الدولة التركية في الأناضول والبلقان: من الميراث السلجوقي إلى التوسع العثماني

كانت الشمس قد لاحت في الأفق أخيراً معلنة بدء نهار السادس والعشرين من شهر أغسطس من العام 1071م وأطلت على مقدمة جيش يتكون من 20 ألف مقاتل معظمهم من المرتزقة، تعددت أعراقهم ما بين إنجليز وفرنجة ونورماند وكرجيين (جورجيين) وآرمن وبلغار، بل وحتى أتراك، من قبائل (البجنك Pecheneg) و(الجومان Cuman) التي كانت ضمن طلائع المهاجرين الأتراك إلى أوروبا الشرقية، كان هؤلاء هم كل من تبقى من جيش بلغ تعداده حوالي 40 ألف مقاتل تخلى نصفهم عن الجيش خلال مروره في طريق طويل عبر الأناضول من غربها انطلاقاً من القسطنطينة إلى شرقها حيث السهل المقابل لقلعة "ملازكرت" (باللاتينية: مانزيكرت Manzikert)، الواقعة في مقاطعة "أيبيريا" ضمن "آرمينيا البيزنطية" في أقصى القسم الشرقي من "الأناضول"، وكان يتوسطهم سرادق أمبراطوري جلس فيه الإمبراطور البيزنطي (رومانوس الرابع ديوجينوس Romanos IV| Diogenes) من سلالة الأباطرة اليونانيين المعروفة باسم (دوكاس Doukas)، حيث كان يواجه على الناحية المقابلة جيشاً بلغ تعداده ما بين 20 إلى 30 ألف جندي حسب اختلاف المصادر، يقوده ثاني من تولوا حكم السلطنة السلجوقية، السلطان محمد بن (داوود جانغري) المعروف غالباً لجزء من قراء هذا المقال بلقبه الفارسي الأشهر (ألب أرسلان = الأسد البطل أو الأسد الهصور)، كانت السلطنة السلجوقية الحديثة العهد قد استطالت بيدها على أملاك بيزنطة في الأناضول طيلة العقود الثلاثة الماضية، وقد أمل (رومانوس الرابع ديوجينوس) عندما شن حملته للتصدي للهجوم السلجوقي هذا بأن يمهد الطريق للقضاء على شأفة السلاجقة نهائياً في آخر أرضٍ تسيطر عليها بيزنطة في آسيا، وقد كانت مانزيكرت بالذات جزءًا من أرضٍ استلبها أسلاف (رومانوس) بالحديد والدم من منافسيهم الجورجيين قبل حوالي خمسين سنة ولم يكن مستعداً فيما يبدو لأن يخسرها لسلطان مسلم. خطب (ألب أرسلان) في جنده مرتدياً ثوباً أبيض اللون يرمز لكفنه ويعلن من خلاله استعداده التام للموت دون جنوده، وبعد أن بدأ (رومانوس) هجومه على الجيش السلجوقي، بادر السلاجقة بالتقدم، والتحم الجيشان في معركة ملحمية انتهت بانتصار ساحق للسلاجقة الذين نجحوا في نهاية اليوم في أسر الامبراطور البيزنطي.

بعد حوالي 318 عاماً، وبالضبط في الخامس عشر من يونيو 1389م، وقف قائد عسكري أوروبي آخر على صهوة جواده ليطل على ساحة معركة مرتقبة بالقرب من قوصوة (كوسوفو) البوسنية، كان الأمير (لازار هريبلجانوفيتش Lazar Hrebeljanovic)  أمير "صربيا المورافية" وبجانبه (يوك برانكوفتش) حاكم مقاطعة "برانكوفتش" إضافة إلى (فلاتكو فلاكوفيتش) ملك "البوسنة" على رأس جيش بلغ تعداده حوالي 30 ألف مقاتل خرجوا بعد مباركة من الفاتيكان في مهمة مقدسة لإيقاف الزحف العثماني على البلقان، وعلى مد البصر، كان لازار، الذي نجح سابقاً مرتين في صد العثمانيين عن حدود إمارته، يرى السلطان العثماني (مراد الأول) يقود جيشاً مكوناً من 40 ألف مقاتل وعلى يمينه الشهزادة [ولي العهد] (بايزيد) الذي سيصبح بنهاية هذا اليوم سلطاناً خلفًا لأبيه القتيل بعد أن يقتل بيده أخاه الأصغر الذي حضر المعركة، التحم الجيشان بقوة ودار بينهما قتال شرس استمر لثمانية ساعات استنفذ فيه معظم الجنود الذين سقطوا في ساحة القتال صرعى وجرحى، وبنهاية اليوم استطاع العثمانيون النيل من الأمير (لازار) نفسه الذي قاتل بشجاعة حتى آخر رمق، وأعلن العثمانيون انتصارهم الصعب، ولكن المستحق، هبط مراد عن صهوة جواده يتفقد ساحة المعركة ونال طعنة من جندي صربي جريح فقتله على الفور.

لم تبدأ قصة الأتراك في الأناضول والبلقان عند "مانزيكرت" ولم تنتهِ عند "كوسوفو"، ولكن، كانت هاتان المعركتان الحدثين الأكثر حسماً في تثبيت دعائم أول سلطنة إسلامية في الأناضول، تأسست رسمياً بعد "مانزيكرت" بثلاثة سنوات، وفي تثبيت دعائم آخر سلطنة تركية ستصبح بعد انتهاء النسل العباسي آخر دولة خلافة في العالم الإسلامي، في أوروبا الشرقية. سيسرد هذا المقال، باختصار قدر المستطاع، قصة الأتراك في آسيا الصغرى وشرق أوروبا بين (آل سلجوق) و(آل عثمان).

الأتراك في الأناضول: من سلجوق إلى عثمان

لم تكن "مانزيكرت" الهدف ولا كان ما وصلت إليه يد الأتراك(1) السلاجقة بعد ذلك، بل كان الهدف، والحلم الأكبر، الذي راود غزاة الأناضول المسلمين هو "القسطنطينية Costantinople".

في الواقع، كانت "القسطنطينية" حلماً راود معظم قادة حروب التوسع العربية الإسلامية الأولى، تلك المدينة المنيعة على مضيق البسفور التي كانت في ذلك الزمن درة تاج الامبراطورية الأكثر توسعاً في أوروبا وآسيا وأفريقيا ومهد حضارتها، والمدينة التي ولدت فيها الامبراطورية الرومانية العظمى من جديد كدولة مسيحية، على أن التوسعات الأموية والعباسية ظلت ولعقود طويلة واقفة على الباب الشرقي للأناضول، غير قادرة على إحداث أي اختراق يذكر إلى الأماكن الأكثر قرباً من المركز البيزنطي في العاصمة المقدسة، وقد كان السلاجقة، الذين أسسوا أول سلطنة إسلامية في الأناضول في 1074 م بعد معارك قاسية ضد البيزنطيين، أول من اقترب فعلاً من تحقيق هذا الحلم.

قوى السلاجقة نفوذ سلطنتهم الفتية في غرب آسيا والتي أسسها السلطان طغرل (وليس أرطغرل الذي سيرد ذكره لاحقاً) في 1037م وبدأوا في اختراق صفوف البيزنطيين في آسيا الصغرى، وكانت أولى معاركهم ضد بيزنطة في "باسينلر" (باللاتينية: كابيترون Kapetron) الواقعة في "إرضروم" شمال شرق الأناضول في 1048 م وتوالت بعدها توسعات السلاجقة في الأناضول وأسقطوا المدينة تلو الأخرى، استولوا مثلا على "بايبرت" في 1054م ثم "أديمان" في 1066م ثم "ملاطية" في 1067م إلى أن سيطر أخيراً جيش بقيادة القائد العسكري (أفشين بيك) على "قونية" في 1069م ، وهو الفتح الذي سهل على السلطان السلجوقي (محمد بن داوود جانغري ألب أرسلان) فتح قلعة "ملازكرت" في 1071م، وقد كان لهذا الانتصار نتيجتان مهمتان؛ فمن جهة سهلت سيطرة السلاجقة على قلعة مانزيكرت إنطلاق الحملات العسكرية لتصل إلى عمق الجانب الغربي من الأناضول ووقوع المزيد من المدن تحت سيطرتهم وهو الذي تُوِّج بإنشاء "سلطنة سلاجقة الروم" أو "السلطنة السلجوقية الأناضولية" بعد حصول خاقانها الأول (سليمان بن قتالمش) على منشور السلطنة [الاعتراف الرسمي] من السلطان السلجوقي (ماليك شاه بن ألب أرسلان) في 1074 م، ومن جهة أخرى، كان لانتصار "مانزيكرت" أثراً بالغاً في بدء عملية {تتريك} الأناضول ديمغرافياً(2)، حيث شجعت فتوحات السلاجقة الكثير من أتراك غرب آسيا على الهجرة إلى آسيا الصغرى والاستقرار في قرى ومدن السلطنة الجديدة، وقد استمرت هذه العملية، بتسارع مضطرد، طيلة سنوات صعود وتوسع السلطنة الجديدة، والتي شكلت وطناً جديداً للقبائل التركية المنتشرة في المساحات الشاسعة الممتدة من وسط إلى غرب آسيا، وهو وطن سيظل مرتبطاً باسمهم حتى يومنا هذا.

الفتوحات السلجوقية بعد موقعة مانزيكرت

بأي حال، لم تستطع "سلطنة سلاجقة الروم" بسط نفوذها على مجمل أراضي الأناضول، بالطبع فقد وصلت حدود السلطنة إلى بحر مرمرة والبحرين الأسود والأبيض المتوسط وأسست أسطولاً بحرياً في "إزمير" في 1081 م ساعدها في السيطرة على بعض الجزر اليونانية في "بحر إيجة"، ولكن ظلت بيزنطة قادرة على الاحتفاظ بشريط ساحلي ممتد على طول البحرين الأسود ومرمرة ساعدها على النأي بعاصمتها المنيعة عن طموحات السلاجقة الذين بلغ أقصى توسع لسلطنتهم الفتية عام 1087 م بسيطرتهم على مدينة "الرها". دق التوسع السلجوقي ناقوس خطرٍ عالي الصوت في أوروبا وكان واحداً ضمن عوامل متراكمة، منها عوامل أوروبية داخلية، اقتصادية واجتماعية، ومنها عوامل سياسية مرتبطة بالتوسع العربي الذي بدأ في عهد الأمويين والذي نال من مستوطنات بيزنطة في الشام وشمال أفريقية أولاً ثم أسس دولة قوية في شبه جزيرة إيبيريا ثانياً، ثم نظم هجمات ناجحة قاسية التأثير على مراكز حضرية أوروبية في شبه جزيرة إيطاليا وبعض الجزر اللاتينية واليونانية في البحر المتوسط [نفذها بعض أمراء دولة الأغالبة في العصر العباسي]، وختاماً كان تأسيس "سلطنة سلاجقة الروم" وتهديدها المباشر لمركز أعظم امبراطورية مسيحية في أوروبا، كل تلك العوامل ساهمت في استنهاض أوروبا لقواها لتوجيه ضربة موجعة للمشرق العربي / الإسلامي فكانت الحملة الصليبية الأولى في 1096م، عبرت موجات ثلاثة للحملة الصليبية عبر الأناضول واصطدمت مع "سلطنة سلاجقة الروم" التي اضطرت للتراجع أمام المد الأوروبي وخسرت عاصمتها "إزنك" متراجعة إلى "قونية" ولم تقدر على منع الحملة من تحقيق أهدافها وانتزاع كل من "الرها" و"أنطاكية" والتوغل جنوباً والوصول إلى الشام والسيطرة على الشريط الساحلي المحاذي للبحر الأبيض المتوسط وتأسيس عدد من الإمارات والمقاطعات القوية بالإضافة إلى مملكة في "فلسطين". ظلت "سلطنة سلاجقة الروم" تراوح مكانها ما بين تقدم وتراجع ضد البيزنطيين والصليبيين واستطاعت بالرغم من الأخطار المحدقة بها ما بين أعداء خارجيين وخلافات داخلية وصراعات على الحكم أن تصمد لما يزيد على قرنين لاحقين ونجحت بالتصدي لحملتين صليبيتين أخريتين إلى أن بدأ تفككها على يد الغزو المغولي وخضعت للدولة التي سبق وأسسها الإيلخان، أو الخان الصغير، (هولاكو)، في غرب آسيا خلال النصف الثاني من القرن الثالث عشر، ثم تضائل نطاق نفوذها على الإمارات التركية في الأناضول والتي بدأت برفض سلطة السلطان السلجوقي تدريجياً، وانقطعت آثار السلطنة في العام 1303 م بوفاة آخر سلاطينها (غياث الدين مسعود الثاني)، وظل ما تبقى من إماراتها تابعاً للإيلخان في مدينة "تبريز" مباشرة.

كان واحد من الأخطار المذكورة بعاليه والتي واجهت (سلطنة سلاجقة الروم) قبل تفككها الأخير ونجحت في مواجهتها بنجاعة، الهجوم الذي حاولت شنه الدولة الخوارزمية، سلطنة أتراك وفرس وسط آسيا، تحت حكم (جلال الدين خوارزم شاه)، على حدودها الشرقية في 1230م ، وقد تصدى للهجوم السلطان (علاء الدين كيكباد الكبير) في معركة "ياصي جمن" في 10 أغسطس 1230 م. دعى (علاء الدين) عشائر الأتراك للاستجابة لنداء الحرب، وكان من بين المستجيبين (أرطغرل بن كندز ألب(3)) [بالتركية الحديثة: آرتورول Ertugrul]  أمير عشيرة قايي والذي كان يرابط مع أفراد عشيرته بالقرب من "أخلاط" الواقعة بمحاذاة بحيرة "فان" (ضمن بتليس حاليا) شرق الأناضول، كافئ السلطان (علاء الدين) الأمير (أرطغرل) على مساندته ومنحه أرضاً  على حدود الدولة البيزنطية لتكون وطناً لعشيرته.

الأناضول في عهد علاء الدين كيكباد الأول (الكبير)


العثمانية في الأناضول والبلقان: من عثمان المؤسس إلى مراد الأول

كانت "قايي" واحدة من العشائر التركية الخاقانية(4) التي هاجرت إلى الأناضول الشرقية عقب الاستيلاء على قلعة "مانزيكرت" في 1071 م وظلت في "أخلاط" حتى العام 1230 م على الأقل، من المرجح أن "قايي" كانت تتبع مباشرة لسلطة الفرع المارديني [نسبة لمدينة ماردين جنوب شرق الأناضول] من أمراء بني (أرتق(5) أو آرتوك Artukoglu)، وأنهم وبشكل مثير للاستغراب تلقوا أوامر من السلطان (علاء الدين كيكباد الكبير) في 1230 أو 1231م للتحرك غرباً لمسافة ألف كيلومتر والمرابطة على حدود السلطنة مع الإمبراطورية البيزنطية بالقرب من مقاطعة "بيلة جك" الحالية، ويُعتقد أن الأوامر التي حملوها منحتهم أراضٍ اشتملت على المساحة الواقعة ضمن مثلث "بيله جك" - "أسكيشهر" - "كوتاهية" وضمت على الأقل على مناطق "بوزيوك" و"سوغوت" و"دومانيتش"، وربما من الواجب أن يتوقف المقال للحظة عند سؤال مهم: لماذا أصدر السلطان هذه الأوامر ولماذا قبلت "قايي" وأميرها (أرطغرل) بتنفيذها؟

من الضروري في البداية إدراك أن ثبوت الراوية الواردة بعاليه عن كون إمارة (أرطغرل) في أقصى الغرب الأناضولي كانت مكافأة له على مساندته للجيش السلجوقي في معركة "ياصي جمن" غير قطعي، وربما شارك (أرطغرل) ورجال عشيرته في قتال الأيوبيين في حلب أو ربما اضطر للنزوح خشية من وصول مرتقب للغزاة المغول، كما أن تعداد عشيرة "قايي" المرابطة في "أخلاط "كان أقل من 4000 شخص، بما يشمل النساء والأطفال، فما الذي قصد به (علاء الدين كيكباد الكبير) عندما أرسل هذه القلة من الناس إلى جوار ألد أعداء سلطنته مع أوامر بحماية حدوده معهم وربما المساهمة في توسيعها؟ بل ما الذي يمكن أن تمنحه من الأساس عشيرة صغيرة كعشيرة "قايي" لجيش سلجوقي يبلغ تعداده أكثر من 50 ألف مقاتل ويكون سبباً في استثارة إعجاب (علاء الدين) بها ومنحها مقاطعة خاصة بها لتحكمها؟ بل هل من الممكن أن يكون إرسال "قايي" إلى غرب الأناضول كان تهجيراً قسرياً عقابياً لا مكافأة؟ خاصة وأن "قايي" موجودة في "أخلاط" منذ عقود طويلة وقد كانت طيلة تلك الفترة وطناً لهم لم يحاولوا تغييره؟ لا وجود لإجابات قاطعة لهذه الأسئلة، لكن المقطوع بصحته بحسب المصادر التاريخية أن أرطغرل أصبح أميراً برتبة (أوج بلك)(6)، وأنه استقر بعشيرة "قايي" بالقرب من "بيله جك" في 1231 م وأن إدارته لها كانت تحت إمرة عدد من الأسر التركية التي حكمت "أسكيشهر" و"كوتاهية" و"قسطموني"، مثل بني (جوبان) و(جاندار) و(جيرميان) الذين دانوا لهم بالتبعية طيلة سنوات طويلة.

مثلث بيلة جك - كوتاهية - أسكيشهر على خريطة حديثة للجمهورية التركية


حدود تقريبية لإمارة عثمان في الأناضول في بداية القرن الرابع عشر الميلادي

وإذا ما تجاوز المقال عن السؤال السابق، يظهر أمامه سؤال ملح آخر، لا يتعلق بظروف نشأة الإمارة العثمانية فحسب بل بالظروف التي رافقت توسع حدودها المضطرد وانتشارها المستمر والدائم الحركة، أي كيف استطاعت هذه الإمارة الصغيرة في الوقت الذي لم يكن لها ما يكفي من الشأن لتتلقى أوامرها وتدفع ضرائبها باتصال مباشر مع السلطان في قونية، أن تتحول إلى قوة عالمية ضاربة تنتشر أراضيها في جميع قارات العالم القديم خلال عدة قرون فحسب بينما كان توسعها الأول على حساب قوة ضاربة كالامبراطورية البيزنطية؟ كان من الصعب على أي مؤرخ معرفة حقيقة ما جرى بالفعل في تلك الفترة التي امتدت من نهاية القرن الثالث عشر حتى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، فأقدم الوثائق التي تركتها لنا الدولة العثمانية تعود إلى القرن الخامس عشر فيما ضاعت وثائق المئة والعشرين سنة الأولى من تاريخ الدولة أثناء هجوم جيوش تركستان الشرقية بقيادة تيمور لنك على الأناضول في عهد السلطان يلدرم بايزيد، وقد مرت الدولة منذ ذلك الحين بتغيرات عميقة أثرت بدون شك على منهجية كتابة تاريخها وتأثر مؤرخي تلك الحقبة بإنجازات العثمانية اللاحقة وتوسعاتها أولاً واعتماهم على مصادر تفتقر إلى الدقة غالبا كالتاريخ الشفهي بسبب بعد الفترة الزمنية الفاصلة بين وقت وقوع الأحداث ووقت بداية إعادة تدوينها، ولذا، وبناء على ما تقدم، فقد شغل السؤال المذكور بعاليه المؤرخين سنوات عديدة، ، وقد وضع بعض المستشرقين خلال القرن التاسع عشر نظريات تفسر التوسعات العثمانية على أساس عنصري ينسب [إنجازات] العثمانية إلى أعراق وأجناس أخرى، وقد كانت أول ردة فعل على هذه النظريات طرح عنصري مضاد للمؤرخ التركي (فؤاد كوبرولو Fuat Koprulu) والذي ينسب تأسيس الدولة العثمانية إلى عشائر من أتراك الأوغاز القاطنين في وسط آسيا والذين تحركوا إلى الأناضول هرباً من الغزو المغولي، واستطاعوا بالتعاون مع عناصر (تركية إسلامية) من أطراف الأناضول تمرست في الحكم والحرب تحت إدارة السلاجقة تأسيس الدولة العثمانية، كانت هذه نظرية ضعيفة بدون شك، وقد أضعفها وجود دلائل أركيولوجية تثبت وجود العشيرة الأساسية التي نسل منها البيت العثماني وتكونت حولها السلطنة، وهي عشيرة "قايي"، في منطقة "أخلاط" شرق الأناضول قبل بدء الغزو المغولي بفترة طويلة، حيث تمتلأ تلك المنطقة بالكثير من شواهد قبور وأضرحة أجداد العثمانية، ما يؤكد على أن هجرة "قايي" إلى الأناضول قد تمت كواحدة من نتائج التوسع السلجوقي خلال النصف الثاني من القرن الحادي عشر الذي تلى انتصار "مانزيكرت" في 1071م. لكن نظرية (كوبرولو) الضعيفة أعطت فكرة للمؤرخ النمساوي (بول ويتيك Paul Wittek) أسس عليها نظرية تشرح من وجهة نظره قدرة العثمانيين على التوسع بهذه السرعة، فقد قبل ويتيك بالأساس (العرقي/التركي-الديني/الإسلامي) الذي يحصر فيه (كوبرولو) العثمانية في شكلها الأول، ولكنه يفسر قدرة الدولة العثمانية على حشد كل هذا العدد من الجنود واجتذاب كل هذا العدد من الرعايا بنظرية عُرفت في الأوساط الأكاديمية طيلة خمسة عقود باسم (نظرية الغازي أو نظرية الغزو) (Gaza or Ghazi Thesis)، وبالنسبة لويتيك فإن العثمانيين نجحوا في استغلال مفهوم [الغزو] كتعريف للجهاد والحرب المقدسة في تجنيد الأتراك تحت رايتهم لقتال البيزنطيين والأوروبيين الكفار، وأن هذه العقيدة التي يتشابك فيها [الديني] بـ [العرقي] كانت الوسيلة التي منحت للعثمانيين تفوقهم العسكري طيلة قرون لاحقة. كان واحد من الأدلة الرئيسية التي اعتمد عليها ويتيك في صياغة نظريته قصيدة كُتبت في القرن الخامس عشر تستذكر إنجازات السلطان أورخان الأول وتمتدح فتحه لبورصة وتصفه بأنه [غازي بن غازي]، وبالنسبة له، فإن هذه الأوصاف ذات الدلالة الدينية ربما شكلت جزءًا من أيديولوجية متكاملة أثرت على رعايا الدولة الجديدة وساعدت في تجنيدهم في حروبها التوسعية.

ظلت [نظرية الغازي] هذه مسيطرة على الأوساط الاكاديمية طيلة خمسة عقود (من ثلاثينات حتى ثمانينات القرن العشرين) لم يمسسها نقد بسوء، بل إنها أثرت حتى على الأكاديميا التركية ووجهت كثيراً من المؤرخين الأتراك الذين بحثوا في تاريخ أسلافهم العثمانيين إلى محاولة إثباتها وبناء صورة متخيلة عن عالم عشيرة قايي الصغيرة في إمارة عثمان الحدودية، ويذكر المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في مصنفه الضخم (تاريخ الدولة العثمانية) كيف أن التركمان الرحل [البدو] كانوا يشكلون قلبا نابضاً للمقاطعات الحدودية مع بيزنطة وأنهم، بخلاف سكان المدن المتشبعين بالثقافة الفارسية والعربية، أكثر فعالية في شؤون الحرب والغزو والقتال، يذكر أوزتونا وجود مجموعة من [الغزاة الدراويش]، ربما كان يقصد بهم طبقة اجتماعية، تتشكل أساسا من المنتمين إلى بعض الطرق الصوفية المنتشرة في وسط آسيا وغربها، كانوا مسؤولين عن (تربية) التركمان البدو حديثي العهد بالإسلام أو من تربطهم بالديانة رابطة ضعيفة معنى وسمو الجهاد في سبيل الله، ويوضح أوزتونا أن القصبات [المجتمعات البدوية التركية التي تعيش متنقلة تحت إمرة أميرها] التي أسستها العثمانية في غرب الأناضول والتي كانت تتحول إلى مجتمعات مستقرة كانت تتمحور حول مؤسسات اجتماعية دينية مثل المسجد والمدارس الدينية والحمامات العامة التي تشكل أماكن التقاء وفضاء لتعليم الشبيبة فضل الجهاد والغزو في سبيل الله، تعطي هذه الصورة لمحة عن تجربة مشابهة تأسست في نجد في بدايات القرن العشرين على يد بعض رجال الدين من (آل الشيخ) العاملين تحت إمرة سلطنة نجد وحاكمها السعودي (عبد العزيز) وهي تجربة الهجرات التي استخدمت في توطين البدو وتجنيدهم للقتال لصالح العائلة السعودية  في "الرياض".

بحلول 1980م بدأت تظهر أصوات ناقدة هاجمت النظرية بقوة وأثبتت فيها الكثير من نقاط الضعف، فالأبحاث التاريخية تثبت بأن بني عثمان لم يكونوا متشددين دينياً (بحسب مفهوم الأكاديميا الغربية للتشدد الديني المرتبط بمفهوم الإسلام السني) بل كانوا في حكم أصحاب البدع والضلالة بنظر أقرانهم من المسلمين السنة لانتمائهم أساساً لفرق وطرق صوفية في الغالب، كما أن العثمانيين كانوا متساهلين في تجنيد أهل الذمة من المسيحيين من أهالي المدن والبلاد التي سيطروا عليها، كما أن الأوصاف التي نالها مؤسسوا السلطنة من سلاطينها الأوائل وبالرغم من طابعها الديني إلا أنها لا تعكس حقيقة توجهاتهم الأيديولوجية وغالبا ما منحها إياهم المؤرخون تكريماً لذكراهم، وقد أظهرت سياسة العثمانيين نمطاً [لا-دينياً] براغماتي الطابع سيطر على توجهاتهم السياسية وتوسعاتهم العسكرية، وبالأخص عندما تحالفوا ذات مرة مع امبراطور بيزنطي وقاتلوا لأجله في البلقان في عهد (أورخان الأول)، كما أن العثمانيين في بداية دولتهم وباعتبارهم بدوًا رحلاً فقد تواجدوا بعيدًا عن المراكز الحضرية الإسلامية التقليدية التي نشأت فيها الفرق الإسلامية السنية وبعيدين بالتبعية عن الخلافات العميقة التي نشأت بين السنة ومذاهبهم وبين الفرق الأخرى وبعيدين عن الانخراط فيها، كما أن هذه القبائل التركية لم تتخلَ بعد بشكل كامل عن موروثها الديني القديم في حقبة ما قبل الإسلام، والذي كان يؤثر على عاداتها وتقاليدها وبشكل خاص على طريقة اختيار أمرائهم وحكامهم، والتي استندت إلى عقيدة قديمة منحت طبقة ضيقة من الأتراك، هي العشائر الخاقانية أو السلطانية، حقاً إلهياً يتيح لهم اتخاذ الألقاب وتشكيل الإمارات والسلطنات، وختاماً، فإن الدليل المحوري الذي استند عليه (ويتيك) كان أساساً قصيدةً كتبت في القرن الخامس عشر، أي بعد فتح (أورخان الأول) لـ "بورصة" بعقود طويلة، ولم يكن استخدام القصيدة لوصف مثل [الغازي بن الغازي] إلا تخيلاً رومانسياً لوقائع حدثت في الماضي.

بناء على ما تقدم، كان من الصعب الإيقان بأن العرق والدين كانا وقوداً محركاً لتوسع الدولة العثمانية خلال القرن الأول من تاريخها، ومن الصعب تخيل العثمانيين كمجموعة متجانسة عرقياً مندفعة في فتوحاتها وتوسعاتها بدافعٍ من عقيدةٍ دينيةٍ، وبالرغم من تزايد الانتقادات لنظرية ويتيك إلا أن محاولات قليلة قد تمت في سبيل إيجاد بديل مناسب لها، ربما كانت أول محاولة بالفعل كانت في 1983م للمؤرخ الأمريكي (رودي بول ليندنر) من جامعة ميشيغان والذي حاول تفسير التوسع العثماني الأول استناداً إلى نظريات في علم الأنثروبولوجيا (علم الانسان)، فطبقاً لوجهة نظره كانت العثمانية تجمعاً قبلياً بدوياً ارتبطت عناصره المختلفة بروابط العلاقات المشتركة وليس بعلاقات الدم والمصاهرة، وقد اتحدت مع بعضها في سبيل شن حرب على المجتمع المديني المحيط بها بهدف الانخراط فيه! وقد كان من المنطقي أن توجه طرف سيفها نحو المجتمع المديني الأكثر قرباً منها، وهو الدولة البيزنطية، مستبعداً بشكل كامل أن يكون للعرق دور محوري في التوسعات العثمانية، ومستبعداً كذلك تأثير العقيدة الدينية، بل إن (ليندنر) كان يرى أن انتماء العثمانيين في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي للإسلام كان صورياً وأنهم كانوا أقرب للوثنية منهم للإسلام. في 1995م قام المؤرخ التركي (جمال كافدار Cemal Kafadar) بمحاولة لتصحيح بعض المفاهيم بخصوص التشدد الديني، وبالنسبة لـ (كافدار) فالالتزام الديني الذي قد يكون محركاً للرغبة في الانخراط في دعوة دينية مسلحة غير مرتبط بالضرورة بالاسلام السني، ادعى (كافدار) أيضاً بأن مفردة (غزو) في التركية قد ارتبطت أحياناً بمفهوم غير ديني، وهي كذلك بالفعل ولم تكتسب معناها الديني عند العرب أيضاً إلا لاحقاً، ومن المحتمل بحسب (كافدار) أن معنى هذه الكلمة قد تطور عبر الزمن وأنها أطلقت ليس على نشاط دعوي ديني مسلح ولكن على مجتمع محاربين نشأ في المقاطعات التركية الحدودية المحاذية لبيزنطة وقد شكل هذا المجتمع طبقة اجتماعية.

عموماً فإن هذه الرحلة من التوسع والنمو التي حيرت بدايتها المؤرخين بدأت فعلياً باستلام (عثمان) الأول الحكم خلفاً لأبيه (أرطغرل) في 1281 م وقد بدأ حراكاً توسعياً وضع حجر الأساس الحقيقي للامبراطورية العالمية التي ستنشأ لاحقاً وستبلغ توسعها الأقصى في ثلاثة قارات بعد عدة قرون، توسع عثمان شمالاً ناحية نهر "سكاريا" وغربا ناحية "بورصة" محاولاً الوصول إلى بحر "مرمرة"، كان أول تحرك عسكري له الاستيلاء على حصن "قره جه حصار" في 1288م، أحكم سيطرته على القضاء المركزي لـ "أسكيشهر" وقلعتها، ومناطق "كيفة" و"أقيازي" التابعة لـ "سكاريا"، و"دومانج" التابعة لـ "كوتاهية"، واستولى على "يني شهر" التي أسس فيها قاعد حكم مؤقتة، وكذلك "مودانية" و"إينه كول" في "بورصة"، على أن أهم إنجاز له، من حيث تأثيره على مستقبل الإمارة، كان انتصاره ضد الحاكم البيزنطي في "بورصة" (باللاتينية: بروسا Prusa) (جورج موزالون) في معركة "قويونوحصار" (باللاتينية: بافيوس Bapheus) في يوليو 1302م والتي ساهمت في إنهاء سيطرة البيزنطيين على ريف "بورصة" وتراجعهم للتحصن في قلاعهم ما ساعد على تسهيل مهمة إسقاطها لاحقاً واحدةً تلو الأخرى، كما بدأ الرعايا البيزنطيون خوفاً من الإمارة العثمانية بالخروج بشكل موسع من الأناضول متجهين ناحية أراضي الامبراطورية في القارة المجاورة وهو الأمر الذي ساعد في قلب الميزان الديمغرافي لصالح الأتراك. حاصر عثمان مدينة "بورصة" لسنوات طويلة وإن لم ينجح في أخذها، فلم يكن لجيشه، الذي اعتمد بشكل أساسي على المشاة والخيالة الخفيفة، أي تفوق لوجستي يتيح له الاستيلاء على مدينة محصنة مثل "بورصة"، لكنه كان معنياً بدون شك ورغم عدم قدرته على كسر دفاعات المدينة، بإطالة أمد الحصار ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لأن أي هجوم عكسي كانت ستشنه بيزنطة على أراضيه كان ليعتمد "بورصة" كنقطة تجهيز وانطلاق، فُتحت "بورصة" في أبريل 1326م على يد خليفة عثمان، أورخان الأول، واتخذها عاصمة ومقراً له.

توسع الإمارة العثمانية في عهد عثمان الأول


في محاولة أخيرة ويائسة، شن الامبراطور البيزنطي (أندرونيكوس الثالث باليولوجوس Andronicus III Palaeologus) هجوماً على العثمانيين بقصد إعادة الاستيلاء على المدن التي سقطت في أيديهم، قابله (أورخان) في "كنزة داريجاسي" (باللاتينية: بيليكانوم Pelekanom) شمال خليج "إيزمت" في يونيو 1329م وألحق به هزيمة ساحقة وأجبره على الارتداد إلى "القسطنطينية" ولم تستطع بيزنطة بعد تلك الموقعة إيقاف أي حراك توسعي عثماني في الأناضول، كما أنها سهلت على (أورخان الأول) كنتيجة لتلك المعركة السيطرة على "إزنك" مدينة العرش السلجوقي القديمة في 1331م وهو الأمر الذي شجعه على رفض التبعية للإيلخان المغولي في "تبريز" وإعلان البيت العثماني وريثاً شرعياً للسلطنة السلجوقية. كان لهذا الإعلان قيمة معنوية كبيرة، وأظهر التردد الذي أبداه أمراء الدويلات التركية في الأناضول في رفضه أو قبوله خوفهم من التوسع العثماني وقوة دولتهم المتنامية، ولم يرفضه صراحة سوى أمراء (قرة مان) الذين كانوا يسيطرون على "قونية" آخر عواصم السلاجقة ويعتبرون أنفسهم أحق بوراثتهم، كان إعلان أورخان تصريحاً باستعداد الدولة العثمانية الفتية لفتح جبهات جديدة إلى الشرق بجانب الجبهة البيزنطية وإنهاء عقود من سياسة الحياد في التعامل مع جيرانهم من الأتراك.

التوسع العثماني في عهد أورخان الأول

توسعت دولة أورخان واستطاعت الوصول إلى الشواطئ الثلاثة، مرمرة والأسود وإيجة، توسعت على حساب جيرانها من الأتراك لأول مرة، استولت على "أنقرة Ankara" بصلح ديبلوماسي، استولت على "بولو"، قلصت حكم أمراء العثمانية القدامى من بني (جاندار)، سيطرت على جزر مرمرة ومضيق "جنا قلعة" و"أسكودار" وأصبحت تتحكم في كامل الضفة الآسيوية لبحر مرمرة مع كل من مضيقيه، وقفت القوات العثمانية على مضيق البسفور واستشرفت قبة آية صوفيا على الضفة الأخرى للمضيق، سيطرت على جزء كبير من مقاطعة "كوتاهية"، استولى (أورخان) على "قرا صي Karasi" ومدينة "بيرجاما" إحدى أهم مراكزها (ضمن ولاية إزمير حالياً) وسيطر على أسطولها البحري الذي مكنه من السيطرة على بعض جزر بحر مرمرة كما انضم إليه جزء كبير من جيشها البالغ 25 ألف مقاتل، وارتفع بذلك تعداد جيشه إلى حوالي 120 ألف مقاتل منهم 50 ألف من الخيالة وأصبحت الدولة العثمانية بذلك أقوى قوة ضاربة في الأناضول(7)، انتقلت قوات (أورخان) إلى أوروبا للمرة الأولى، وقاتلت، تحت راية الامبراطور البيزنطي (يوحنا الخامس باليولوجوس John V Palaeologus) بعد عقد صلح معه في 1347م ضد المتمردين السلاف في البلقان، وقد وصل المقاتلون العثمانيون، تحت قيادة الشهزادة [ولي العهد] (سليمان بن أورخان)، حتى مدينة "سلانيك" (شمال اليونان)، اعترف (يوحنا الخامس) بفضل العثمانيين ومنح لسليمان في العام 1353م قلعة "جيمبا Gimpa" في شبه جزيرة "جاليبولي Gallipoli" على الضفة الغربية لمضيق "جنا قلعة"، وامتلك بذلك العثمانيون موطئ قدم في أوروبا لأول مرة(8). توفي (الشهزادة سليمان) في 1357م قبل وفاة والده وانتقلت ولاية العهد إلى أخيه (مراد الأول) الذي تولى السلطنة في مارس من العام 1362م واستمر في سياسة سلفه التوسعية شرقاً في الأناضول وغرباً في البلقان، كان (مراد الأول) مقتنعا بأن الحرب في الأناضول ليست إلا مضيعة لجهد ووقت هو في غنى عنها، وأن أي أرض جديدة يكسبها في البلقان ستوسع من نفوذه في الأناضول تلقائياً، ولذا فقد حاول استخدام سياسة ديبلوماسية مع الحد الأدنى من المجهود العسكري لضبط الأمور مع جيرانه الأتراك، ضغط مراد على الإمارة الحميدية (بني حميد) واضطرهم لقبول التنازل عن جزء من إمارتهم ضم مدن "آق شهر" و "بك شهري" و "سيدي شهري" و"يالواج" وأعلنوا قبولهم بالسيادة الاسمية للعثمانيين، سيطر على "أنطاليا" وفصل جغرافياً بين إمارات "آيدن" و"قرة مان و"جاندار" و"جيرميان"، وطد علاقته بجيرانه وقبل كل من (بني جيرميان) و (بني جاندار) بسلطته عليهم فيما رفضها (القرة مانيون) بالرغم من مصاهرة أميرهم (داماد علاء الدين) مع (مراد الأول)، كان (القرة مانيون) يعتمدون في نزاعهم الديبلوماسي البارد مع العثمانيين على حلفهم مع إمارة قبرص اللاتينية والسلطنة المملوكية في مصر والشام والتي كانوا يعتبرونها تابعة لهم! جرد مراد صهره من أهم حليف بعقده معاهدة صداقة مع المماليك في 1385م والذين أقنعوا الخليفة العباسي المقيم لديهم في القاهرة بمنح مراد لقب السلطنة رسمياً والاعتراف بالعثمانيين سلاطنة على الأناضول لأول مرة، رد (داماد علاء الدين) كان سريعا فتحرك واستولى على "بك شهري" في استفزاز واضح لحميه الذي أرسل له (الشهزادة بايزيد الأول) بجيش قوامه 70 ألف مقاتل، وهو أضخم من أي جيش جرده مراد في أي من معاركه وفتوحاته في البلقان طيلة سني حكمه، صرع بايزيد جيوش زوج اخته (داماد علاء الدين) واستعاد "بك شهري" في معركة خاطفة، توسطت زوجة (علاء الدين) له عند أبيها ودخل في طاعته مرة أخرى، كانت تلك المعركة إلهاءًَ ومضيعة للوقت والجهد في نفس اللحظة التي كانت القوات العثمانية في وضع حرج في البلقان في مواجهة إتحاد شرق-أوروبي تقوده إمارة "صربيا المورافية" ضد العثمانيين.

التوسع العثماني في عهد مراد الأول

وبالانتقال إلى الطرف الآخر من السلطنة، نرى أن العثمانيين قاموا ولأول مرة في عهد (مراد الأول) فرض العثمانيون الجزية، لأول مرة، على القسطنطينية، كما على مملكتي صربيا وبلغاريا، ثبت (مراد الأول) أقدام العثمانيين في البلقان وبحلول العام 1388م كانت السلطنة قد ضمت كلاً من "أدرنة" (باللاتينية Adrianople) (التي جعلها عاصمة للقسم البلقاني من السلطنة) و"فيلبي" و"مناسطير" و"صوفيا" [عاصمة بلغاريا الحالية] و"نيش"، استطالت سطوة العثمانيين في عهد (مراد الأول) ووصلت توسعاتهم إلى البوسنة وألبانيا و"آتيكا" [في اليونان] وضمت مملكة بلغاريا بالكامل، كان البابا (أوربان الخامس Urban V) قد دعى لتجهيز حملة صليبية لقتال العثمانيين والدفاع عن البلقان في 1364م وقد انطلقت الحملة السافويانية Savoyard crusade بالفعل في يناير من العام 1366م بقيادة الكونت (أمادوس السادس) حاكم مقاطعة "سافوي" [في جبال الألب وسط أوروبا] ولكنها لم تستطع تحقيق غايتها العسكرية وانحرفت بوصلتها تجاه معارك جانبية ضد الامبراطورية البلغارية، حققت حملة (سافوي) نجاحاً محدوداً في "جاليبولي" والذي عاد وأجهضه البيزنطيون بإعادة منحها للعثمانيين بعد حوالي عقد من الزمن كمكافأة أعطاها (يوحنا الخامس) لـ (مراد الأول) على جهوده في دعمه ضد ابنه أندرونيكوس الرابع الذي قاد ضده تمرداً فاشلاًَ انتهى في 1379م. طيلة العقد اللاحق وحتى وفاة مراد الأول ظلت صربيا عصية على العثمانيين بسبب صمود الأمير الصربي (لازار هريبلجانوفيتش) الذي واجه جيوش (مراد الأول) في "دبرونيفيتشا"  في ديسمبر 1381م [وسط صربيا الحالية] واستطاع هزيمتها وإعاقة تقدمها في البلقان وأجبر العثمانيين على الابتعاد عن إمارته طيلة السنوات الخمس اللاحقة، تعرضت إمارته لهجوم آخر في 1386م شنه القائد العثماني (قولا شاهين بيك) والذي مني بخسارة فادحة وسقط حوالي ثلاثة أرباع جيشه المكون من 20 ألف مقاتل ما بين قتيل وجريح، بالرغم من صمود إمارة (لازار) ومملكة صربيا إلا أن آخر معاقل بلغاريا سقطت بالفعل بعد سنة واحدة فقط بعد هجوم شنه (جاندرلي علي باشا) الصدر الأعظم(9) على ضفاف نهر "الدانوب" وأدى ذلك لتزايد الخطر العثماني على صربيا وما تبقى من إمارات وممالك البلقان التي استنجد رؤسائها بالبابا في الفاتيكان لنجدتهم وقد أعلن بالفعل عن استنفار حملة صليبية جديدة على العثمانيين، اتحد (لازار هريبلجانوفيتش) مع أمير مقاطعة "برانكوفيتش" والملك البوسني كما ذُكر في بداية المقال بهدف شن هجوم موسع على مناطق سيطرة العثمانيين في البلقان، وتقابل الاتحاد مع جيش (مراد الأول) الذي قاده بنفسه برفقة ابنيه (الشهزاده بايزيد الأول) و(يعقوب شيلبي Yakub Celebi) في معركة "قوصوة" (باللاتينية: كوسوفو Kosovo) في يونيو 1389م، سقطت (لازار) و(مراد) صرعى بنهاية المعركة وتولى (بايزيد الأول) السلطنة خلفاً لأبيه. بالرغم من الإنهاك الذي نال من العثمانيين بسبب معركة "كوسوفو" إلا أن نتيجتها حسمت أمر الوجود العثماني في البلقان، وثبتت أقدامهم فيها طيلة الخمسمائة سنة اللاحقة.

لم تنتهِ توسعات العثمانيين عند هذا الحد، ظلت الماكينة الحربية تعمل بجد ونشاط طيلة قرون لاحقة، وكادت تحقق (إنجازات) أكبر وأضخم مما وصلت إليه، طرق العثمانيون أبواب (فيينا) النمساوية و(روما) الفاتيكانية وإن لم ينجحوا بدخولها، خاضوا حروباً ضروساً مع روسيا وإيران، رُفعت أعلامهم على معظم دول الساحل الشمالي لأفريقيا، وكانوا أول قوة عظمى نازعت البرتغاليين على نفوذهم في الخليج الفارسي والقرن الأفريقي، وغير ذلك مما لن يتسع المجال لذكره في مقال واحد.


--------------------------------

(1) المقصود هنا خليط الأعراق الذي كون مجمل رعايا السلطنة السلجوقية من ترك وكرد وفرس، واستُخدمت (أتراك) اختصاراً ولغلبة العنصر التركي لاحقاً.

(2) كانت لغة النخبة المفضلة هي الفارسية وهي التي استخدموها لنظم الشعر، بينما استخدم السلاجقة العربية في المعاملات الرسمية وتكلم عامة الناس بالتركية. كانت عائلة قرة مان (1250 - 1487 م) التي حكمت واحدة من الإمارات الغرب-أناضولية التي نشأت نتيجة لتفكك السلطنة في النصف الثاني من القرن الثالث عشر أول من استخدم اللغة التركية كلغة رسمية وفرض التتريك ثقافياً.

(3) اسمه كندز ألب وكان قائدًا لعشيرة قايي سلفاً لابنه أرطغرل، وليس (سليمان-شاه) كما درج في بعض الأساطير التي أحاطت باسم مؤسس البيت العثماني، ويُرجح أن تسمية أبيه بسليمان كانت لأجل ربطه باسم السلطان سليمان بن قتالمش سلطان سلاجقة الروم الأول، وكان ذلك بسبب توطيد لصلة مفترضة بين العثمانيين والسلاجقة باعتبارهم خلفاء شرعيين لهم.

(4) العشائر أبو البطون الخاقانية: عشائر تركية كانت تملك حق تأسيس السلطنات والإمارات تبعاً لتقاليد متوارثة بين الأقوام التركية من مرحلة ما قبل الإسلام بناء على حقوق منحت لها على أساس تشريعات أقرتها الديانة التركية القديمة.

(5) سلالة من الأمراء الأتراك كُلفت بإدارة المنطقة الواقعة ما بين شرق الأناضول وشمال الهلال الخصيب تحت الحكم السلجوقي، انقسمت إلى ثلاثة أفرع رئيسية حكم أحدها ماردين وتفرع من فرع ماردين فرع آخر حكم حلب، وفرع ثاني في هاربوت وآخر في حصن كيفة.

(6) أوج بيك = أمير مقاطعة حدودية، ويوازي لقب (ماركيز) المستخدم في فرنسا.

(7) كانت ثاني أقوى إمارة في الأناضول في ذلك الوقت، إمارة بني (قرة مان) ومركزها في قونية، تمتلك جيشاً يبلغ تعداده 50 ألف مقاتل نصفهم من الخيالة، ساعدت سياسة العثمانيين في ضم التشكيلات العسكرية للإمارات المهزومة إلى جيشهم بدلاً من تفكيكها في زيادة قوتهم العسكرية لتصبح دولتهم الأقوى في الأناضول.

(8) كان أول عبور للأتراك إلى البلقان في العام 1263م (قبل العثمانية) وقد كان عبور العام 1353م في عهد أورخان هو العبور السابع عشر.

(9) لقب يستخدم لوصف رئيس الأمراء والوزراء في السلطنة وهو أعلى منصب في الدولة بعد السلطان ويملك ختم السلطنة ولا يملك أمر تعيينه أو عزله سوى السلطان نفسه.