف المصري
بقيت المواجهة بين عكا ودمشق في حدودها الدنيا، مواجهة منخفضة الكثافة بدون أي تلاحم مباشر أو أعمالٍ عسكرية تقليدية، بل كان اشتباك الطرفين في ميدان العمل السياسي أكثر وضوحًا وأهمية، لقد حاول عثمان باشا طيلة سنوات الستينات، وعندما لم يكن مشغولًا بأمور إيالته الداخلية، الحصول على إذن بقتال ظاهر العمر وانتزاع حيفا منه، وعمل ظاهر العمر طيلة ذات الفترة على منع جهود عثمان باشا بأي ثمنٍ كان، ومنع المواجهة العسكرية معه أو تأجيلها على الأقل.
من المنطق الادعاء أن عسكريًا مخضرمًا كظاهر لم يكن، بما لديه من قوة، يخشى من مواجهة دمشق، لقد نجح في إبطال ثلاثة هجمات دمشقية سابقة على عاصمته الأولى طبرية، في وقت كانت قواته العسكرية أقل عديدًا وتنظيمًا، لكنه علم بما لا يدع مجالًا للشك أن مواجهة دمشق بالنار كانت ستعني قطع أي جسر بينه وبين الباب العالي، كما أنها لن تعني زوال خطر دمشق بأي حال، فإن قرر المبادرة بالخروج لملاقاة والي دمشق في معركة مفتوحة، فإن أقصى ما كان سيحققه هو التخلص من وزير وانتظار آخر مكانه سيحضر بأوامر بملاحقته والقضاء عليه. لطالما أدرك ظاهر أن أفضل خياراته هو البقاء داخل المنطقة المريحة المتمثلة في إرضاء الباب العالي وتجنب سخطه، وقد توطدت علاقته بالباب العالي خلال السنوات الأخيرة من ستينات القرن الثامن عشر، لدرجة أنه حصل رسميًا على لقب (شيخ عكا وأمير الأمراء والحاكم في الناصرة وطبرية وصفد وكل الجليل)، ومن المرجح أن ذلك اللقب، الذي كان ترسيمًا رمزيًا لواقع على الأرض، قد كان جزءًا من محاولة الباب العالي لتهدئة الأوضاع الداخلية في عموم أراض الإمبراطورية في وقت كانت فيه على أعتاب حرب جديدة مع روسيا في 1768، وهي حرب ستلعب دورًا مهمًا قلب الأوضاع في البلاد الشامية بعد عدة سنوات.
بأي حال فقد شهد ختام ستينات القرن الثامن عشر نهاية صلاحية اللعبة السياسية في عكا والجليل، فالظروف شهدت تغيرات حادة وفرت لبعض الأطراف في المنطقة فرصًا ذهبية لتغيير الأوضاع لصالحها كما أعطت الفرصة لأطراف أخرى لاتخاذ خيارات لم تكن مطروحة على الطاولة في السابق، وتداخلت شبكات المصالح بين مختلف الأطراف في الإقليم كما لم يحدث من قبل، ووجد الزيادنة أنفسهم في منتصف صراعٍ بين الدولة العثمانية وبين أعدائها الداخليين والخارجيين، صراعٌ أكبر منهم بدون شك، ولكنهم قاتلوا فيه بكل براعة بقدر ما أتاحت لهم الظروف، وعلى الرغم من ذلك فقد وجدوا أنفسهم قد تُركوا في النهاية لقمة سائغة للعثمانيين أنفسهم الذين سيطروا على مركزهم في عكا وأنهوا وجود إمارتهم بالكامل.
شهدت نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الثامن عشر حدثين محوريين قلبا أوضاع ظاهر العمر لدى الباب العالي رأسًا على عقب، كان الأول هو وفاة وكيله في إسطنبول يعقوب آغا التي فقد ظاهر على إثرها كل صلاته بالباب العالي، كان من الصعب على ظاهر استبدال يعقوب آغا بغيره، فصلاته بالباب العالي كانت محصورة به وبسليمان آغا السلحدار، وقد شهدت تلك الفترة (مع بداية الحرب ضد روسيا) عدة تغيرات على مستوى الحكومة. أما الحدث الثاني فكان نجاح عثمان باشا في الحصول على مقعد ولاية صيدا لابنه الشاب درويش في أيلول 1770، إذ فقد ظاهر بذلك قدرته على استغلال التنافر في المصالح بين صيدا ودمشق، ولم يضيع عثمان باشا الوقت من أجل الاستفادة من الوضع الجديد، فأرسل لظاهر العمر كتابًا يبلغه فيه بأنه سيمر بقافلة الدورة بالقرب من عكا، حيث سيصحب ابنه درويش إلى صيدا لترتيب أوضاع إيالته الجديدة، وربما قدَّر ظاهر أن الباب العالي بقرارته الجديدة قد أسقط ورقة ظاهر من حساباته، وأنه في سبيله من أجل القضاء على إمارته ومصادرة ثرواتها التي تراكمت عبر العقود الماضية من أجل تمويل حربه الدائرة في الشمال.[5]
لم يكن أمام ظاهر إذًا سوى الاستعداد لحرب مفتوحة ضد الباب العالي ونخبه في بلاد الشام، وهو خيار سعى ظاهر طيلة فترة حكمه لتجنبه، وقد وصل كتاب عثمان باشا المذكور في وقت كانت قوات ظاهر وحلفائه من المتاولة تحاصر ابنه المتمرد علي في قلعته في صفد، فاجتمع ظاهر بابناءه وأنهى خلافاته معهم استعدادًا للحرب، كما أنه استكمل مراسلاته مع شيخ البلد والقائمقام في مصر قائد المماليك بولوط قابان علي باشا المشهور باسم علي بك الكبير وأتم تحالفه معه، وحصل بذلك على مساندة عسكرية قوية من القطر المصري، سيضطر الباب العالي على إثرها إلى حرق جميع جسوره مع الزيادنة بلا رجعة.
وصل علي بك الكبير إلى السلطة في مصر بعد صراع استمر لعدة سنوات ضد منافسيه من المماليك، وهو صراع ميَّز السياسة الداخلية لمصر العثمانية حتى زمن محمد علي باشا، حيث مثَّل المماليك السلطة الحقيقية داخل الإيالة المصرية رغم السيطرة العثمانية عليها، وقد تناقص دور الوالي العثماني فيها بشكل تدريجي حتى أصبح هامشيًا مع مرور الوقت، لقد هرب علي بك الكبير إلى غزة في 1766 بعد سقوطه أمام منافسيه، ويحتمل أن ظاهر العمر قد اتصل بعلي بك وقتها وأرسل له من يكرم ضيافته ويعرض عليه صداقته، وقد عاد علي بك إلى مصر مرة أخرى سنة 1768 وأحكم سيطرته على البلاد، فقضى على جميع منافسيه وأنهى حكم قبائل الهوارة في الصعيد بعد وفاة شيخهم همام بن يوسف، وبسط سيطرته على الحجاز وأعلن استقلاله عن الباب العالي، فطرد الوالي العثماني وقام بصك العملة في البلاد باسمه ورسمه، وعجز الباب العالي وقتها عن إرسال أي ولاة جدد لمصر لمدة أربعة سنوات، وقد ولى بصره نحو بلاد الشام حيث طمح في السيطرة عليها وجعلها سدًا حاميًا لحكمه في مصر، والسيطرة على طرقها التجارية المرتبطة مباشرة بالأناضول وأوروبا، ولذا فقد سعى لإيجاد حليف في المنطقة يعينه على اجتياح سورية ويسهل عليه تمكينه من موطأ قدمٍ في البلاد، ولم يمكن يملك في تلك اللحظة خيارًا أفضل من ظاهر العمر الذي صدف وأن تواترت الظروف لتضعه في أمس الاحتياج لعلي بك وقوة الإيالة المصرية ومواردها في سبيل الحفاظ على إمارته في عكا والجليل.
يورد الرواة قصة توضح المراسلات الأولى بين ظاهر العمر وعلي بك قبل اتمامهما لتحالفهما، حيث اتصل الأخير بالأول في وقت غير محدد من العام 1770 يطلب منه شراء 85 درعًا، فرفض ظاهر العمر بيعه متعللًا بأنه ليس تاجرًا للسلاح، وقدم الدروع لعلي بك هدية بلا مقابل، ومن المرجح أن العلاقة بين الطرفين قد توطدت بفضل العلاقات التي جمعت بين أعيان طائفة المسيحيين الملكيين الكاثوليك في كلا البلدين، والمقصود هنا هو كل من إبراهيم الصباغ وزير ظاهر العمر والمعلم ميخائيل الجمل الذي شغل منصب معلم الدواوين في مصر.
شرح ظاهر العمر لعلي بك في مراسلاتهم الخطر الذي يتهدده به عثمان باشا والي دمشق، وطلب من أن يرسل عددًا من المغاربة ليستأجرهم ظاهر مرتزقة ليعينوه في حربه ضد عثمان باشا، إلا أن علي بك قد وعده بإرسال تجريدة عسكرية له، وبالفعل أرسل مبدئيًا حملة استطلاعية بقيادة عبد الرحمن آغا قامت بتأمين طريق الصحراء وتطهيرها من القبائل البدوية في تشرين الثاني 1770، وأتبعها بحملة ضخمة قوامها 10 آلاف مقاتل بقيادة إسماعيل بك وصلت إلى غزة في منتصف الشهر، وبدأت في التوغل داخل فلسطين في نفس الوقت الذي كانت فيه قافلة الدورة بقيادة عثمان باشا في المنطقة، وقد أرسل عثمان باشا لإسماعيل بك يستفسر منه عن سبب تواجده في المنطقة، وأرسل له الأخير دعوة للمنازلة، فيما كان ظاهر قد أرسل ابنه عثمان الظاهر على رأس فرقة من الفرسان لاستقبال إسماعيل بك، وقد قُطع عليها الطريق بواسطة عرب الصقر بناء على أوامر عثمان باشا، واضطر ظاهر بذلك إلى الخروج بنفسه لملاقاة إسماعيل بك، ووصل إليه بالفعل، أدرك عثمان باشا أن لا قِبَل له بالحلف المعِسكر أمامه بالقرب من الرملة، فتراجع أولًا إلى يافا ودخلها بالقوة على الرغم من اعتراض أهلها وأرسل لمشايخ جبل نابلس يطلب منهم المدد، وبعد فترة قصيرة اضطر للارتداد إلى دمشق بعدما تأكد من تخاذل النابلسية عن نجدته، والذي كان بسبب عدم قدرتهم على الاصطدام بظاهر الذي خرج بنفسه من عكا وتوغل في ناحية بني صعب وسهل السارونة خلال تقدمه للاتصال بإسماعيل بك، وصل عثمان باشا إلى دمشق في التاسع عشر من كانون الأول 1770 (اليوم الأخير من شهر شعبان)، في ذات الوقت فرض إسماعيل بك بالتعاون مع ظاهر العمر السيطرة على مدن غزة والرملة ويافا، وقد مر ذلك بسهولة وبدون أي قتال يُذكر، فأهالي المدن الثلاثة كانوا قد ضاقوا ذرعًا من تعسف عثمان الكرجي وجبروته، والقسوة التي أبداها رجاله أثناء جمعهم القسري للضرائب من الأهالي، وقد قام عثمان باشا بنفسه بقتل مجموعة من فقهاء وعلماء مدينة غزة خرجت لاستقباله أثناء مروره بالمدينة وحاولوا إقناعه بإعفاء أهالي المدينة من الضرائب في ذلك العام، فألقى القبض عليهم ودفنهم أحياء، وعندما وصلت قوات المماليك أعلنت في الناس أنها لم تأتِ لتعارض السلطان أو تقوض حكمه، وإنما إنقاذًا لهم من جور عثمان باشا وظلمه، وأعلن إسماعيل بك لأهالي غزة والرملة ويافا ومحطيها من القرى بأنهم معفيون من مال الميري لمدة 4 سنوات متتالية، وقد لاقت قواته إثر ذلك ترحيبًا كبيرًا.
تقدمت لاحقًا قوات المماليك بقيادة إسماعيل بك يصاحبها الزيادنة والمتاولة بكامل قوتهم إلى المزيريب القريبة من درعا وطريق الحج، لم يملك عثمان باشا وقتًا ليضيعه على القتال فعليه أن يخرج بقافلة الحج في أسرع وقت، وبالفعل فقد خرج على رأس القافلة وأرسل لإسماعيل بك يخبره بعزمه الذهاب إلى الحجاز بسلام وأن ليس في نيته قتاله، مذكرًا إياه بحرمة قافلة الحج وزوار بيت الله الحرام، ويورد المؤرخون أن ظاهر قد طلب من إسماعيل بك استغلال الفرصة والهجوم على عثمان باشا وقافلة الحج، وربما حاول أن يقنعه بالهجوم على دمشق نفسها الخالية من أية دفاعات، ولكن الأخير رفض متعللًا باحترامه لقافلة الحج وحرمتها، مفضلًا أن ينتظر حتى عودة عثمان باشا من الحجاز، وارتد بجيشه ونصب معسكره في أراضي مرج بن عامر مع اشتداد فصل الشتاء، فيما سقط ظاهر العمر مريضًا بسبب علة مجهولة واضطر أبناءه إلى حمله إلى عكا للاستشفاء.
من المؤكد أن إسماعيل بك قد ضيَّع على الزيادنة وعلى سيده علي بك فرصة ذهبية للسيطرة على دمشق، ومن المرجح أن حرمة قافلة الحج لم تكن تعنيه في شيء، إن إسماعيل بك لم يشارك سيده علي بك طموحاته بالسيطرة على سورية، وقد كان متخوفًا من هذا الاستعداء الصريح لسلطة الباب العالي، بخلاف ما اختزنه من مشاعر الاستعلاء على ظاهر العمر وأبناءه الذين رفض تعاملهم الندي معه، ورفض أن يتحرك بناء على تعليماتهم.
توقفت الأعمال العسكرية طيلة فترة الشتاء، وأرسلت الدولة أوامر لباشوات ووزراء حلب وصيدا وطرابلس وكلس بالنفير إلى دمشق وتوفير الحماية لها إلى حين عودة قافلة الحج، وقد تجمعت قواتهم في دمشق طيلة شهري آذار ونيسان 1771، فيما كان علي بك يعد العدة لحملة أضخم انتوى ارسالها إلى الشام بقيادة العسكري المخضرم محمد بك أبو الدهب مملوك علي بك الذي سبق أن استخدمه لبسط السيطرة على الحجاز قبل عدة أشهر فقط، ربما كان علي بك ليولي أبو الدهب مباشرة على الحملة بدون الحاجة لتجريدة إسماعيل بك، لكنه قد احتاج إلى وقت من أجل تجهيز جيش بهذه الضخامة خاصة بعد وقت قصير مضى على حملة الحجاز، وقد أراد علي بك تحقيق أقصى استفادة ممكنة من انشغال الباب العالي بحربه الدائرة في الشمال ضد الروس، بلغ قوام حملة أبو الدهب حوالي 35 ألف – 40 ألف جندي، وقد عبرت الطريق إلى جنوب الشام عبر غزة، فيما وصلت إمداداتها اللوجستية بحرًا من دمياط إلى يافا، وصل أبو الدهب إلى الرملة في 17 أيار 1771 وقد استقبله عساكر الزيادنة بكامل عدتهم حيث تواجد أبناء ظاهر مع مغاربته بالإضافة إلى عساكر المتاولة، وبلغ قوامهم حوالي 4000 جندي، فيما ظل ظاهر العمر نفسه معسكرًا في عكا ورفض الخروج لاستقبال أبو الدهب، وذلك غالبًا بسبب فقدانه لأي أمل في السيطرة على تحركات الحملة.
وصل أبو الدهب ومرافقوه إلى سعسع على بعد حوالي 30 كيلومترًا من دمشق في الثاني من حزيران، وخرج له عثمان باشا يرافقه عسكر الشمال السوري بكامله إلى داريا القريبة من دمشق، وتقابل الرجلان في اليوم التالي يقود كل منهما جيشين متقاربين في العدد والعدة، ونجح أبو الدهب في كسر الجيش الشامي بعد معركة شرسة وإن لم يتمكن من النيل من عثمان باشا نفسه الذي تمكن من الهرب والتراجع إلى الشمال، زحف أبو الدهب على دمشق وتمكنت حاميتها من اليرلية من الصمود لعدة أيام قبل أن يتمكن من دخولها في الثامن من حزيران، وسيطر على جميع أحيائها ومناطقها باستثناء القلعة التي تحصن فيها القابي قول (انكشارية السلطان) ورفضوا تسليمها، أعطى أبو الدهب أوامره بقصف القلعة على الرغم من أن معظم قذائف مدافعه قد سقطت على الأحياء المجاورة لها، واضطر للتوقف بعدما توسط أعيان دمشق لديه لإيقاف القصف، بدأ أبو الدهب بتنظيم أمور المدينة بناء على أوامر علي بك، وبعد عشرة أيام فقط انسحب أبو الدهب بشكل مفاجئ من دمشق وعاد أدراجه إلى مصر.
شكل انسحاب أبو الدهب ضربة موجعة لعلي بك وحليفه في عكا، وقد أسقط في يد ظاهر وقتها وبدا مكشوفًا أمام انتقام الدولة ونخبها في دمشق. عاد محمد بك أبو الدهب إلى مصر، وخلال الطريق أرسل لظاهر العمر يطلب منه تسليم ما تبقى بين يديه من مؤن الحملة وذخائرها، أغلق ظاهر أسوار عكا في وجه رسل أبو الدهب وانهمك بزيادة تحصينات المدينة. مثل أبو الدهب بين يدي سيده وأخبره بأنه قد تعرض لخيانة الزيادنة، وأنه لبى أوامر سيده بطرد عثمان باشا من دمشق وبذا فقد انتهت مهمته في بلاد الشام، لم يقتنع علي بك بتبريرات مملوكه وأرسل لعكا يستفسر عن الأمر، وقد أكد له ظاهر العمر استمرار دعمه، ودعَم تأكيداته بإرسال ابنه عثمان إلى مصر كرهينة، تأكد علي بك من الخلل في ادعاءات أبو الدهب، والذي لا يعني سوى خيانة صريحة سيتبعها محاولة انقلابية قريبة، وتشير الترجيحات إلى أن محمد أبو الدهب قد عقد صفقة مع الباب العالي، إما مباشرة أو عبر عثمان باشا، وعلى الرغم من صعوبة الوصول إلى تفاصيل هذه الصفقة فإنها غالبًا ما شملت دعم الباب العالي لأبي الدهب في مسعاه للإطاحة بعلي بك الكبير والسيطرة على حكم الإيالة المصرية، في مقابل الانسحاب من دمشق وسورية الجنوبية، وبأي حال فإن تعاون الباب العالي مع أبو الدهب يتأكد من الوثائق التي تثبت منح الدولة التزام غزة والرملة لأبي الدهب خلال العام 1771، أي بعد احتلاله لدمشق وانسحابه منها.
السباحة ضد التيار: استعادة الايقاع
حاول ظاهر أن يلملم شتاته في الجليل، كان بديهيا أن عثمان باشا، الذي لم يُعزل حتى الآن رغم هزيمته المنكرة التي خسر على إثرها دمشق، سيشن هجومًا وشيكًا، كما أنه موقف ظاهر أمام حليفه المصري قد أصبح معقدًا، فهو وإن اقتنع ببرائته من تهمة الخيانة التي رماه بها محمد أبو الدهب، إلا أنه مضطر لفعل أي شيء لإثبات جدارته أمام علي بك كحليف قوي يُعتمد عليه حتى لا يتخل الأخير عن خططه للسيطرة على بلاد الشام، وقد وجد ظاهر نفسه في ذات الوقت وسط إقليم يموج بالعداء ضده، وباستثناء المتاولة وعلاقاته الشخصية مع أحد أمراء آل شهاب في جبل لبنان، وهو الأمير منصور الشهابي، فإن عكا قد وقعت في محيط كماشة صنعتها دمشق مع حلفائها من القوى المحلية في الإقليم، خاصة وأن وضع الأمير منصور الشهابي في جبل لبنان قد كان متزعزعًا بسبب ابن أخيه يوسف الذي تلقى الدعم السياسي من وزير دمشق وطالب بمقعد عمه كرأس للعائلة الشهابية. لم يكن في وسع ظاهر العمر مهاجمة دمشق مرة أخرى حتى ولو كانت المدينة لم تتعاف بعد من آثار الهزيمة المنكرة على يد أبي الدهب وجيش المماليك المصريين، فحاول عوضًا عن ذلك أن يُجرِّد دمشق من إحدى نقاط قوتها، ولذا فقد ولى وجهه شطر هدف أسهل، نابلس، حليف دمشق الأقوى في فلسطين، فزحف بقواته على المدينة وريفها.
شكَّل جبل نابلس خطرًا يستوجب تحييده، فيافا التي أخضعها محمد أبو الدهب وظلت تحت سيطرة الزيادنة بعد انسحابه كانت المنفذ البحري الوحيد أمام تجارة الجبل بعد سيطرة ظاهر قبل عقود على حيفا، وقد تضرر جزء كبيرة من تجارة جبل نابلس بسبب فقدانهم ليافا، والتي كانت محورية كذلك لضمان استمرار التواصل بين عكا والقاهرة والإبقاء على تحالفهم، خاصة وأن جبل نابلس قد أثبت كونه مصدر إزعاج للزيادنة وحلفائهم المصريين منذ اللحظة الأولى لوصول حملة إسماعيل بك إلى جنوب فلسطين في 1770.
تعود آخر مواجهة بين الزيادنة وجبل نابلس قبل سبعينات القرن الثامن عشر إلى العام 1735 الذي خسر فيه النابلسية مع حلفائهم من عرب الصقر أمام ظاهر العمر قرب سهل الروحة، وهي المعركة التي استحثها استيلاء ظاهر العمر على بلدة الناصرة، وكانت هزيمة النابلسية بها واحدًا من دوافع هجوم سليمان باشا العظم على طبرية ثلاثة مرات خلال السنوات الثمان اللاحقة. لقد فرض موقع جبل نابلس على مشايخه التحرك طبقًا لاعتبارات الوضع الإقليمي والميداني، وعدم الوقوف في صف المتفرجين بينما يمور الإقليم من حولهم بالفوضى، على الرغم من أن موقع الجبل قد وفر لمشايخه ملجأ قويًا يحميهم من أي اعتداء، خاصة مع وجود قلعة صانور على بوابته الشمالية والتي وقفت سدًا منيعًا أمام جميع محاولات حصارها حتى القرن التاسع عشر. إلا أن مشايخ جبل نابلس، والذين قد يبدو أنهم ظلوا رجال دمشق الأوفياء خلال القسم الأكبر من صراعها مع عكا، قد تحركوا بحذر وروية دائمًا وبحسب ما تمليه عليهم مصالحهم فحسب، فلم يكن الظرف أبدًا مواتيًا لوالي دمشق لإجبارهم دومًا على طاعته بشكل مطلق، رغم أنهم أكثر من امتلك الموارد اللازمة في سورية الجنوبية لدعم جهود دمشق لحفظ سيطرة الدولة عليها.
عادت المواجهة بين النابلسية والزيادنة إلى الواجهة مع دخول المصريين إلى المعترك الشامي خلال حملة إسماعيل بك في 1770، وقد تقدم ظاهر خلال سهل السارونة ومقاطعة بني صعب في جبل نابلس خلال محاولته الالتقاء بإسماعيل بك كما سبق ذكره، واضطر مصطفى بك طوقان شيخ بني صعب إلى الارتداد إلى نابلس وتعطيل مخططه بالتصدي للمماليك المصريين، بل وعجز عن إنجاد عثمان باشا الكرجي الذي وجد نفسه طريدًا للمصريين والزيادنة في وسط فلسطين خلال مروره بقافلة الدورة، كما اجتاح ظاهر العمر ناحية بني صعب مرة أخرى نيسان 1771، واستهدف قباطية القريبة من جنين ونهبها وقتل أكثر من سبعين من مقاتليها، وتوغل في نابلس وفرض الحصار على قلعة صانور وطالب بتسليم مصطفى بك طوقان ونزع سلاح جبل نابلس كشرط لرفعه للحصار، وقد اضطر بنهاية الأمر لرفع الحصار ذاتيًا والخروج لاستقبال محمد بك أبو الدهب الذي وصل إلى الرملة في أيار 1771.
عاد ظاهر العمر ليحاصر صانور مرة أخرى في 14 آب 1771، وأرسل النابلسية لعثمان باشا الكرجي يستنجدونه لرفع الحصار عنهم. خرج عثمان باشا من دمشق في 25 آب 1771 لنجدة جبل نابلس، ووصلت أخبار خروجه إلى ظاهر المتمترس أمام أسوار قلعة صانور، فرفع الحصار عنها وتوجه مع حلفائه المتاولة شمالًا، وقابل عثمان باشا قرب بحيرة الحولة في أيلول 1771 في معركة كبيرة أُبيد فيها الجيش الدمشقي وكاد أن يُفتك خلالها بعثمان باشا الذي لم يجد مفرًا سوى بإلقاء نفسه بالبحيرة، إذ أنقذه أحد جنوده وعاد إلى دمشق يجر ذيول الخيبة.
وجد عثمان باشا الكرجي نفسه في موقف لا يُحسد عليه، فهو الآن في أضعف حالاته، وقد خسر قسمًا كبيرًا من قواته في معركة الحولة. في ذات الوقت فقد وصلت أصداء هزيمته إلى القاهرة، وشجعت علي بك على الاستمرار بدعم ظاهر العمر رغم خطورة الوضع الداخلي في مصر الذي كان يتلوى على صفيحٍ ساخنٍ بسبب بوادر الانقسام بين علي بك ومملوكه محمد بك أبو الدهب وأنصاره، وبسبب الضغط الاقتصادي الذي عانته الإيالة المصرية بفعل حملات علي بك المتواصلة التي أنهكت الخزانة واستنزفتها، وعلى الرغم من ذلك فقد أرسل علي بك أحد ممالكيه ويُدعى مصطفى بك جاويش على رأس قوة عسكرية إلى فلسطين اختلفت المصادر في تحديد قوتها، ويُرجح أنها كانت ما بين 700 إلى 2000 جندي، شملت عتادًا حملته 17 سفينة انطلقت من دمياط ورست في يافا في تشرين الأول 1771، وقد حمل مصطفى بك أوامر بمساعدة ظاهر العمر على توطيد حكمه في إيالة صيدا وحماية ممتلكاته من أي هجوم عثماني محتمل.
لربما أمِنَ عثمان باشا الكرجي في دمشق من خطر أي هجمات مباشرة على المدينة انطلاقًا من الجليل، لكنه علم أن صيدا وكرسي الولاية فيها الذي يشغله ابنه درويش باشا قد كانا في خطر، خاصة وأن استنجادات ابنه درويش لإمداده بالرجال والسلاح لم تتوقف بالإضافة إلى تهديده بالهرب من المدينة إذا ما هاجمها الزيادنة، ولم يجد عثمان باشا من بديل غير الاستنجاد أخيرًا بالشهابيين، علَّهم يقدمون النجدة التي تعهدوا بتوفيرها دون أن يوفوا بعهدهم حتى تلك اللحظة. كان الأمير الشاب يوسف الشهابي قد تلكأ في تلبية استدعاء الدولة له لحماية دمشق والقتال تحت إمرة عثمان باشا أثناء هجوم محمد بك أبو الدهب على المدينة، ولكنه جمع رجاله وجهزهم بالعتاد وخرج إلى المدينة لحظة انسحاب أبي الدهب منها منتظرًا عودة عثمان باشا من الشمال وقد عزا تلكؤه إلى تأخر وصول أخبار حملة أبي الدهب إلى جبل لبنان وإلى أن تعبئة قواته العسكرية قد استغرق وقتًا أكثر من الهامش الضيق الذي سمحت به الظروف، تذكر المصادر أن عثمان باشا قد أبدى رضاه عن جهود الأمير يوسف، وكافأه بإسقاط مال الميري المستحق عليه لمدة سنة كاملة على الأقل، وليس من المعروف لماذا لم يطلب منه الاشتراك في المعركة قرب بحيرة الحولة، لكنه طلب منه لاحقًا أن يقوم بحماية صيدا وابنه درويش وأن يهاجم المتاولة حلفاء ظاهر العمر، والذين كانوا غريمًا تقليديًا لقوى جبل لبنان منذ عقود طويلة، ويبدو أن الأمر بالهجوم على المتاولة وجبل عامل تحديدًا قد لاقى صدىً طيبًا لدى الأمير يوسف وأعيان الجبل، وقد هبوا بسرعة لتنفيده، وأرسل الأمير يوسف فرقة عسكرية إلى صيدا كما تقدم على رأس قواته قاصدًا مدينة النبطية في جبل عامل مركز المتاولة وعاصمتهم، ولم يلبث ناصيف النصار زعيم المتاولة أن استنجد بظاهر العمر على وقع أخبار هذا الهجوم والذي لم يكن ليخذل صديقه وحليفه في لحظة كهذه.
أرسل ظاهر العمر للأمير يوسف، دون جدوى، طلبا بإيقاف الهجوم على النبطية، وخرج بعدها ظاهر بنفسه قاصدًا النبطية وقابل قربها الشهابيين في أيلول 1771 بعد وقت قصيرٍ فقط من معركة الحولة، ومنيت قوات الشهابيين بهزيمة منكرة على يد الزيادنة والمتاولة الذين لاحقوا فلول الشهابيين المنسحبين إلى عمق جبل لبنان. لم تلبث الإمدادات المصرية كثيرًا قبل أن تصل إلى يافا، وبوصولها أشرعت أبواب الطريق إلى صيدا، فقد عثمان باشا الكرجي أي قدرة على دعم ابنه في صيدا بعد هزيمة الشهابيين قرب النبطية، ولذا فليس من المستغرب أن يهرب الوالي الشاب من المدينة عقب وصول السفن المصرية السبعة عشرة إلى ميناء المدينة والبدء بحصاره بالتزامن مع هجوم بري قاده ظاهر العمر برفقة المتاولة والمماليك المصريين، وقد هرب درويش باشا وأخليت المدينة من عساكر الأمير يوسف الشهابي أيضًا الذين أرسلوا لحمايتها، ودخل ظاهر العمر المدينة في 23 تشرين الأول 1771 بعد 3 أيام من القصف البحري، وبانضمام صيدا إلى أملاك الزيادنة فقد أصبح الشاطئ الجنوبي لبلاد الشام حتى غزة خاضعًا للسلطة الفعلية لظاهر العمر وحلفائه المصريين.
لم يجد عثمان باشا الكرجي مفرًا من الانتظار في دمشق حتى لحظة وصول قرار إقالته من إسطنبول بعد شهور متواصلة من الهزائم، وهو القرار الذي لم يتأخر كثيرًا بالفعل، إذ أقيل في نهايات تشرين الأول 1771، وعُزل برفقته كل من أبناءه محمد ودرويش عن كرسي الولاية في كل من طرابلس وصيدا على التوالي.
أصدر الباب العالي فرمانًا بتعيين محمد باشا العظم، والي صيدا السابق، على رأس الإيالة الدمشقية، مع أوامر بالقيام بما يلزم لإنهاء تمرد ظاهر العمر والنهوض بأعباء قافلتي الجردة والحج الشامي في موعدهما دون تأخير، وقد دعم الباب العالي الواليَ الجديد، على غير العادة، بتعيين قائدٍ عسكريٍ (ساري عسكر) للقوات العثمانية في بلاد الشام، وهو عثمان باشا المصري، والذي شغل أيضًا منصب والي مصر، مع أوامر باستردادها من علي بك الكبير، وبذلك يظل عثمان باشا المصري في دمشق متوليًا تصريف أمور الإيالة في ذات الوقت الذي يتفرغ فيه محمد باشا العظم لتنظيم أمور قافلة الحج دون تعرض دمشق لخطر اختلال التسلسل في هرم القيادة.
لم يكن تسيير حملة عسكرية عثمانية إلى فلسطين أو إلى مصر خيارًا مطروحًا أمام الباب العالي في تلك الظروف، فالحرب في الشمال ضد الروس قد أشغلت معظم الجهود الحربية العثمانية، خصوصًا بعد حملة البحرية الروسية الناجحة إلى بحر إيجة التي تمكنت من تدمير الأسطول العثماني في جشمة وأغلقت طرق الملاحة بين إسطنبول والشام ومصر، وهي حملة سيكون لها دور مهم لاحقًا في الصراع الإقليمي الدائر في بلاد الشام، بأي حال، فقد اضطر العثمانيون للعمل بما لديهم من قدرات محلية، وقد أدرك الزيادنة ذلك ولذا فلم يوفروا جهدًا في الاستمرار بالضغط على النخب العثمانية في دمشق، كان الوقت يمضي بسرعة، وكان ظاهر بحاجة إلى إبقاء العسكر العثماني ومواليه من الأعيان المحليين في بلاد الشام تحت الضغط المستمر، وذلك حتى تتسنى الفرصة مرة أخرى لعلي بك للعودة إلى فلسطين واستكمال ما بدأه مملوكه أبو الدهب الذي احتل دمشق وتخلى عنها.
أرسل ظاهر العمر إلى محمد باشا العظم يحذره من المرور بالقرب من أراضيه إذا ما اعتزم الخروج على رأس قافلة الدورة، وقد أطلق يد ابنه علي في حوران وجبل عجلون وأمره بالسيطرة على المناطق المتاخمة لريف دمشق، وقد هاجم علي الظاهر قرى سهل حوران ونهبها وأثار الرعب بين الأهالي، وظل متأهبًا لأي تحركات لقافلة الدورة باتجاه الهضاب الوسطى في فلسطين، وقد نجح بالفعل في منع محمد العظم من الخروج من دمشق، وقد أرسل الأخير لمشايخ الخليل والقدس ونابلس يأمرهم بتسليم أموال الميري إلى ملتزميهم عوضًا عن جمعها منهم مباشرة كما جرت العادة، وقد تدبر أمر تجهيز قافلة الحج عن طريق الاستدانة من تجار وأعيان دمشق، وقد وضع ذلك على كاهلهم عبئًا إضافيًا بخلاف أعباء الحروب الإقليمية الدائرة مع عكا منذ سنتين، والتي صعَّبت على التجار مهام تسيير قوافلهم التجارية خارج المدينة وعطلت سير العملية التجارية فيها، وهو ما شكل ضغطًا كبيرًا على الاقتصاد الدمشقي، وضغطًا على خزينة الباب العالي بالتبعية، في ذات الوقت الذي كانت الحرب الدائرة في الشمال لا تزال تستنزف الخزانة بشكل مستمر.
السباحة ضد التيار: التوسعات الأخيرة
لم يحدث وأن مرَّ ظاهر العمر من قبل في ظرف مشابه لذاك الذي وجد نفسه فيه في بداية العام 1772، لقد كانت إمارته في فلسطين أقوى وأضعف من أي وقتٍ مضى على الإطلاق، إذ لم تملك أي قوة إقليمية القدرة على التصدي له وتحجيم نفوذه حتى دمشق نفسها، وفي ذات الوقت فإن روابطه مع الباب العالي قد كانت في أضعف حالاتها إن لم تكن قد وصلت حد القطيعة الكاملة، وكان يعلم يقينًا أن وضعه هذا وإن طال فإنه مؤقت ومرتبط بعمر الحرب ضد الروس، والتي إن انتهت فإنها ستعطي الباب العالي ما يكفي من الوقت والجهد للالتفات للمشاكل الداخلية، وستكون مشكلته، ومشكلة حليفه المصري علي بك الكبير على السواء، على قائمة الأولويات، ولذا فقد قاده تفكيره إلى ضرورة استغلال الوقت من أجل تثبيت موقعه في فلسطين واستعادة روابطه مع الباب العالي والعودة إلى موقعه الرسمي رجلًا للدولة مرة أخرى، لكن ليس ملتزمًا للضرائب كما كان سابقًا بالتأكيد، مع الأخذ بالاعتبار أن مسألة علي بك في مصر كانت في طور الحل بالفعل من وجهة نظر العثمانيين بسبب الخلافات بينه وبين مملوكه محمد بك أبو الدهب، والذي كان واضحًا أنه على وشك قلب الأوضاع في الإيالة المصرية في أية لحظة.
كان الحل الوحيد أمام ظاهر العمر هو الاستمرار بالضغط على النخب العثمانية في دمشق وحلفائها في الإقليم، فإما أن يحسم علي بك الكبير صراع السلطة في مصر لصالحه ويعود ليقوي شوكة ظاهر العمر في فلسطين مرة أخرى، أو أن يستغل الوقت حتى نهاية الحرب من أجل الإبقاء على وضع ميداني يدفع الباب العالي ونخبه في دمشق نحو الجلوس على طاولة مفاوضات يملك فيها ظاهر الأوراق الأقوى. لقد انتقل ظاهر العمر إلى عجلون وسهل حوران، وفرض ابنه علي وجود الزيادنة عند البوابة الجنوبية لدمشق، وكان من البديهي أن يضع ظاهر العمر في حسبانه ضرورة تجريد دمشق ممن تبقى من حلفائها المجاورين له، أي جبل لبنان وجبل نابلس على وجه الخصوص.
كانت الأوضاع في جبل نابلس تشهد تغيرًا متسارعًا في مواقع السلطة مرافقًا للتغير في دمشق، خصوصًا مع بروز أسماء جديدة تمثلت بآل طوقان الذين استطاعوا إقناع دمشق بمنحهم السلطة أولًا على ناحية بني صعب التي كانت تحت سيطرة آل الجيوسي سابقًا، وبعد إقالة عثمان باشا الكرجي تمكن أمير آل طوقان، محمد بك، من إقناع الوالي الجديد محمد باشا العظم بنزع التزام المدينة من آل النمر ومنحه إياه، في مقابل الإبقاء على التزام المناطق الريفية في يد العائلات الأخرى وعلى رأسهم آل جرار، كما أنه أكد على نواياه بتهميش آل جرار عبر إصداره أوامره بالتخلص من وكيلهم في دمشق بتحريض من محمد بك طوقان، من المرجح أن رجال الباب العالي الجدد في دمشق قد طمحوا في أن تجديد الدماء هذا سيعود عليهم بمنفعة في مسعاهم للقضاء على الزيادنة، خاصة وأن الأسماء القديمة لم تتمكن حتى تلك اللحظة من إثبات فعاليتها في المواجهة المستمرة منذ شهور، ومن الواضح أن آل طوقان قد قدموا في مقابل مواقعهم الجديدة وعدًا بدعم جهود دمشق ضد الزيادنة، فقد أرسل محمد بك أخاه أحمد إلى يافا مع أوامر بانتزاع السيطرة عليها مرة أخرى، وقد كانت المدينة حتى ذلك الوقت تحت السيطرة المشتركة للزيادنة والمصريين، وقد تمكن أحمد بك طوقان بالتعاون مع بعض الموالين للعثمانيين داخل يافا من الاستيلاء على مستودعٍ للذخائر المصرية في ميناء المدينة وشنوا هجومًا على الحامية الزيدانية ونجحوا في طردها، وتمكنوا من السيطرة على يافا في أيار 1772.
لقد أثار فقد يافا في تلك اللحظة غضب ظاهر العمر إلى أقصى حد، وذكره ذلك بأن دمشق قادرة على إزعاجه حتى في أضعف حالاتها، خاصة وأن خسارة يافا قد تزامنت مع وصول علي بك الكبير إلى عكا هاربًا من مصر بعد أن خسر قيادة الإقليم لصالح مملوكه محمد بك أبو الدهب، وقد وصل إلى عكا في أيار 1772 بصحبة عدد من مماليكه، وانضم على الفور إلى ظاهر العمر واستلم قيادة من تبقى من ممالكيه الذين كانوا بصحبة الزيادنة، ودعم جهودهم ضد العثمانيين، وذلك على أمل أن يتمكن من العودة إلى مصر مرة أخرى، ولذا فقد كانت استعادة يافا بالنسبة له محورية، فبدون ساحل مؤمن خالٍ من الثغرات لن يتمكن من الإبقاء على اتصاله مع الإقليم المصري بدون أي عقبات.
لم ينجح ظاهر بداية في تقييم الوضع في يافا، ويدلل على ذلك محاولته البائسة لاستخلاصها مرة أخرى من آل طوقان عبر إرساله لمركب صغير محمل بأربعين مقاتل من أجل طرد النابلسية وموالي العثمانيين منها، وقد أُلقي القبض عليهم وأُعدموا على الفور، وقد بدا أن يافا الحصينة ستحتاج إلى مجهودات أكبر من أجل استعادتها مرة أخرى.
بأي حال، يتحول اتجاه الريح في جبل نابلس في صالح ظاهر العمر، وبينما يثبت آل طوقان أهميتهم لوزير دمشق باستردادهم يافا، فإن بقية أعيان الجبل، وبخاصة مشايخ آل جرار يتخذون موقفًا معاكسًا من دمشق، فلم يرق لهم عزلهم عن مناصبهم وتهميش دورهم ومكانتهم لدى الدولة وممثليها في عاصمة الإيالة، ولذا فإن اثنين منهم، وهما الأخوان حمدان ويوسف آل جرار يتصلون بالزيادنة ويتوصلون إلى اتفاق تعاون مشترك تخضع بموجبه أراضيهم في ريف نابلس إلى السلطة الاسمية لظاهر العمر، ويمتد حكم الأخير ليشمل الجبل بريفه باستثناء المدينة، لأول مرة منذ بداية حكمه، وهو ما سيمنح لظاهر أفضلية عسكرية في محاولته استرداد يافا لاحقًا، في ذات الوقت، فإن خضوع يافا لآل طوقان قد شجع عثمان باشا المصري في دمشق أخيرًا على اتخاذ موقف أكثر عدائية من ظاهر العمر، فيقوم بتنظيم جيشه تحت قيادة الدالي خليل والي كركوك، ويأمره باستعادة صيدا، ويرسل معه المملوك المخضرم أحمد بك البوشناقي الذي سيصبح في السنوات اللاحقة واليًا على عكا وسيعرف بلقبه الرهيب (الجزار)، وقد وصل الدالي خليل إلى أسوار صيدا برفقة الأمير يوسف الشهابي كذلك في 22 أيار 1772 فارضين عليها الحصار، وقد أسرع ظاهر العمر برفقة المتاولة وعلي بك وممالكيه إلى مقابلة جيش الدولة ولاقوهم بالقرب من صيدا (عند سهل الغازية) ودارت رحى معركة شرسة تمكن ظاهر العمر وحلفائه من الانتصار فيها، ورفعوا الحصار عن صيدا واستعادوا السيطرة عليها مرة أخرى.
في ذات الوقت فإن ظاهر العمر كان قد طلب من الأسطول الروسي العامل في البحر المتوسط المساعدة في رفع الحصار عن صيدا من البحر، أولًا بقصف المعسكر العثماني المرابط على أسوارها، وثانيًا بمهاجمة بيروت مرفأ الشهابيين بحرًا لتخفيف الضغط الشهابي عن صيدا، وقد استمر هجوم الروس على بيروت إلى أن أُجبر يوسف الشهابي على دفع فدية مالية ضخمة لكف أذاهم عن المدينة. وتعتبر تلك حادثة خطيرة وغير مسبوقة، يتعاون فيها حاكم محلي مسلم مع قوات أجنبية معادية ضد الدولة وسلطة الباب العالي.
بأي حال، تفرغ ظاهر العمر بعد معركة سهل الغازية ليافا، ففرض عليها الحصار برًا وبحرًا بمعاونة الأسطول الروسي مرة أخرى، وتمكن من انتزاعها مرة أخرى من آل طوقان في شباط 1773 بعد حوالي سبعة أشهر من الحصار، ولن ينتهي التعاون بين ظاهر العمر والأسطول الروسي عند هذا الحد، والذي سيعود لحصار بيروت مرة أخرى ولكن بناء على طلب من يوسف الشهابي هذه المرة.
كان الأمير يوسف قد طلب من عثمان باشا المصري تعزيز حماية بيروت خوفًا من أن تصبح هدفًا لظاهر العمر بعد الهزيمة في سهل الغازية، وقد أستغل الأخير الفرصة وأرسل له أحمد بك الجزار مدعمًا بقوات من دمشق، وقد قام الأخير بإحكام السيطرة على المدينة وسعى لطرد سكان جبل لبنان منها ومنع دخولهم إلى المدينة بسلاحهم، لم يكن واضحًا إذا ما كان أحمد الجزار يتصرف بشكلٍ فردي أم بناء على أوامر من دمشق، ولكن من المرجح أن عثمان باشا المصري قد هدف من تصرفه إلى تأمين ميناء شامي قريب من ساحة العمليات العسكرية في الجنوب ليستخدمه الباب العالي في حال تمكن من إرسال إمدادات بحرية، ويدعم هذا الافتراض أن عثمان المصري قد تلقى عدة رسائل من يوسف الشهابي يطلب فيها إخراج الجزار من بيروت، ولكن عثمان باشا قد ماطل في الأمر، وبأي حال فإن تصرفات أحمد الجزار قد أجبرت يوسف الشهابي على التواصل مع ظاهر العمر طلبًا للهدنة، وقد تقابل الاثنان بالقرب من صور بعد تنسيق عمه الأمير منصور الشهابي للاجتماع في حزيران 1773، وخرج الاثنان باتفاق على التحالف دعم بموجبه ظاهر العمر جهود الشهابيين لطرد أحمد الجزار من بيروت، وقد تواصل ظاهر العمر نيابة عن يوسف الشهابي مع الأسطول الروسي مرة أخرى وطلب منهم طرد الجزار من بيروت، وفرض الروس حصارًا على المدينة في تموز 1773 واستمر لأربعة أشهر، اضطر على إثره أحمد الجزار إلى تسليم المدينة للروس ومغادرتها. وخلال الشهر الثالث من الحصار قاد عثمان باشا المصري بنفسه قواته في سبيل مواجهة الأمير يوسف، وقد استنجد الأخير بحليفه الجديد ظاهر العمر، والذي أرسل له إمدادات بقيادة ابنه علي وحليفه ناصيف النصار زعيم المتاولة، وتورد الأخبار أن عثمان المصري قد فضَّل الارتداد إلى دمشق لإدراكه أن لا قدرة له على مواجهة قوات خصومه.
من الجدير بالذكر أن الهجوم الروسي الثاني على بيروت قد وقع خلال مفاوضات بين روسيا والباب العالي بشأن اتفاق لإيقاف إطلاق النار، وقد تسبب التأخير في إيصال الأخبار بشأن الاتفاق من سان بطرسبرج إلى الأسطول في المتوسط في عدم التزام الأسطول بإيقاف إطلاق النار، وكاد حصار بيروت يعصف بالاتفاق إجمالًا، ومهما يكن من أمر، فإن الأسطول الروسي قد ظل مرابطًا على مداخل بحر إيجة، وقد تمكن من منع الباب العالي من تحريك أسطول جديد قام ببنائه بعد معركة جشمة من التحرك في المتوسط، وهو ما صب في مصلحة الزيادنة وحلفائهم إجمالًا.
ختام
من بيروت إلى غزة، امتد سلطان ظاهر العمر الفعلي أو الاسمي على معظم المساحة الواقعة ما بين التخوم الشمالية لجبل لبنان حتى حدود فلسطين مع الإيالة المصرية، وقد ضمت الأراضي الخاضعة لسلطة ظاهر العمر وحلفائه كامل مساحة إيالة صيدا وجبل عجلون بالإضافة إلى وسط وجنوب فلسطين بما يشمل نابلس وجبال الخليل والقدس، وقد كان هذا أقصى توسع تمكن ظاهر العمر من الوصول إليه، وأقوى وضعٍ وجد نفسه فيه خلال سبعة عقود من الحكم، على أن هذه القوة قد اختزنت فيها العديد من أسباب الضعف، وقد كان ظاهر يدرك في تلك اللحظة أن مصيره لا يزال معلقًا بأمر السلطان وانتهاء انشغاله بالجبهات الشمالية ضد القيصرية الروسية، فهو في موقع القوة فقط لأن دمشق عاجزة عن التصدي له، ودمشق عاجزة عن التصدي له لأن قوتها الأساسية قد تعرضت لخسائر فادحة بفضل حلفاء ظاهر العمر من المماليك المصريين الذين فقدهم في تلك اللحظة إلى الأبد.
كان علي بك الكبير قد أجرى من موقعه في عكا اتصالات مع أمراءه وممالكيه السابقين في مصر، والذين وعدوه بدعم دعواه ضد محمد أبي الدهب إذا ما عاد إلى مصر، وعلى الرغم من تحذير ظاهر العمر لحليفه من أن الأمر لن يعدو كونه خدعة ينفذها محمد أبو الدهب بقصد استدراجه لمصر والقضاء عليه، إلا أنه أصر على العودة إلى مصر بأي حال، وقد موَّل ظاهر العمر رحلة عودته وأرسل معه ابنه صليبي مرافقًا، وقد وقع ما توقعه ظاهر العمر بالضبط، إذ كمن أبو الدهب لعلي بك خلال طريق عودته وأسره مصابًا وحمله إلى القاهرة حيث توفي هناك متأثرًا بجروحه، وأعلن أبو الدهب عودة الإيالة المصرية إلى طاعة السلطان مجددًا، وعاد لاستقبال ولاة الدولة في القاهرة.
كانت إمارة ظاهر بأطرافها المترامية إذا لا تزال في خطر محدق، إلا أن الضغط العسكري الذي نجح ظاهر العمر في فرضه على النخب العثمانية في دمشق حتى تلك اللحظة، كان على وشك أن يؤتي أُكله، وكان ظاهر على وشك أن يستعيد صلاته بالباب العالي مرة أخرى عن طريق طاولة المفاوضات، ولكن في نهاية الأمر هبت الريح بعكس ما اشتهت سفن الزيادنة وحلفائهم، ومع تغير الحكومة العثمانية في كانون الثاني 1774 بعد وفاة السلطان مصطفى الثالث وصعود السلطان عبد الحميد الأول على العرش خلفًا له، فإن جميع نتائج المفاوضات التي سيتوصل إليها ظاهر مع النخب العثمانية في دمشق ستذهب في مهب الريح، كما أن الحرب في الشمال ستكون قد وصلت إلى ختامها بتوقيع العثمانيين لمعاهدة كجك كينارجة مع الروس التي ستعني ضمنًا هزيمة العثمانيين، وهي هزيمة اضطروا لقبولها بسبب الانهاك المتواصل لسنوات الحرب الستة، وبسبب البوادر التي ظهرت لاشتعال الجبهة العراقية من جديد ضد الدولة الزندية في فارس، على أن الباب العالي لن يدخل إلى هذه الحرب بدون تصفية المتمردين الذين أنهكوه في الشام ومصر خلال السنوات الماضية، وهو ما سيعني أن غضب الدولة سيعصف بالزيادنة في عكا بلا شك، وهو ما سيكون موضوع النقاش في الجزء القادم والأخير من هذه الدراسة.
مصادر ومراجع:
رافق، عبد الكريم: فلسطين في عهد العثمانيين (1)، الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني، مجلد 2، ص695-848، هيئة الموسوعة الفلسطينية، الطبعة الأولى، 1990، بيروت.
الشهابي، حيدر: تاريخ الأمير حيدر أحمد الشهابي، مطبعة السلام، الطبعة الأولى، 1900، القاهرة.
صافي، خالد: حاكم الجليل في القرن الثامن عشر؛ ظاهر العمر الزيداني (1689-1775)، المركز القومي للدراسات والتوثيق، الطبعة الأولى، 2005، غزة.
الصباغ، عبود: الروض الزاهر في تاريخ ظاهر، تحقيق محمد محافظة وعصام هزايمة، دار الكندي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1999، عمان.
الصباغ، ميخائيل: تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني؛ حاكم عكا وبلاد صفد، تحقيق قسطنطين الباشا المخلصي، شركة نوابغ الفكر، الطبعة الأولى، 2010، القاهرة.
معمر، توفيق: ظاهر العمر؛ كتاب يتناول تاريخ الجليل خاصة والبلاد السورية عامة من سنة 1698 حتى سنة 1777، المعهد العالي للفنون وبيت الكتاب، الطبعة الثالثة، 1996، الناصرة.
يزبك، محمود: الشيخ ظاهر العمر الزيداني؛ العصر الذهبي لفلسطين في العصر الحديث، مطبعة النصر/حجاوي، الطبعة الأولى، 2017، نابلس.
Carmel, Alex. Haifa, A History of Four Centuries under Turkish Rule, Translated by Elias Friedman I.B. Tauris, 2011, London.
Cohen, Amnon. Palestine in the Eighteenth Century: Patterns of Government and Administration, Hebrew University, 1973, Jerusalem.
Philipp, Thomas. Acre, The Rise and Fall of a Palestinian City (1730-1831), Columbia University Press, 2002, New York.
Yazbak, Mahmoud. The Politics of Trade and Power: Dahir al-Umar and the Making of Early Modern Palestine, Journal of the Economic and Social History of the Orient, 56 (2013), pp 696-736.
[1] قافلة عسكرية تخرج من دمشق قبل موعد قافلة الحج بعدة أسابيع تحت قيادة وزير دمشق (أمير الحج الشامي) بهدف جمع الضرائب وأموال الميري من أمراء السناجق الجنوبية في بلاد الشام، تهدف القافلة إلى جمع الأموال اللازمة لتمويل قافلة الحج المنطلقة من دمشق، وإلى تأكيد السلطة العثمانية في المنطقة لتأمين لخروج قافلة الحج وضمان عدم تعرضها لأي متاعب.
[2] للإطلاع على الجزئين السابقين من الدراسة (زيادن الجليل: الاقتصاد والسياسة فلسطين القرن الثامن عشر):
[3] هودج مغطى بالقماش المزخرف يحمل على جمل في بداية قافلة الحج يحوي داخله هدايا يرسلها السلطان إلى الحجاز منها أستار الكعبة المشرفة بالإضافة إلى الصرة السلطانية، وهي أموال وهدايا يخرجها السلطان من خزينة الدولة لتوزيعها على أهل الحجاز.
[4] كان من سياسات النخب العثمانية في سورية تقسيم ولاء القوى المحلية فيما بينها بحيث تستعدي بعضها وتناصر البعض الآخر، وكان الهدف من ذلك إبقاء جميع القوى هذه في حالة من العداء بحيث يحجم كل منها الآخر وتمنع تقوية نفوذه، ومن أوضح الأمثلة على ذلك معركة عين دارة في 1711 بين الحزب القيسي في جبل لبنان بقيادة حيدر الشهابي والحزب اليمني بقيادة محمود أبو هرموش وأمراء آل علم الدين، حيث حضر كل من بشير باشا والي صيدا ونصوح باشا والي دمشق بقواتهما إلى أرض المعركة دون أن يتدخل أي منهم فيها، رغم أنهم قد حضرا بناء على طلب أبو هرموش وعلم الدين، وظلا على حيادهما حتى عندما دارت الدائرة على الحزب اليمني وألحق بهم الشهابيون هزيمة ساحقة، ولم يكن من كلا الرجلين سوى أن عادا أدراجهما وأقرا الوضع الجديد في جبل لبنان بناء على نتيجة المعركة.
[5] كان هذا سلوكًا معتادًا لدى الإمبراطورية، وسبق وأن كررته عدة مرات مع الولاة وقيادات مراكز القوى المحلية، وقد سبق وأن طال عدة أفراد من آل العظم منهم إسماعيل باشا وسليمان باشا وأسعد باشا العظم، حيث أنتهت فترات ولايتهم على دمشق بعملية نهب منظمة لثروات كل منهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق