من القسطنطينية إلى أوترانتو: الحرب العثمانية على العالم الأوروبي (1)

في الثامن والعشرين من يوليو من العام 1480 م ظهرت مئة وثلاثون سفينة من ضمنها خمسة وعشرون قادساً تحمل رواسيها الرايات العثمانية على مرمى البصر من ميناء مدينة "أوترانتو Otranto" التابعة لمملكة "نابولي" والواقعة على ساحل البحر المتوسط جنوب شبه الجزيرة الإيطالية، حمل هذا الاسطول العثماني الضخم الذي ضم فقط نصف عدد القطع البحرية العثمانية العاملة في البحر المتوسط، حمل حوالي عشرين ألف جندي عثماني من جنود السلطان (محمد الثاني بن مراد الثاني) الملقب بالفاتح تحت إمرة قائده (غيديك أحمد باشا)، رست سفن السلطان في الميناء وأنزلت جنده الذين فرضوا على "أوترانتو" حصاراً خانقاً على الفور، وبعد خمسة عشر يوماً بالضبط، في الحادي عشر من أغسطس، أصدر (غيديك أحمد باشا) أوامره ببدء الهجوم على قلعة المدينة، واستطاعت القوات العثمانية اختراق جدارها وتوغلت داخل المدينة متنقلة بين بيوتها واحداً تلو الآخر في عملية نهب وتخريب وإحراق منظمة، لتفرض على المدينة سيطرةً مطلقة وتتم المرحلة الأولى من خطة السلطان (محمد الفاتح) للسيطرة على إيطاليا، خطة لم يعش السلطان طويلاً حتى يراها تتحقق، طرق (محمد الثاني) باب "روما" ولكن لم يتسنَ له الدخول.

لكن الباب الذي استطاع (محمد الثاني) ولوجه بكل قوته كان باباً طرقه بيد من نار وحديد قبل سبعة وعشرين عام، تحديداً في السادس من أبريل من العام 1453م، باب مدينة "القسطنطينية" العالي الذي وقف عصياً على سلاطين بني عثمان ومن قبلهم سلاطين بني سلجوق طيلة قرون، تلك المدينة المنيعة التي ظلت حلماً راود كل من اشترك في إنهاء الوجود البيزنطي في الأناضول بل وكل من اشترك في قتالهم منذ التوسعات العربية/الإسلامية الأولى خارج حدود الجزيرة، حلم حاول تحقيقه الأتراك السلاجقة والعثمانيون والعرب الأمويون من قبل بدون نجاج. فرض (محمد الثاني) حصاراً خانقاً على القسطنطينية قاد خلاله هجمات متواصلة على المدينة بحوالي 50 إلى 80 ألف جندي حسب المصادر العثمانية، و 100 إلى 240 ألف جندي حسب المصادر الأوروبية، يتقدمهم 70 مدفعاً سُبكت خصيصاً للحصار ولهدم أسوار المدينة، يدعمهم من البحر ما بين 90 إلى 120 قطعة بحرية عسكرية، استمر العثمانيين بدك أسوار المدينة وحاولوا اقتحامها عديد المرات ولكن محاولاتهم جوبهت بصمود شرس قادته دفاعات الإمبراطور البيزنطي (قسطنطين الحادي عشر باليولوجوس Costantine XI Palaeologus) وحلفائه من الإيطاليين، من جمهوريتي جنوة والبندقية ومملكة صقلية، بل حتى الأمير العثماني أورخان جلبي الذي كان محتجزاً في "القسطنطينية" كرهينة لدى الإمبراطور، والذي كان يطمح في استبدال (محمد الثاني) كسلطان عثماني، لكن في نهاية اليوم الثالث والخمسين للحصار، وتحديداً في التاسع والعشرين من مايو، نجح العثمانيون في اختراق دفاعات المدينة وسيطروا عليها نهائياً، دخل (محمد الثاني) القسطنطينية على صهوة جواده ودنا من الكنيسة العظيمة "هاجيا صوفيا Hagia Sophia" وانحنى قبالة بابها وقبض بيده قبضة من تراب حثاها على عمامته ثم دخلها وصلى فيها إماماً بالناس بعد أن رُفع من على سطحها الأذان لأول مرة في التاريخ. كان انتصار العثمانيين في "القسطنطينية" لحظة فارقة في تاريخهم وتاريخ أوروبا، بل يمكن الإدعاء بأنه شكل وقتها لحظة فارقة في تاريخ العالم كله.

ماذا حدث قبل أن يصل العثمانيون إلى "اسطنبول"؟ ماذا حدث قبل أن يصلوا إلى "أوترانتو"؟ سيستكمل هذا المقال بجزئيه الإجابة على هذين السؤالين والذي بدأ بطرح إجابته مقال سابق نُشر على هذه المدونة، في سياق الحديث عن الطور المبكر للدولة العثمانية.

ما قبل "اسطنبول"

مرت الدولة العثمانية بعد وفاة (مراد الأول) وتولي خلفه السلطان (بايزيد الأول) الملقب بالصاعقة (بالتركية: يلدرم Yıldırım) بمرحلة من الاضطرابات الداخلية التي سببها الهجوم الكاسح الذي شنه (تيمورلنك) بجيشه الجرار على الأناضول في العام 1402م، والذي انتهى بهزيمة العثمانيين بالقرب من "أنقرة" في يوليو من ذات العام بعد معركة قاسية تعرض فيها (يلدرم بايزيد) لخيانة حلفائه من الأمراء التركمان، وكان من نتيجتها وقوع (يلدرم بايزيد) بنفسه أسيراً لدى (تيمورلنك) ووفاته بعدها بسبعة أشهر، تشتتت السلطنة بين أبناء بايزيد واستعادت الإمارات التركمانية في الأناضول استقلالها مرة أخرى بعد تشتت أبناء (يلدرم بايزيد) بين غرب الأناضول والبلقان، استمرت هذه المرحلة من الانقسامات والاضطرابات (التي عُرفت في تركيا باسم "دور الفترة" (بالتركية: فترت دوري) (بالانجليزية: Ottoman Interregnum) لحوالي عشرة سنوات، وانتهت باستيلاء السلطان (محمد الأول) على العرش في 1413م والذي يُعتبر في نظر بعض المؤرخين مؤسساً ثانياً للدولة العثمانية.

استطاع (محمد الأول) إعادة إخضاع الإمارات التركمانية وقبل تابعية (بني جاندار) و(بني جيرميان) مرة أخرى، فكك إمارة "آيدن" (سيُعاد إنشائها لاحقاً وسيفككها مراد الثاني بصورة نهائية)، منع إمارة "قرة مان" من زعزعة استقرار الحكم العثماني في الأناضول ووسع أملاك العثمانيين شمال نهر "الدانوب" وسيطر على "بوسنة ساراي" (باليونانية: سراييفو Sarajevo) وهاجم "تراسلفانيا" ثلاثة مرات كما استطاعت قواته مرتين هزيمة الجيش الهنغاري-الألماني تحت قيادة الملك (سيجسموند Sigismund of Luxembourg) والذي انتخب امبرطوراً لألمانيا. خلفه على العرش (مراد الثاني) الذي مر عهده بانقسام قصير دام تسعة أشهر بسبب عمه (مصطفى جلبي) الذي دان له الشق البلقاني من الدولة بالولاء على حساب ابن أخيه بعد أن أفرج عنه الامبراطور البيزنطي (مانويل الثاني باليولوجس Manuel II Palaiologos) بعد أن كان رهينة لدى البيزنطيين، ودعمه في محاولة لتقسيم السلطنة وإضعافها، أنهى (مراد الثاني) الانقسام بنجاح وأعدم عمه وبعضاً من أعوانه وتوجه إلى القسطنطينية وحاصرها في 1422م بهدف إسقاطها بسبب اشتراك بيزنطة في المؤامرة التي تسببت بالانقسام القصير، وانتهى الحصار بعد 64 يومٍ بدون نتيجة إيجابية في الميدان، واكتفى (مراد الثاني) بقبول دفع بيزنطة لجزية سنوية قُدِّرت بحوالي ثلاثمئة ألف آقجة فضية.

خاضت الدولة العثمانية في عهد (مراد الثاني) أول حروبها مع جمهورية "البندقية" الإيطالية وهي الحرب المعروفة باسم (حرب الأعوام الخمسة 1425 - 1430م)، سيطر (مراد الثاني) على "سلانيك" أو (تيسالونيكي Thessaloniki) وهو ميناء يوناني بيزنطي مهم على "البحر الأدرياتيكي" تديره "البندقية" لصالح "القسطنطينية" وكان (مراد الثاني) قد حاصره مرة في 1422م ورفع عنه الحصار بعد فرض جزية دفعتها "القسطنطينية"، وفيما عدا تمرد جديد للإمارة القرمانية في الأناضول كبحه (مراد الثاني) بسهولة، فإن معظم نشاطه العسكري تركز في البلقان وقد نجحت معظم حملاته العسكرية في تحقيق أهدافها وضم المزيد من الأراضي للدولة وقد كان أهم ما أنجزه تفكيكه لإمارة "صربيا"، كما أنه فرض السيادة على ما تبقى من مملكة "البوسنة". تنازل (مراد الثاني) عن العرش لابنه الشهزادة (محمد الثاني) في 1444م ولما يكن قد بلغ الثانية عشرة من عمره بعد أزمة عاصفة مرت به بسبب وفاة ابنه الأكبر ولي العهد الشهزادة (علاء الدين) في ريعان شبابه في وقت كان يتعرض فيه لهجوم مزدوج من الغرب يقوده ملك بولندا وهنغاريا (لاديسلاو الثالث Władysław III of Poland) بالاتحاد مع القائد العسكري المخضرم الهنغاري (هونيادي جوناس Hunyadi Jonas) ومن الشرق يقوده (إبراهيم بك) أمير "قرة مان"، كان (هونيادي) قد واجه العثمانيين واستطاع الانتصار عليهم عدة مرات في 1442 و 1443م في "بلغاريا"، اضطر (مراد الثاني) في غمرة هذه الأزمة إلى التنازل لصالح مملكة "بولندا وهنغاريا" وتوقيع صلح معها قضى بإعادة تشكيل إمارة "صربيا" على أن تبقى تحت سيادة العثمانيين اسمياً، كما اضطر (إبراهيم بك) أمير "قرة مان" إلى التراجع عن هجومه على غرب الأناضول بعد أن تسبب طعنه للعثمانيين في ظهرهم عدة مرات إلى ثورة استهجان غير مسبوقة ضده في عموم العالم الإسلامي، وقد وصل الأمر لأن أصدر الفقيه الاسلامي ابن حجر العسقلاني، مفتي السلطنة المملوكية في القاهرة وأحد أكثر المرجعيات السنية احترامًا في العالم الإسلامي في ذلك الوقت، أصدر فتوى بتكفيره وخروجه من الملة إن لم يتراجع عن فعلته.

عموماً، فإن (مراد الثاني) اضطر للعودة إلى الحكم مرة أخرى بعد أن شجعه تركه للسلطنة شرق أوروبا الكاثوليكي على مهاجمة أراضي العثمانية في البلقان، شكل الفاتيكان اتحاداً عسكرياً واسعاً بعد أن دعى لحملة صليبية ضد البلقان رعاها الملك (لاديسلاو الثالث) برفقه  (هونيادي جوناس)، تقابل الطرفان في "فارنا Varna" على البحر الأسود [ثالث أكبر مدن بلغاريا حالياً] في نوفمبر 1444م ومني الاتحاد الكاثوليكي الأوروبي بهزيمة ساحقة نظراً لتفوق العثمانيين العددي والتكتيكي. عاد (هونيادي جوناس) ليحشد ما استطاع من قوات الإمارات والممالك الأوروبية ليزحف على البوسنة ويقابل (مراد الثاني) في صحراء "كوسوفو" في أكتوبر 1448م، ورغم أن (هونيادي جوناس) ظل متمسكاً بموقعه في أرض المعركة لثلاثة أيام متواصلة بالرغم من تفوق العثمانيين العددي، إلا أنه اضطر للانكسار أخيراً، وتلقى جيشه للمرة الأخيرة هزيمة مؤلمة على يد (مراد الثاني).

اقتنع الأوروبيون بأن الوجود العثماني في البلقان أصبح من الحقائق الثابتة التي لا يمكن تغييرها في ظل الوضع الحالي للسلطنة، وانتقلت مجهوداتهم العسكرية من الهجوم إلى الدفاع، وإلى محاولة حصر الوجود العثماني في أوروبا جنوب نهر الدانوب. بالنسبة للعثمانيين فقد كان انتصار "كوسوفو" الثاني هو الخطوة الأخيرة في تثبيت أقدامهم في البلقان بعد أن أنجز السلطان (مراد الأول) الخطوة الأولى بانتصاره على صربيا والبوسنة في المعركة الأولى في 1389م، كان من الممكن أن ينجز العثمانيون هذه الخطوة النهائية مبكراً لولا تعرضهم للاجتياح التيموري وما لحقه من اضطراب واقتتال داخلي. أما الآن، فقد توجهت العيون كلها نحو "القسطنطينية"

كانت معركة "كوسوفو" أول مناسبة يشارك فيها (محمد الثاني) رفقة أبيه في معركة ميدانية كبرى، قاد فيها بنفسه، وهو ابن 17 عامٍ، فيلق الفرسان الأناضوليين، شارك معه بعد أقل من سنة في حملة عسكرية على ألبانيا، ثم تركه ليضطلع بمهام إدارة إيالة "أماسيا" في 1449م، عاد وشارك مع أبيه في حملة أخرى في 1450م ثم تركه ليعود لأماسيا مرة أخرى، وكانت تلك آخر مرة شاهد فيها (محمد الثاني) أباه على قيد الحياة، توفي (مراد) في 1451م وخلفه ابنه (محمد الثاني) على العرش.

"إسطنبول"

وصل خبر وفاة (مراد الثاني) إلى ابنه فباشر بالتحرك بسرعة، ركب خيله مع ثلة من مقربيه وعبر مضيق "جنا قلعة" متوجهاً إلى "أدرنة" مدينة العرش في البلقان، ووصلها بأقصى سرعة ليجلس على العرش ولمَّا يكن قد بلغ التاسعة عشرة من عمره بعد.

قضى سنته الأولى في الحكم في تثبيت دعائم عرشه، توجه في حملة سريعة إلى إمارة "قرة مان" كبح فيها شيئاً من إزعاجات حميه (إبراهيم بيك) أمير "قرة مان" ليضمن قدر استطاعته عدم تدخله في خطوته الكبرى التي كان يجهز نفسه ودولته لاتخاذها، الزحف على "القسطنطينية".

كانت المدينة قد بلغت مع مضي الوقت أقضى درجة من الضعف خاصة بعد تناقص عدد سكانها بشكل كبير خلال السنوات التي لحقت انكسارها على يد اللاتين في الحملة الصليبية الرابعة، كما تناقص نفوذها وتناقصت قدرتها العسكرية بشكل كبير بسبب التوسع العثماني والصراع المستمر مع الإمارات التركمانية في الأناضول على مدار القرنين السابقين وبسبب سياسة عائلة (باليولوجوس) التي حدت، بعد إعادة السيطرة على المدينة في 1261م، من الإنفاق العسكري [لدرجة أنها قامت بتسريح جزء من الإسطول الحربي] وركزت واردات الدولة في يد نخبة العاصمة وخصصتها لرفاهيتهم فيما تحولت مع مرور الزمن إلى مجموعة من القرى المحصورة داخل الأسوار لا يزيد عدد سكانها عن خمسين ألف نسمة بعد أن كانت المدينة تضم في زمن ذروة مجدها أكثر من أربعمة ألف نسمة، كانت المدينة بعد انتصار (مراد الأول) في معركة "كوسوفو" الأولى في 1389م في البلقان مجرد جزيرة صغيرة في بحر عثماني متلاطم الأمواج، وبالرغم من فشل المحاولات العثمانية السابقة لاقتحامها فقد كان من الواضح أن خضوع مدينة العرش الرومانية للأتراك لا يعدو سوى مسألة وقت فحسب. كانت "القسطنطينية" هي الحلم، وقد عزم (محمد الثاني) على أن يجعل منه حقيقة.


خريطة القسطنطينية في العهد البيزنطي

كان على السلطان الشاب أن يقدر بدايةً ما ستواجهه محاولته لاقتحام المدينة من مصاعب، إنه باجتياح "القسطنطينية" لا يواجه "بيزنطة" لوحدها، بل ستقف الدولة العثمانية ضد أوروبا بكاملها بمختلف دولها وأعراقها، أجل، كان الوضع السياسي في أوروبا حرجاً في تلك اللحظة بالذات من عمر السلطنة، وكان بدون شك عاملاً إيجابياً في صالح (محمد الثاني)، فميراث الإمبراطورية الألمانية ممثلاً بـ "بولندا" و"هنغاريا" كان يعاني من الإرهاق بسبب الصراعات الداخلية، إضافة إلى استنزاف قدرات "فرنسا" و"بريطانيا" في حرب المئة العام التي لم تكن قد انتهت وقتما قرر (محمد الثاني) مهاجمة "القسطنطينية"، إضافة إلى أن البلقان تحول ومنذ وعهد (مراد الثاني) إما إلى سناجق وإيالات عثمانية أو أطياف ضعيفة ومفككة لممالك وإمارات أوروبية خاضعة للسلطان العثماني ويستمد حكامها شرعيتهم منه وتربطهم به معاهدات تجبرهم على إنجاده بالعسكر في أي وقت وضد أي عدو حتى لو كان الإمبراطورية البيزنطية نفسها. ولم يكن ليستجيب للحرب ضد (محمد الثاني) في تحركه ضد "القسطنطنينة" سوى الجمهوريات والممالك الإيطالية، وبخاصة جمهورية "جنوة" التي لم تكن لتقبل بإحكام العثمانيين للسيطرة على البسفور وإخضاع ملاحتها وتجارتها مع مستوطناتها في البحر الأسود لرحمتهم، وعلى الرغم من ذلك، فلم يكن ممكنًا تجاوز رد الفعل الأوروبي ضد خطوة بحجم الهجوم على "القسطنطينية" حتى لو تأخر مجيئه، وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الحقائق لم تُثنِ (محمد الثاني) عما اعتزمه. كانت أول خطوة اتخذها (محمد الثاني) في تمهيد الطريق نحو "القسطنطينية" بناءه لقلعة "روملي حصاري" (بالتركية: Rumeli Hisarı) التي عُرفت باسم [القلعة القاطعة أو الخانقة للمضيق Boğazkesen Hisarı] وذلك على بعد ثمانية كيلومترات شمال أسوار "القسطنطينية" عند النقطة التي يقع عندها أضيق اتساع لعرض المضيق (حوالي 660 متر) لتساعد جنباً إلى جنب مع قلعة "أناضولي حصاري" (بالتركية: Anadolu Hisarı) التي بناها (بايزيد الأول) على الضفة الآسيوية للبسفور في منع أي نجدة جنوية للمدينة تأتي من مستوطنات "جنوة" في البحر الأسود. في ذات الوقت، أتمت البحرية العسكرية العثمانية بناء أضخم أسطول عرفته السلطنة حتى ذلك الوقت، ورست سفنه في أقصى شمال بحر مرمرة قاطعة الطريق على أي نجدة تأتي للمدينة عبر بحر إيجة وشمال المتوسط، فأصبحت المدينة محاصرة بحرًا من الشمال والجنوب، وأغلقت طرق النجدة أمامها عدا البر الذي يخضع للسلطة العثمانية والذي لن تقدر أوروبا على حشد جيش يقدر على اجتيازه قبل وقت طويل جداً. تحدٍ آخر واجه العثمانيين بخلاف النجدات الأوروبية، ألا وهو أسوار المدينة نفسها، والتي صمدت لتسعة قرون على الأقل وتصدت بنجاعة لمعظم الهجمات التي شُنت على المدينة من قبل وقد كان آخرها هجوم (مراد الثاني) الذي استخدمت فيه المدافع في قصف الأسوار. احتاج (محمد الثاني) لمدافع أضخم وأكبر، ووجد غايته لدى مهندس هنغاري يُدعى (أوربان Orban) كان يبحث في أوروبا عن ممول لأبحاثه ووجد غايته لدى العثمانيين، وعكف في "أدرنة" على صناعة مدفع اعتُبر في ذلك الوقت هو الأضخم في العالم، وقد اضطر العثمانيون من أجل نقله إلى "القسطنطينية" إلى تسوية وتمهيد الطريق بمساعدة مئتين وخمسين عامل ونُقل إلى "روملي حصاري" خلال شهرين (طريق قطعها الفاتح مع جيشه خلال 13 يومٍ فقط)، بدأ الهجوم على "القسطنطينية" في السادس من إبريل 1453م واستمر لثلاثة وخمسين يوماً، وبالرغم من صمود المدينة أمام المحاولات المتكررة للاقتحام ونجاح حامية المدينة في تدعيم الأسوار ونجاح نجدة جنوية في الوصول عبر بحر مرمرة إلى المدينة في يوم حصارها الأربعين متجاوزة الأسطول العثماني، إلا أن النخبة العسكرية العثمانية المتمثلة بمشاة الإنكشارية نجحت أخيراً في حسم المعركة واقتحام الأسوار ورفع الراية العثمانية فوقها. فتح (محمد الثاني) "القسطنطينية"، ولقب نفسه منذ تلك اللحظة بلقب (الفاتح)، وما أن انتهى جنوده من سفك الدم وجمع الغنائم والعبيد حتى يمم وجهه شطر الغرب، "إلى روما .. إلى روما" كان الهتاف الجديد.

"أناضولي" و "روملي" كانا جناحين بلا رأس، أجل .. كانت "بورصة" و "أدرنة" مدينتان قويتان ومنيعتان في موقعين استراتيجيين متميزين وخدمتا ما شاء لهما القدر أن تخدما كمركزي حكم وكعاصمتين لسلطنة انتقلت بسرعة قياسية من طور الفتوة إلى طور النضج، إلا أن "إسطنبول" كانت القطعة الناقصة في هذا الجسد الطائر، وباكتماله بدرة التاج، "عاصمة العالم"، تحول هذا الطائر، دولة بني عثمان، من سلطنة إسلامية تقليدية، إلى إمبراطورية عالمية، وتحول رأس هرم هذه الدولة من مجرد سلطان اكتسب لقبه لانتمائه لعائلته التي مُنحت الحق بتوريثه إياه طبقاً لتقليد ديني غامض موغل في القدم إلى إمبراطور لأعظم امبراطورية في أوروبا وواحدة من أعظم الإمبراطوريات في العالم، أصبح سلطان الأتراك الآن قيصراً للروم كذلك.

ما بعد "اسطنبول"

على ما يبدو، فقد كان (الفاتح) خائفاً من أن تتحقق نبوءة صدره الأعظم وكبير مستشاريه (خليل باشا جاندرلي) الذي أعدمه بعد فتح "اسطنبول"، لم يكن الأمر متعلقاً فقط بطموحه في الوصول إلى "روما"، كان (خليل باشا جاندرلي) معترضاً على سياسة (الفاتح) التوسعية، وكان معترضاً بشكل خاص على مهاجمة "اسطنبول"، بالنسبة له، كان الولوج إلى "اسطنبول" بداية لردة فعل أوروبية واسعة المجال لن تصمد أمامها قوة العثمانيين العسكرية، فمهما كان من شأن العثمانية فلن تستطيع محاربة قارة بأكملها، ربما كانت جحافل الموجات الثلاثة للحملة الصليبية الأولى تتراءى أمام عيني (خليل باشا) وكان يحاول أن يقرأ العبرة في تاريخ بني سلجوق الذين ضغطوا بكل شراسة على الغرب الأوروبي وانتهى بهم الأمر إلى استحثاث رد فعل أوروبي عنيف أجبرهم على حصر سلطنتهم داخل شرنقة محدودة من اليابسة الأناضولية لم تلبث أن تفككت بعد أن خضعت للإيلخان المغولي في تبريز، لقد كان العثمانيون يفعلون ما بوسعهم لتثبيت دعائم حكمهم في البلقان وصمدوا في وجه الحملات الصليبية التي سُيِّرت لإبعادهم عنه، فحاربوا بكل قوة في "كوسوفو" و "فارنا" وأمنوا القلعة تلو الأخرى وفرضوا سيطرتهم على الإمارة تلو الأخرى، لكن بالرغم من ذلك، كان (خليل باشا) يرى أن [التمدد] أكثر في العمق الأوروبي سيعود نهاية على العثمانيين بسوء العاقبة! وأن أي تمدد جديد لن يُقارن تأثيره بما سيحدثه تأثير السيطرة على "اسطنبول"، لم يقدر (الفاتح) في نشوة نصره على احتمال أي تشكيكٍ إضافيٍ برجاحة حكمه وخياره، وأمر بإعدام مستشاره ومستشار أبيه من قبله وأبعد منصب الصدر الأعظم عن عائلة (جاندرلي) بعد أن توارثوه لعدة أجيال، لكن سلوكه بعد استقرار الأمر له في "اسطنبول" يؤكد أنه كان، على الأقل، يحسب حساب اليوم الذي تنتفض فيه أوروبا بكاملها ضد دولته، صحيح أن دولة عائلته قامت أساساً على امتداد للفكر التوسعي للسلطنة السلجوقية الأناضولية، وأن أهدافهم كانت ولا زالت إخضاع المزيد من الأرض لسلطانهم، إلا أن (محمد الفاتح) كان يقرأ التاريخ كصدره الأعظم بدون شك، ومهما كان قدر ما زاد في نفسه من غرور وصفاقة بعد فتح "اسطنبول"، كان (الفاتح) يعلم أنه لن يقدر على مواصلة التوغل في أوروبا إلى الأبد بدون مخطط محكم يمنع ارتداد تقدمه عليه بنتيجة عكسية، لذا فقد وضع (الفاتح) لنفسه هدفاً واضحاً بعد فتح "اسطنبول" يقضي بأن تظل قدرات أوروبا العسكرية تحت الإنهاك المتواصل، في بداية الأمر توعد (محمد الفاتح) لمن حوله بأن يفعل في "روما" مثلما فعله في "اسطنبول" وأن تحتل جيوشه إيطاليا خلال فترة لا تزيد عن سنتين فحسب! كان هذا حلماً بعيد المنال أو مجرد نزق غذَّاه حداثة عهد إنجازه الضخم، كلا، لم يكن من الممكن أن ترفع جيوش العثمانية راياتها فوق الفاتيكان خلال سنتين إلا بمغامرة ستحمل أقصى درجة من المخاطرة، وإن قرر فعلاً استغلال سنتين من الزمن لتجهيز جيش كافٍ للوصول إلى روما سواء عبر البر أو البحر، فكان سيجازف بترك حاضرة دولته مكشوفة بدون حماية بينما قوتها الرئيسية تخوض حرباً شرسة لن يستطيع أبداً أن يجعلها خاطفة وسريعة بما فيه الكفاية، وحتى إن لم تتعرض الحاضرة العثمانية في البلقان لهجوم منطلق من وسط أوروبا فإن فشل مغامرة احتلال "روما" سيعني تحجيم قوة العثمانية في أوروبا لمدة طويلة جداً. في الواقع، كان العبور السريع لباب "روما" عبوراً للإمبراطورية العثمانية نحو باب من أبواب الهلاك.

إن النظر إلى قائمة الحملات العسكرية التي شنها (محمد الفاتح) وجنرالاته على أوروبا خلال السبعة والعشرين سنة اللاحقة لفتح "اسطنبول" تظهر بشكل جلي طبيعة مخططه الرامي إلى التمشيط التدريجي للطريق من البلقان العثماني إلى عمق المركز اللاتيني في إيطاليا، وأن يفتح لجيوشه طريقاً، إما عبر البر أو عبر البحر، إلى "روما"، مع طرد أكبر عدد ممكن من القوات الأوروبية باتجاه الغرب ونصب أكبر عدد ممكن من الحاميات العثمانية على الطريق ما بين "اسطنبول" و "روما" وتحييد أكبر عدد ممكن من الأماكن التي يمكن أن تُستغل كنقاط انطلاق لغزو شامل ضد البلقان، كانت التحديات التي تواجهه في البلقان وعلى ضفتي نهر الدانوب هي بقايا الممالك والإمارات الأورثوذوكسية، وبشكل خاص "بوسنة" و "مورا" (باللاتينية: Morea) وما تبقى من "صربيا" و"بلغاريا" و"ولاكيا Wallachia"، فإذا ما انتهى منها، وهي ليست بالأمر الهين، سيضطر لتحييد الخطر الوسط-أوروبي متمثلاً بـ"بولندا" و"المجر" إضافة إلى أراضي الأباطرة المقدسين من (آل هابسبورج) المتمثلة في الإمبراطورية الرومانية المقدسة في النمسا وألمانيا، أقوى دولة كاثوليكية في أوروبا في ذلك الوقت، وهي طريق طويلة لن يضمن (الفاتح)، إن قرر الخوض فيها، أن يصل إلى نهايتها المأمولة، وقد ثبت له ذلك بالتجربة العملية، عندما حاول اجتياح قلعة "بلغراد" على الحدود المجرية والتي حاصرها في الرابع من يوليو 1456م خلال حملة له على "صربيا"، أن التوغل أكثر في البر الأوروبي لن يكون بالمهمة السهلة، فقد تصدت له مملكة "المجر" بكل قوتها، وحشد (هونيادي جوناس) مرة أخرى قواه لقتال العثمانيين، دفاعًا لا هجومًا هذه المرة، واستطاع الدفاع عن القلعة الحدودية والخروج إلى العثمانيين في ساحة مفتوحة وصدهم في معركة ملحمية غير متوقعة أصيب فيها محمد الفاتح بنفسه واضطر للتراجع بجيوشه والتوقف بحملاته غربًا في أوروبا عند حدود مملكة "المجر". وعلى الرغم من أن السلطان سيضطر للعودة إلى "صربيا" بعد سنتين مرة أخرى لتثبيت دعائم السلطنة فيها بشكلٍ نهائي، إلا أن محاولته على "بلغراد" قد أقنعته، على ما يبدو، أن سلوك طريق البر نحو "إيطاليا" والتوغل أكثر في البر الأوروبي، لن يعود عليه إلا بالفشل، وفي الواقع، فإنه وباستثناء "بلغراد" من المعادلة، فإن الخريطة توضح أن أي عبورٍ إلى "إيطاليا" لم يكن لينجح على الإطلاق بدون السيطرة أولًا على "فيينا" عاصمة الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وقد أثبت تاريخٌ سيُكتب لاحقًا أنها مهمة لن تنجح الإمبراطورية العثمانية في إنجازها.


الدولة العثمانية في 1480

سيعود (الفاتح) مرة أخرى إلى "صربيا" كما سلف ذكره، ومن ثم سيتقدم بجيوشه نحو "مورا Morea" في الشق الجنوبي من شبه الجزيرة اليونانية، إذ سيعزز الوجود العثماني في المقاطعة بحلول العام 1460، يتوجه الفاتح بعد ذلك إلى الأناضول لإنهاء بقية الوجود المسيحي فيها، فيستولي على مستوطنة "آماسرا Amasra" التابعة لجنوة أولاً  في 1460 ومن ثم ينطلق في حملة ضد "إمبراطورية طرابزون Empire of Trebizond" يمشط خلالها الساحل الأناضولي على البحر الأسود ويستولي على مستوطنة "سينوب Sinop" الجنوية أيضًا في 1461، وبذا تدخل آسيا الصغرى بكاملها تحت السيادة العثمانية، ويتفرغ (الفاتح) قدر استطاعته لإحكام سيطرته على ما تبقى من البلقان، وتحديدًا "البوسنة" و"ألبانيا"، والتي ظل جزء منها حتى تلك اللحظة تحت سيطرة الأمير المتمرد "إسكندر بك Skander Beg" المدعوم من البندقية.

يوجه (الفاتح) حملة إلى "والاكيا" لإخماد تمردٍ للأمير "فلاد المخوزق" (بالانجليزية: Vlad The Impaler، وكان يُلقب بالرومانية بـ: Vlad Drăculea) في 1462، كما يوجه حملة بحرية في ذات العام تنجح في الاستيلاء على جزيرة "ليسبوس Lesbos"، ثم يطلق حملتين خلال العامين التاليين إلى "مورا" و"البوسنة" اللتان يحكم سيطرته عليهما، وتكون خطوته تلك إيذانًا ببدأ واحدةٍ من أطول الحروب التي خاضتها الإمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت، وهي الحرب التي عرفت باسم [الحرب العثمانية - البندقية Ottoman-Venetian War]، وقد استمرت منذ 1463 وانتهت لصالح العثمانيين بانتصارٍ ساحقٍ طبقًا لشروط معاهدة القسطنينية التي وُقعت بين الطرفين في 1479.

ختام

سيوضح الجزء القادم من المقال محاولات البندقية لجمع اتحاد أوروبي لمواجهة العثمانيين، إذ ستتجند العديد من الممالك والإمارات تحت رايتها في سبيل صد التوغل العثماني في أوروبا، وستقود البندقية عدة حملات خلال عقد ونصف العقد تقريبًا لحماية ممتلكاتها في اليونان وألبانيا ولإحكام سيطرتها المهددة على الملاحة البحرية في البحر المتوسط وبحر إيجة، وستفشل جميع مجهودات البندقية وحلفائها وستخسر معظم ممتلكاتها في شبه الجزيرة اليونانية بالإضافة إلى هامش ضخم من سيطرتها على الملاحة في بحر إيجة، حيث ستتقدم البحرية العثمانية لتضع نفسها، لأول مرة منذ بداية الهيمنة البندقية على المتوسط، في موقع يسمح لها بمنازعة إيطاليا وفرسان الهوسبيتاليين المتمركزين في قواعدهم في جزر المتوسط، وبانتهاء الحرب بتوقيع معاهدة القسطنطينية، ستثبت الإمبراطورية العثمانية قدمها على القسم الأكبر من الساحل الشرقي للبحر الأدرياتيكي، وستصبح شبه الجزيرة الإيطالية على مرمى حجر من يد (محمد الفاتح)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق