ما قبل الهاجاناه: عسكرة الاستيطان الصهيوني في فلسطين قبل الحرب الكبرى (2): هاشومير






تمهيد

ناقش الجزء السابق من هذا المقال تاريخًا سريعًا لمنظمة (بار غيورا) السرية، أولى منظمات الحراسة الصهيونية داخل الييشوف في فلسطين، وسيستكمل هذا الجزء استعراض تاريخ الحراسة الصهيونية ومظاهر العسكرة داخل الييشوف قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى، وسيلقي الضوء على منظمة (هاشومير)، التي انبثقت عن (بار غيورا) وتأسست في أعقاب توسع نشاطاتها داخل مستوطنات الييشوف في الجليل.

عقد أعضاء (بار غيورا) مؤتمرًا في مستوطنة (كفار تافور) في نيسان 1909، بعد حوالي سنة ونصف من بدأ أعمال المنظمة، وقد خلُص إلى ضرورة توسيع نشاط المنظمة وإكسابها طابعًا علنيًا، والبدء في (احتلال العمل والحراسة) داخل المزيد من المستوطنات. أُطلق على المنظمة الجديدة اسم (هاشومير)[1] وانتخب (إسرائيل شوحط) رئيسًا وممثلًا لها، مع لجنة تنفيذية مكونة من عضويته رفقة (إسرائيل جلعادي) و(مندل برتوغولي) الذين أشرفا على شؤون المنظمة الداخلية والمهنية بالإضافة إلى (إسحق بن تسفي) الذي أوكلته المنظمة بحل النزاعات ومتابعة نشاطاتها الحزبية، وقد شارك أربعتهم سابقًا في تأسيس منظمة (بار غيورا) المنحلة.

سيناقش هذا المقال التطور التاريخي لمنظمة (هاشومير) وطبيعة نشاطاتها مقارنة مع (بار غيورا)، والصعوبات التي واجهتها على صعيد الحراسة والعلاقة مع السلطات العثمانية، خاصة مع طابع المنظمة العلني، كما سيناقش الظروف التي رافقت مشوار (هاشومير) في الييشوف حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وطريقة تعاملها مع التحدي الجديد الذي فرضته عليها ظروف الحرب وطريقة تأقلمها معها، انتهاءً بتفكيكها وإنهاء مهامها.


على خطى (بار غيورا)؟

استهلت القيادة الجديدة عملها بمحاولة حل مشكلة التمويل، إذ باشرت بإنشاء صندوق إقراض لدعم أعضاء المنظمة خُصص لشراء السلاح والخيول وأدواء الحراسة، بالإضافة إلى صندق ضمان للطوارئ، استمرت (هاشومير) على ذات القواعد التنظيمية التي وضعتها (بار غيورا) بخصوص طبيعة الحراسة وبنفس درجة الانتقائية في اختيار العناصر، وجدت (هاشومير) الوقت الكافي لتطبيق برنامج التدريب الصارم الذي وضعته (بار غيورا) لمنتسبيها الجدد، والذي اهتم بأقصى درجة ممكنة بنوعية العناصر لا بعددها، وعلى الرغم من أن (هاشومير) قد استمرت بالعمل حتى بداية الانتداب البريطاني وتأسيس (الهاجاناه) في 1920، إلا أن مجموع من عملوا تحت رايتها حتى نهاية الحرب الكبرى لم يتجاوز المئة حارس، ولم يزد عددهم عن أربعين كحدٍ أقصى في ذات الوقت، كما أن (هاشومير) استمرت في إلزام المستوطنات التي وقعت معها عقودًا للحراسة في توظيف حدٍّ أدنى من العمال بجانب الحراس كذلك، على الرغم من أن الظروف ستجبر المنظمة لاحقًا على التوقف عن الربط بين الحراسة والعمل.

استمرت (هاشومير) في استخدام مجموعات الدعم والإسناد، ووسَّعت نطاق مهامها لتشمل حراسة الحقول في الليل بجانب حراسة المستوطنات نفسها، ومزجت في المجموعات التي شكلتها بين الحراس المستجدين أو المتدربين والحراس المخضرمين كوسيلة للتدريب، وقد أوجدت المنظمة دليلًا إجرائيًا لحراسها شمل تعليمات وضعت بهدف منحهم اليد العليا في أي صراع ضد المتسللين، فأُلزم الحراس بالتخفي عند حراسة الحقول والتستر بالظلام أو بالأحراش وعدم المشي في ضوء القمر وعدم ملاحقة المتسللين بتسرع خوفًا من الكمائن ومنع إصدار الأصوات خلال المشي حتى لا يكشف الحراس عن مواقعهم، والأهم من ذلك فقد ألزمت المنظمة حراسها بعدم استخدام القوة النارية إلا في حالات الضرورة القصوى على ألا يكون استخدامها بهدف القتل. على الرغم من ذلك استمرت الهجمات ضد المستوطنات ومحاولات التسلل إليها بكثافة، وقد ورَّط أعضاء (هاشومير) أنفسهم والمستوطنات التي حرسوها في أعمال إنتقامية بسبب قتلهم لعدد من المتسللين، وعلى الرغم من العدد القليل من الحراس الذي عمل في (هاشومير) إلا أن المنظمة خسرت أحد عشر حارسًا على الأقل خلال الفترة 1909 – 1913.

دربت (هاشومير) عناصرها في الميدان لمدة سنتين على الأقل، وقبلت عضويتهم فيها بعد تصويتٍ ثلثي أعضاء المنظمة، وقد وضعت (هاشومير) تقليدًا طقسيًا لقبول الأعضاء الجدد تضمن إحضارهم إلى مكان انعقاد احتفال القبول معصوبي الأعين، حيث تتلى عليهم واجباتهم ومهامهم في المنظمة، ويُطلب منهم ترديد قسم الولاء، وتُطلق بجانب رؤوسهم بعض الطلقات النارية من بندقية صيد أو مسدس، ويتلو ذلك احتفال بقبولهم، وهي إجراءات تشابه طقوس قبول الأعضاء الجدد في الجمعيات السرية في أوروبا القروسطية، وتكشف، بشكل مثير للاستغراب، عن تفضيل أعضاء المنظمة، للقيام بالممارسات الاستعراضية.

لقد أوضح أعضاء (هاشومير) شغفهم بالاستعراض بطرق أخرى أيضًا، فأزيائهم التي ارتدوها كانت أزياءً شعبيةً فلسطينية ارتداها الخيالة العرب والشركس، وجعلتهم يظهرون بذات المظهر الذي بدا عليه حراس المستوطنات الفلسطينيون الذين احتلوا الحراسة منهم، عباءات وقمصان فضفاضة وأحزمة جلدية وأحذية طويلة وكوفيات بيضاء وسوداء مثبتة على رؤوسهم بعقالات قطنية، وثبت بعضهم على خصورهم السيوف وتنقلوا على الخيول، كل ذلك يتناقض مع نظرة (هاشومير) تحديدًا وجميع رواد الهجرة اليهودية الثانية إلى سكان البلاد الأصليين.

لقد احتاجت (هاشومير) لصلات مع جيران الييشوف من الفلسطينيين، وقد أرست بالفعل علاقات وطيدة مع بعض مشايخ القرى الذين تبادلوا معهم الزيارات وجهزوا لهم غرفًا خاصة في المستوطنات لاستقبالهم كعادة مشايخ الفلاحين والبدو أنفسهم، كما حاول أعضاء (هاشومير) الاندماج في محيط المستوطنات بهدف العمل على زيادة تأمينها وللحصول على حرية الحركة، كما قام بعض أعضائها كذلك بالإقامة لدى البدو بهدف تعلم أساليب الرعي، ويرى البعض في (هاشومير) ومنظمات أخرى انبثقت عنها، وبخاصة منظمة (هاروعيه)[2] التي أنشأت بهدف احتلال مهام رعي قطعان مواشي المستوطنات من الرعاة البدو، أنها كانت النواة الأولى التي قامت عليها فكرة فرق "المستعربين" التابعة لجهاز المخابرات العامة الصهيوني، أي أن محاولات "استعراب" (هاشومير) قد كان مبررةً لضرورات أمنية.




لكن ما سبق لا يكفي لتوضيح أسباب الصبغة الاستعراضية التي صبغ بها أعضاء (هاشومير) استعرابهم، تذكر بعض الأخبار أن أعضاء المنظمة قد خرجوا بخيولهم إلى الأراضي المجاورة للمستوطنات وبحثوا عن الخيالة العرب بالقرب من قراهم وتحدوهم في سباقات على الخيل، كما أن الطابع العلني للمنظمة قد سمح لأعضائها بحمل السلاح خارج حدود المستوطنات بشكلٍ استثار العديد من المشاحنات الاستفزازية مع جيرانها، يمكن إيجاد تفسيرٍ لهذه التصرفات في تصريحٍ (لألكساندر زايد) أحد مؤسسي (بار غيورا) و(هاشومير) الذي وضَّح الأثر النفسي السلبي الذي تركه لدى مستوطني الييشوف رؤيتهم للحراس الفلسطينيين وهم يمتطون خيولهم على مداخل المستوطنات ما جعلهم يبدون كالعمالقة وما ترك لدى (زايد) نفسه إحساسًا بالضآلة تجاههم، وهو ما استثار مشاعر الكره والحقد لدى حراس (هاشومير) تجاه العرب إجمالًا، لكن هذا الإحساس بالكره قد انعكس على تصرفات أعضاء (هاشومير) بطريقة مغايرة للمتوقع، لم يقلل ذلك من عنف أعضاء المنظمة الذي ورَّط كثيرًا من مستوطنات الييشوف في أعمال انتقامية لكنه في ذات الوقت دفعهم إلى تصوُّر الفارس العربي باعتباره مرادفًا للشجاعة والإقدام ما جعلهم يعملون على استنساخ هيأته في طريقة ارتدائهم لملابسهم، وفي الواقع، فإن استعراضية أعضاء (هاشومير) قد ساهمت بالإضرار بصورة المنظمة أمام الييشوف نفسه وعرضتها للنقد كذلك.


توسيع الحراسة

مع زيادة (هاشومير) لتعداد كادرها نسبيًا استطاعت توسيع الحراسة لتشمل مستوطناتٍ جديدة، خاضت المنظمة تحديًا جديدًا من نوعه بتوليها مسؤولية الحراسة في مستوطنة الخضيرة في 1911، حيث أنها أول مستوطنة تحرسها (هاشومير) بدون أسوار، وقد امتلأ محيطها بالمستنقعات وأحاطت بها أحراش كثيفة صعَّبت عملية المراقبة كما أنها تواجدت بجانب طريقٍ نشطة للقوافل ووقعت بجوار مضارب تتبع لعشيرة عرب الدميرة الذين تصادموا عديد المرات مع حراس المستوطنة. استخدمت (هاشومير) لأول مرة 35 حارسًا دفعةً واحدةً لتغطية حراسة الخضيرة، عشرة منهم كانوا حراسًا مخضرمين والباقون متدربون مستجدون، وقد توزعوا في مناوبات ليلة ونهارية وحاولوا تغطية معظم مساحة المستوطنة ومحيطها.

انتقلت (هاشومير) في العام التالي إلى مستوطنة (رحوفوت)، وكانت أول مستوطنة لا تشترط فيها المنظمة توظيف عمال يهود بالتزامن مع استلام الحراسة، وقد حاولت كذلك، بسبب عدم كفاية الكادر، التنصل من مهام حراسة الحقول، ولكن رفض المستوطنة أجبر المنظمة الالتزام بحراسة الحقول مع ضغط عدد الحراس بأقصى قدرٍ ممكن، فقامت بتقسيم الحقول إلى أربع نطاقات، ووظفت مجموعة لحراسة كل نطاق خلال المناوبة الليلية، مع اشتراط تفريغ الحقول تمامًا من أي مستوطن بحلول المساء لتسهيل الحراسة ومنع أي لبس لدى الحراس قد يحدث نتيجة اختلاط الأمر عليهم بين العمال والمتسللين.

كان إصرار إدارة (رحوفوت) على إلزام (هاشومير) بتولي حراسة حقول المستوطنة نابعًا من عجزها عن تحمل تكاليف حراس جدد مخصصين للحقول، فقد كانت المنظمة تكلف إدارة المستوطنة مبلغًا كبيرًا من المال كل سنة، وقد وجهت الكثير من الأصوات داخل الييشوف نقدها للمنظمة بسبب ارتفاع أسعار حراستها، ويجادل البعض في أن المستوطنات كانت قادرةً على تحمل تكاليف (هاشومير) المرتفعة بسبب ميزات الحراسة التي وفرتها المنظمة ذاتها مع حماية الحقول من السرقات والحفاظ على محاصيلها بدون نقص. إلا أن الانتقادات التي طالت (هاشومير) لم تتوقف عند تكاليفها المرتفعة وحسب، فالجسد التنظيمي الذي شكلته (هاشومير) استجاب فقط لأوامر هيئته التنفيذية ولم يقبل الخضوع لأي عملية رقابية من أي جهة أخرى في الييشوف، حتى من حزب (بوعالي تسيون) الذي انتظم أعضاء (هاشومير) ضمن صفوفه، ولذا فقد كان من الصعوبة بمكان تحميل (هاشومير) مسؤولية إخفاقاتها، خاصة تلك التي انعكست سلبًا على مستوطنات الييشوف إجمالًا، ومنها على سبيل المثال، ممارساتهم الاستعراضية السالف ذكرها، وغطرستهم التي لم تُوجه ناحية منافسيهم وخصومهم الفلسطينيين فحسب، بل نحو مستوطني الييشوف أنفسهم الذين تعامل معهم أعضاء (هاشومير) بكثيرٍ من التعالي، خاصة مع تفضيلهم لاستخدام اللغة اليديشية للتواصل فيما بينهم عوضًا عن العبرية، ناهيك عن أن (هاشومير) قد أصرت في كثيرٍ من الأحيان على الانتقام والأخذ بالثأر بدورها عندما كان يتعرض أي من حراسها للاعتداء، ما فاقم من سوء وضع الحراسة ميدانيًا.

فشلت جهود الحراسة التي قامت بها (هاشومير) في عدد من المستوطنات، فرفضت (زخرون يعكوف) تجديد عقد الحراسة للمنظمة بعد نهاية حصاد 1912، بسبب مناوشات الحراس المستمرة مع جيران المستوطنة من الفلسطينيين، وذلك على الرغم من كون (زخرون يعكوف) أول مستوطنة يقبل أعضاء (هاشومير) العمل فيها بشكلٍ مشتركٍ مع الحراس العرب، كما أن المنظمة لم تتمكن من الحصول على عقدٍ للحراسة في مستوطنة الجديرة بسبب نقص الكادر، وفشلوا كذلك في المحافظة على عقود الحراسة كلٍ من (روش بينا) و(مناحيما)، وقد فكَّرت قيادة (هاشومير) جديًا في دمج المنظمة مع (لجيون هعفوداة)[3] في سبيل السعي لتوفير كادرٍ كافٍ للسيطرة على مزيدٍ من الحراسة وتعويض إخفاقات المنظمة خلال السنوات الأخيرة قبل بداية الحرب الكبرى.


الحرب الكبرى: في سبيل النجاة

دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب الكبرى حليفةً لألمانيا في نهاية العام 1914، انقسمت (هاشومير) على نفسها بخصوص الموقف المفترض اتخاذه من الحرب الكبرى وأطرافها المتنازعة، وهو انقسامٌ سيظهر تأثيره على الييشوف بكامله، إلا أن معظم القيادات الفاعلة داخل (هاشومير)، وداخل الييشوف إجمالًا، قد اختارت مناصرة العثمانيين في سبيل تحييد خطرهم ضد الييشوف واحتمالية إنهائهم للوجود اليهودي في فلسطين في حال تواطئ الييشوف مع الحلفاء، وهو الأمر الذي لم يكن العثمانيون ليترددوا عن القيام به في حال خامرهم أدنى شك في تعاون الييشوف مع أعداء الإمبراطورية. لم يتوقف الأمر عند مناصرة العثمانيين سياسيًا، بل اقترحت قيادات في الييشوف بدء التجنيد للحرب في صفوف العثمانيين، وقد اقترحت عدة مشاريع لمشاركة اليهود في فلسطين داخل القوات العثمانية، صدر بعضها عن قيادات (هاشومير) نفسها.

"أيها اليهود ... تعثمنوا" نداء وجهته قيادات يهودية في صالح اللجنة المقدسية للعثمنة في فلسطين، وقد وقَّع الحاخام الأكبر في القدس إلى جانب (ديفيد بن غوريون) بالإضافة إلى قيادات أخرى منها (إسحق بن تسفي) القيادي في منظمة (هاشومير) على بيانات تدعو مستوطني الييشوف لتسجيل أسمائهم كمواطنين عثمانيين عشية الحرب، تمهيدًا لتطوعهم للقتال في صفوف الجيش العثماني، وقد سجل 15 ألف يهودي على الأقل أسمائهم خلال فترة مبكرةٍ من الحرب، وتكشف الأخبار الواردة عن (هاشومير) في تلك الفترة عن اتصالاتٍ بين قاداتها وبين كبار جنرالات الحرب العثمانيين في فلسطين، هدفت إلى إقناعهم بفتح باب التطوع للمستوطنين في الجيش التركي أو في مليشيات الدفاع التي أنشأتها الإمبراطورية داخل فلسطين بهدف الدفاع عنها ضد أي هجوم للحلفاء انطلاقًا من مصر.

وافق قائمقام القدس وقائد الجيش الرابع زكي باشا على اقتراح للجنة المقدسية للعثمنة بإنشاء كتيبة دفاع صهيونية مكونةٍ حصرًا من اليهود إلا أن استبداله السريع بأحمد جمال باشا حال دون تنفيذ الفكرة، واضطر (إسرائيل شوحط) لإعادة اقتراحها على الباشا الجديد، والذي وافق عليها بدوره ومنح (شوحط) القيادة على فرقة مكونة من 50 يهودي على الأقل، وقد تطوع أفراد من (هاشومير) بالإضافة لمنتسبين إلى منظمة (جدعونيم)[4] في فرقة (شوحط)، وقد تحمس أعضاء المنظمة لفكرة "مليشيا الدفاع الشعبي" إذ أنها ستوفر لهم سبيلًا لتوفير السلاح وشرعنة نشاطهم في الحراسة تحت راية الجيش العثماني. ترافقت الحرب مع ازدياد دعوات العصيان ضد الإمبراطورية والثورة ضد الحكم التركي مع تصاعد الفكر القومي العربي، وعلى الرغم من مجهودات الأتراك لتنظيم بروباغاندا مضادة اعتمدت على شخصيات عربية وسورية بالأساس تدعو للتمسك بالعثمنة كأيديولوجيا مضادة للدعوات القومية العربية، إلا أن تصاعد نشاط الجمعيات العربية خاصة مع اندلاع ثورة الشريف حسين في الحجاز والذي تلى فشل الحملة العثمانية – الألمانية على قناة السويس في 1915، قد استدعى ردود فعل عثمانية عنيفة، وقد شملت ردود الفعل هذه حتى المستوطنين الصهاينة، والذين نظر إليهم الأتراك باعتبارهم أعداء وجواسيس محتملين وخشوا من خطر تعاونهم المحتمل مع الحلفاء، خاصة مع وجود المنظمات المسلحة داخل الييشوف.

فكك العثمانيون جميع "مليشيات الدفاع الشعبي" اليهودية التي نشأت استجابة لدعوة الييشوف للتجنيد للحرب، وأصدروا أوامر بحظر نشاطات (هاشومير) ومصادرة أسلحتها مع منع جميع المنظمات الأمنية داخل الييشوف من استخدام السلاح بشكلٍ قطعي، وقد شنت الشرطة العثمانية حملات مداهمة وتفتيش للمستوطنات اكتشفت على إثرها مستودعًا للسلاح يحوي جزءًا من شحنة وصلت إلى البلاد من أوروبا قبل بدء الحرب واستطاعت (هاشومير) تهريبها عبر ميناء بيروت الخاضع للإشراف الفرنسي، وقد أدى ذلك لاعتقال عددٍ من قيادات وأعضاء (هاشومير) بما يشمل (إسرائيل شوحط)، واستحث حملة اعتقالاتٍ واسعةٍ طالت عددًا كبيرًا من قيادات الييشوف الشابة، وقد سجنت الشرطة بعضهم وأجبرت معظمهم على مغادرة البلاد. 

شكلت تلك التطورات هزة عميقة لقدرة (هاشومير) على استمرار عملها، فألغيت القيادة المركزية للمنظمة وأُعطي لكل حارس الحق في التصرف في نطاق عمله حسب تقديراته الشخصية وبدون العودة إلى القيادة، حاولت المنظمة جمع السلاح وإخفاءه، والاعتماد على الحراسة بدون سلاح ناري، وركزت نشاطها حصرًا في مستوطنات الجليل، وألغت معظم الاجتماعات الدورية واحتفظت فقط بمؤتمر واحدٍ على جدولها السنوي، وقد أجرت انتخابات لاختيار قيادة جديدة في 1915 طُرد على إثرها كل من (إسرائيل جلعادي) و(مندل برتوغولي) خارج اللجنة التنفيذية للمنظمة واستبدلوا بكل من (شموئيل هفتر)، (إسحق نداف)، (يوسف نحماني) و(راحيل ينئيت).

من بين جميع الكوارث التي عانت منها المنظمة خلال الحرب، كان تفشي الجراد في فلسطين ما بين آذار إلى تشرين الأول 1915 أسوأها، وبخلاف الخسائر التي عانها منها الييشوف، فإنه مستوطناته أُجبرت على تقديم معونات تموينية للجيش التركي، كما ازدادت على إثره عمليات السرقة والنهب وأصبحت أكثف وأكثر تنظيمًا. وقد استمرت حملات الشرطة العثمانية على المستوطنات بانتظامٍ للتفتيش على السلاح، وكانت تعتقل دومًا عددًا من المستوطنين في كل مرة تعثر فيها على السلاح المهرب داخلها، وقد شملت الاعتقالات أعضاء (هاشومير) وقيادات المنظمة كذلك، وحتى وإن نجح بعضهم في الهرب، فقد ظلوا مطاردين وغير قادرين على مساعدة المنظمة بالقيام بمهام الحراسة.

ظل الاتجاه العام داخل الييشوف، وعلى الرغم من استمرار القمع العثماني المنظم، مؤيدًا لاتخاذ موقفٍ ساكنٍ من الحرب العالمية، فمع فشل الييشوف في التجند لصالح العثمانيين، استمر الرفض العام للقيام بأي اتصال مع قوات الحلفاء المتأهبة لاجتياح فلسطين وسورية انطلاقًا من مصر، وقد عبر كثير من قيادات الييشوف عن خوفهم من أن يلاقي المستوطنون الصهاينة مصير الأرمن الذين تعرضوا لمذابح بشعة على يد العثمانيين خلال 1915، وعلى الرغم من ذلك فقد جازفت مجموعة صغيرة من المستوطنين، تمركزت في مستوطنة (زخرون يعكوف)، بالمبادرة لتأسيس حلقة تجسسية في فلسطين سعت من أجل إرساء قناة اتصال بقوات الحلفاء في مصر عُرفت باسم حلقة (نيلي)[5] وقد وجدت فيها (هاشومير) فرصة لإحداثِ تغييرٍ في مسار الحرب بحيث ينعكس إيجابًا على مصلحة الييشوف في فلسطين.

نشطت قيادة وأعضاء (هاشومير) داخل حلقة (نيلي)، وساهموا في جمع المعلومات عن العسكرية العثمانية – الألمانية داخل فلسطين لصالح الحلفاء، واستمر نشاط (نيلي) داخل البلاد لمدة سنتين على الأقل، وكان له، بحسب بعض الباحثين، دورٌ محوريٌ في كسب الحلفاء للحرب ونجاح الحملة البريطانية على فلسطين بقيادة الجنرال (إدموند ألينبي)، إلى أن فُضح أمر (نيلي) بعد اعتراض المخابرات العثمانية لرسالة مشفرة أرسلتها المنظمة لقوات الحلفاء في مصر، وبعد اعتقال أعضاء (نيلي) وإخضاعهم لتحقيقٍ قاسٍ تخلله تعذيب جسدي شديد، اعترف أحدهم، ويُدعى (يوسف ليشنسكي)، بمساهمة (هاشومير) وقيادتها في مساعدة (نيلي) في جمع المعلومات لصالح الحلفاء، اعتقل العثمانيون كل من استطاعوا الوصول إليه من قيادة وأعضاء (هاشومير) ونقلتهم إلى دمشق تمهيدًا لإعدامهم، ولكن اكتشاف العثمانيين لحلقة (نيلي) قد كان متأخرًا، فقد بادر الجيش البريطاني باجتياح البلاد بعد انتصاره في معركة غزة الثالثة في تشرين الثاني 1917، واستطاع إنهاء الوجود العثماني فيها.


انتهاء (هاشومير)

عاد نشاط (هاشومير) لوضعه الطبيعي مع دخول البريطانيين إلى فلسطين، وعقدت اللجنة التنفيذية للمنظمة اجتماعًا في طبرية في تشرين الأول 1918 ضم معظم أعضائها القدامى، وتقرر فيه تجنيد أعضاء المنظمة في الشرطة البريطانية ونشر الدعوة إلى التجنيد بين المستوطنين كوسيلة لامتلاك السلاح بصورة شرعية، وقد عادت المنظمة لتولي الحراسة في بعض مستوطنات الجليل مرة أخرى، على أن خلافات (هاشومير) مع الييشوف لم تتوقف، خاصة مع وجود معارضة حادة داخل بعض الأحزاب الصهيونية لمبدأ التجنيد لدى البريطانيين وهي المعارضة التي لم تستطع (هاشومير) تحييدها على الإطلاق.

تحسنت أوضاع المنظمة جزئيًا، وشاركت في إنشاء بعض المستوطنات كذلك، وفي العام 1919 وصل عدد أعضاء المنظمة إلى 78 عضوًا لأول مرة بعد مؤتمرها السنوي الذي عُقد في حزيران من ذلك العام، وقد شهد المؤتمر إعادة انتخاب مؤسس المنظمة (إسرائيل شوحط) رئيسًا لها مرة أخرى، وقد ناقشت (هاشومير) في ذلك الاجتماع محاولاتٍ بعض المنظمات في الييشوف تحييد نشاطها واحتوائها داخل أحزاب أخرى مثل (أحدوت هعفوداة) على سبيل المثال، وهو ما رفضته المنظمة جملةً وتفصيلًا، وأكدت قيادة المنظمة وبخاصة صفها الأول على الحفاظ على استقلاليتها بعيدًا عن أي جهات خارجية. لكن الخلافات بين (هاشومير) وقطاع واسعٍ من الييشوف قد استمرت بالتفاقم، خصوصًا مع إدارات مستوطنات المنطقتين الجنوبية والوسطى، في ذات الوقت الذي كان فيه كل من زئيف جابوتينسكي مع عددٍ من رفاقه يسعون منذ 1919 تقريبًا لخلق تشكيلٍ عسكريٍ تمثل في منظمة (الهاجاناه)، بحيث يتولى مسؤولية الدفاع عن المستوطنات، وقد حرصوا على الإعلان عن التشكيل وتشريع وجوده والحصول على موافقة كل من الحركة الصهيونية في الخارج والسلطات البريطانية على إنشاءه، وبالتالي الحصول على الدعم المالي واللوجستي من كلا الجهتين لضمان نجاحه، وجعله مفتوحًا للتجند أمام مستوطني الييشوف عامةً بدون إعطاء أي اعتبارات للخلافات السياسية.

لقد رفعت جهود جابوتينسكي من حدة الخلافات داخل (الييشوف) بخصوص (هاشومير)، ورفعت من حدة الخلافات داخل قيادة (هاشومير) نفسها التي انقسمت إلى مؤيدٍ لخضوع المنظمة لإشراف والييشوف والحركة الصهيونية إجمالًا وما بين مؤكد على ضرورة استقلالية المنظمة، وقد عُقد الاجتماع الأخير للمنظمة في أيار 1920 في مستوطنة (تل عدس) وجاء في صدارة جدول أعماله نقاش استمرارية المنظمة، حاول (شوحط) بكل ما أوتي من قوة إقناع المؤتمرين باستمرار (هاشومير) على نفس المبادئ التي أُسست عليها، لكن إصرار الجيل الجديد من أعضاء المنظمة على خضوعها لإشراف الييشوف أجبر (شوحط) على وضع اقتراحٍ بتفكيك المنظمة وإنهاء وجودها قيد التصويت، على أن يتم استبدالها بمنظمة حزبية سرية قُطرية تتولى الحراسة في جميع المستوطنات مع اندماج هذه المنظمة في حزب (أحدوت هعفوداة)، وهو ما تم بالفعل بعد موافقة الأغلبية، فأعلن ختامًا عن تفكيك (هاشومير) التي انضم معظم أعضائها لاحقًا لمنظمة الهاجاناه.



[1] كلمة عبرية تعني (الحارس).
[2] كلمة عبرية تعني (الراعي)
[3] فيلق العمل، منظمة انبثقت عن (بار غيورا) شأنها شأن (هاشومير) وتخصصت في توفير العمالة اليهودية للمستوطنات عوضًا عن العمالة العربية.
[4] منظمة صهيونية تأسست في مستوطنة (زخرون يعكوف) على يد كل من ألكساندر آرونسون وأفشالوم فاينبرغ تولت مهام الإشراف على الحراسة اليهودية العربية المشتركة في المستوطنة، وقد شاركت قياداتها بالإضافة إلى سارة آرونسون (أخت ألكساندر وزوجة أفشالوم) في تأسيس حلقة نيلي التجسسية التي كان لها دورٌ في نقل المعلومات الاستخبارية الميدانية من فلسطين وسورية إلى الجيش البريطاني في مصر، مستغلين علاقاتهم بالجيش العثماني.
[5] نيلي NILI أو NYLY: اختصار للجملة العبرية (Netzah Yisrael Lo Yeshaker) وتعني (The Eternal one of Israel will not lie)، أي: (خالد إسرائيل لن يكذب)

مذبحة اللاتين: الصراع البيزنطي الإيطالي في القرن الثاني عشر.


تمهيد

القسطنينية في العهد البيزنطي (المربعات السكنية التابعة للجاليات الإيطالية باللون الأزرق)

"إني لأفضل أن أرى عمامة الأتراك في وسط المدينة على أن أرى فيها قلنسوة اللاتين". ينسب المؤرخ البيزنطي (دوكاس) القول السابق إلى الدوق (لوكاس نوتاراس) أحد أهم رجال الدولة البيزنطية في عهد إمبراطورها الأخير (قسطنطين الحادي عشر باليولوجوس)،[1] وذلك تعليقًا منه على استقبال الإمبراطور في أواخر العام 1452 للكاردينال (إيسيدور) الذي أرسله بابا الفاتيكان (نيكولاس الخامس Nicolas V)[2] كشرطٍ لدعم الممالك والجمهوريات اللاتينية (الإيطالية) لبيزنطة في وجه محاولات الدولة العثمانية للسيطرة على المدينة في عهد محمد الفاتح، وقد أقام الكاردينال اللاتيني قداسًا في الكنيسة العظيمة (هاجيا صوفيا) وسط اشمئزاز سكان المدينة الأرثودوكس ونبلائها، أي أنه وبحسب (دوكاس)، فإن أحد أهم نبلاء أعظم إمبراطورية في التاريخ المسيحي قد قبل في قرارة نفسه أن يُرفع الآذان في كنيسة (هاجيا صوفيا)، أعظم كنيسة أرثودوكسية في العالم، على أن يتمتم فيها كاردينال إيطالي بصلوات من الإنجيل باللغة اللاتينية، وبصرف النظر عن دقة نسب هذا القول للدوق (نوتاراس)، فإنه يدلل إلى بشكل كبير على الحرب الطائفية المستعرة بين بيزنطة وروما، والتي حكمت، إلى حد بعيد، جزءًا كبيرًا من العلاقة بين أهم مركزين دينيين للديانة المسيحية على الإطلاق في العصور الوسطى بعد الانقسام الذي نشأ بين الكنيستين الشرقية الأرثوذكسية في القسطنطينية والكاثوليكية في روما في العام 1054.

واحدةٌ من الحوادث الراسخة في تاريخ العلاقة بين الطائفتين في العصور الوسطى كانت المذبحة العظيمة التي ارتكبتها جموع الجماهير البيزنطية الغاضبة داخل مدينة القسطنطينية في أبريل من العام 1182 ضد الجالية اللاتينية فيها بتأييد من الإمبراطور (أندرونيكوس الأول كومنينوس Andronikos I Komnenos[3] حيث أدت إلى إنهاء وجود أكثر من ستين ألف شخص ينتمون إلى عدة جاليات إيطالية، فقُتل معظمهم وهرب بعضهم فيما بيع حوالي 4000 شخص منهم عبيدًا للتركمان السلاجقة في الأناضول. تُعرف هذه المذبحة في الأدبيات الأكاديمية باسم (مذبحة اللاتين Massacre of the Latins) على الرغم من أنها لم تكن المذبحة الوحيدة التي تعرضت لها مجموعات رومانية كاثوليكية بسبب انتمائها الديني، وذلك بسبب عِظم هذا الحدث بالذات في تاريخ أوروبا الكاثوليكية. سيستعرض هذا المقال الخلفيات التاريخية لمذبحة اللاتين ووقائعها ونتائجها وتأثيراتها على العلاقة بين الإمبراطورية البيزنطية والعالم الأوروبي اللاتيني.


خلفية تاريخية

استطاعت الدول الإيطالية بحلول القرن الثاني عشر الميلادي تقديم نفسها باعتبارها القوة المهيمنة على الملاحة البحرية في البحر المتوسط، فمع نجاح الحملة الصليبية الأولى (1096 – 1099) وتأسيس الإمارات والممالك الصليبية في بلاد الشام نشطت حركة التجارة البحرية من المشرق إلى جنوب أوروبا عبر البحر، وتمكنت جمهورية البندقية، وبشكلٍ أقل، جمهوريتي بيزا وجنوة، من فرض سيطرتها على خطوط النقل من موانئ شرق المتوسط من القسطنطينية حتى عكا، والتي كانت منفذ أوروبا على البضائع المنقولة من وسط وشرق آسيا عبر طريق الحرير، خاصة مع الضعف الذي لازم الأسطول البيزنطي والذي كان جزءًا من عوارٍ مزمن أصاب القدرات العسكرية للدولة البيزنطية بعد عقودٍ من الهجمات المنظمة للأتراك السلاجقة على أراضِ الإمبراطورية في الأناضول. مأسست الجمهوريات الإيطالية الثلاث لتجارتها عبر المتوسط عن طريق امتيازات رسمية حصلت عليها من المستوى السياسي للإمارات والممالك المسيحية في المشرق، حيث استطاعت من خلال هذه الامتيازات الحصول على تسهيلات تجارية وإنشاء بعثات ديبلوماسية تحولت مع مرور الوقت إلى جاليات ضخمة من التجار وعائلاتهم التي تمركزت داخل مربعات سكنية خاصة بها داخل مدن الموانئ، بلغ تعدادها في القسطنطينية بالذات عشرات الآلاف، ورافقها رجال دين أسسوا دور عبادة لرعاياهم. ومع حلول الربع الأول من القرن الثاني عشر تمكنت جمهورية البندقية من الحصول على امتيازات وتنازلات تجارية من الإمبراطور البيزنطي (ألكسيوس الأول كومنينوس Alexios I Komnenos)[4] احتكرت من خلالها، إلى حد بعيد، معظم التجارة المارة عبر ميناء القسطنطينية إلى أوروبا، وقد استمرت امتيازات البندقية سارية المفعول حتى بعد وفاة (ألكسيوس الأول)، وهو ما مثَّل تركة ثقيلة أرهقت كاهل الاقتصاد البيزنطي وأخضعته لسيطرة التجار البنادقة والمتعاونين معهم من الأرستقراطيين المحليين إلى حد كبير.


بداية الصراع

تركزت معظم التجارة البيزنطية في يد نخبة صغيرة من النبلاء تعاونت مع التجار الأجانب على تسهيل تحويل بيزنطة لمحطة تجارية إيطالية، وأضرت بالتالي، في سبيلها نحو الإثراء، بصغار التجار والطبقات الدنيا من سكان الإمبراطورية، حيث شاركوا في عملية مراكمة الثروة التي ساعدتهم على تكوين طبقة أرستقراطية ضيقة امتلكت مساحات واسعة من الأراضي وتحكمت في مصير العديد من الناس الذين انسحقت أعمالهم لصالحهم ولصالح الإيطاليين. استمر الوضع في القسطنطينية على هذا الحال حتى عهد الإمبراطور (مانويل الأول كومنينوس Manual I Komnenos)[5] الذي سعى لتقليص نفوذ البنادقة داخل القسطنطينية ومينائها، واستعان في سبيل ذلك بمنافسيهم داخل إيطاليا نفسها، فمنح ذات الامتيازات الممنوحة للبنادقة لكل من جمهوريتي بيزا وجنوة ودوقية أمالفي. غذَّت خطوة (مانويل الأول) الخلافات بين الإيطاليين داخل المدينة ولم يلبث التجار الأجانب كثيرًا قبل أن يترجموا هذا الخلاف على هيئة صراعٍ دمويٍ تمثل في هجوم واسع شنته الجالية البيزانية بالتعاون مع بعض البنادقة ضد المربع السكني ومناطق إقامة الجنويين خلال العام 1162، وهو الذي اضطر الإمبراطور (مانويل الأول) لطرد معظم الجنويين والبيازنة من المدينة وهو ما منح البنادقة سيطرة شبه تامة على تجارتها الخارجية مرة أخرى.

لم يستمر هذا الوضع طويلًا، فقد عاد الجنويين مرة أخرى إلى المدينة، وعاد التوتر بينهم وبين البنادقة للتصاعد مرة أخرى، وقد أدى لاحقًا، في العام 1171، إلى هجوم مماثل لهجوم العام 1162 شنه هذه المرة البنادقة ضد الجنويين نتج عنه تدمير معظم مربعهم السكني، وقد استغل الإمبراطور الهجوم لشن حملة اعتقالات واسعة طالت معظم قيادات الجالية البندقية وتخللها أعمال عنف منظمة شملت إحراقًا متعمدًا لمساكن البنادقة واغتصاباتٍ جماعية في الشوارع، وقد عجز البنادقة عن التصدي للقوات البيزنطية، كما فشلت حملة عسكرية بحرية سيرتها البندقية عبر بحر إيجة إلى أراضي الإمبراطورية البيزنطية ردًا على إجراءات (مانويل الأول) في تحقيق أي نتيجة ملموسة، واكتفت البندقية فيما بعد بدعم الثورات الصربية في ضد الحكم البيزنطي في البلقان، كما فرضت حصارها على ميناء (أنكونا) الإيطالي الواقع على الشاطئ الغربي للبحر الأدرياتيكي، والذي كان آخر معاقل البيزنطيين في شبه الجزيرة الإيطالية.


المذبحة

وقعت البندقية اتفاقية هدنة مع البيزنطيين في 1179 تقريبًا (وهي معلومة غير مؤكدة تمامًا)، فبالرغم من تراجع النشاطات العسكرية بين البنادقة والبيزنطيين، إلا أن العلاقات بين الطرفين لم تعد إلى سابق عهدها إلا في وقتٍ لاحق، في ذات الفترة، كانت تجارة جمهوريتي بيزا وجنوة تزدهران في القسطنطينية في ظل غياب البندقية الكامل عن المشهد، وقد تزايد تعداد جالياتهم داخل المدينة حتى وصل إلى أكثر من 60 ألف نسمة.

توفي الإمبراطور (مانويل الأول) في العام 1180، تاركًا وراءه ابنه (ألكسيوس الثاني كومنينوس Alexios II Komnenos) وريثًا للعرش ولمَّا يبلغ الحادية عشرة من عمره بعد، وقد تولى عرش الإمبراطورية بالفعل تحت وصاية والدته الإمبراطورة (ماريا) أميرة أنطاكية سابقًا، كانت (ماريا) أميرة لاتينية كاثوليكية المذهب، وقد ناصرت، بفجاجة واضحة، امتيازات الإيطاليين داخل القسطنطينية، وساعدت من خلال العهد القصير الذي تولت فيه الوصاية على العرش التجار الإيطاليين وشركائهم من أرستقراطيي القسطنطينية على إحكام سيطرتهم بشكلٍ كاملٍ على الاقتصاد البيزنطي، لم يمضِ كثيرٌ من الوقت قبل أن تتنامى مشاعر الازدراء تجاه الأميرة اللاتينية وابنها الصغير، ولم تخفَ هذه التطورات عن عين الأمير (أندرونيكوس)، وهو واحدٌ من أمراء العائلة الإمبراطورية وابن عم الإمبراطور الراحل (مانويل الأول)، والذي استغل مشاعر الاحتقان داخل القسطنطينية فدخلها في نيسان من العام 1182 وسط احتفالٍ شعبيٍ مهيب، لم يلبث وأن تحول إلى هجوم صاعقٍ نفذته جماهير العاصمة الغاضبة تجاه كل ما يمت للجاليات الإيطالية في المدينة بصلة، ذُبح الرجال والنساء والأطفال في الشوارع، أحرقت بيوتهم وكنائسهم، ونُهبت أموالهم ومؤسساتهم التجارية والخيرية، ولم يسلم من المذبحة حتى الكاردينال يوحنا المبعوث البابوي للقسطنطينية والذي قُطع رأسه ورُبط في ذيل كلبٍ ليُجر في شوارع المدينة.

سمح الإمبراطور (أندرونيكوس الأول) بتمرير المذبحة بدون أي تدخل لإيقافها على الرغم من كونه معروفًا بعدم اكتراثه بالاختلافات المذهبية مع اللاتين، بل إن المذبحة لم تعد عليه بأي فائدة سياسية أو اقتصادية، فقد اضطر لاحقًا خلفه الإمبراطور (إسحق الثاني أنجيلوس Isaac II Angelos)[6] إلى استعادة العلاقات التجارية مع الجمهوريات الإيطالية، كما أنه قد شحذ العداء الغربي / الكاثوليكي للإمبراطورية الأرثوذكسية حتى أقصاه، وقد استخدمت المذبحة ذريعة للهجوم الذي  شنته مملكة صقلية على مدينة سلانيك[7] ثاني أكبر مدن الإمبراطورية البيزنطية، والتي عانت من مذبحة انتقامية راح ضحيتها أكثر من 7000 شخصٍ من سكان المدينة.

لن يتوقف الأمر عند هذا الحد، وعلى الرغم من نجاح البيزنطيين في تحرير سلانيك بعد فترة وجيزة، إلا أن العداء بينهم وبين أوروبا الكاثوليكية قد وصل إلى درجة عالية من الاستحكام، ستؤدي خلال العقود اللاحقة إلى مزيدٍ من العداء الذي سيتوج بمساعي جمهورية البندقية الحثيثة لتفكيك الإمبراطورية واحتلال عاصمتها، وستنجح الجمهورية بالفعل في تحويل مسار حملة صليبية كاملة، هي الحملة الصليبية الرابعة التي حشدتها أوروبا ردًا على سيطرة الأيوبيين على مدينة القدس ومعظم مملكتها الصليبية في 1187، إذ تحول مسارها إلى البلقان، بعد أن كان يُفترض بها التوجه بحرًا نحو مصر الأيوبية، وقد نجحت الحملة بعد حصارٍ شديد للمدينة من طرفها الأوروبي في احتلالها وتفكيك الإمبراطورية البيزنطية وإنشاء إمبراطورية لاتينية في أراضيها في البلقان، بالإضافة إلى إمبراطورية أخرى في الأناضول كانت عاصمتها مدينة (نيقة)، أُنشأت خصيصًا كسدٍ يحجز بين سلطنة سلاجقة الروم في شرق ووسط الأناضول والأملاك اللاتينية الجديدة في شرق أوروبا، وقد استمرت الإمبراطورية الجديدة قائمةً بداية من تأسيسها في 1204 حتى تفكيكها في 1261 مع عودة خط النسل الإمبراطوري البيزنطي ممثلًا بعائلة (باليولوجوس) إلى العرش عن طريق الإمبراطور (ميخائيل الثامن Michael VIII Palaiologos).
الإمبراطورية اللاتينية وإمبراطورية نيقة (1204-1261)




[1] إمبراطور بيزنطة خلال الفترة 1449 – 1453.
[2] بابا الفاتيكان خلال الفترة 1447 – 1455.
[3] إمبراطور بيزنطة خلال الفترة 1182 – 1185.
[4] إمبراطور بيزنطة خلال الفترة 1081 – 1118.
[5] إمبراطور بيزنطة خلال الفترة 1143 – 1180. وكان حفيدًا للإمبراطور (ألكسيوس الأول).
[6] إمبراطور بيزنطة خلال الفترة 1185 – 1195، وقد كان حفيد الأميرة (ثيودورا كومنيني Theodora Komnene) زوجة الأرستقراطي البيزنطي (قسطنطين أنجيلوس Konstantinos Angelos) وابنة الإمبراطور (ألكسيوس الأول) [عمة كل من مانويل الأول وأندرونيكوس الأول] وكان نسلها آخر الورثة المستحقين لعرش الإمبراطورية بعد وفاة (أندرونيكوس الأول) في 1185، والذي بدأ سلالة جديدة من الأباطرة بعد انتهاء خط نسل عائلة (كومنينوس).
[7] سلانيك أو تيسالونيكي Thessalonica، ميناء يوناني بيزنطي تقع في شمال الساحل الشرقي للبحر الأدرياتيكي.