عروش مغمسة بالدماء: سياسات انتقال السلطة في الدولة العثمانية

 

 

https://www.airfrance.com.tw/TW/common/common/img/tbaf/news/IST/se-glisser-dans-la-peau-du-sultan-au-palais-de-topkapi/IST-se-glisser-dans-la-peau-du-sultan-au-palais-de-topkapi-2_1-1024x512.jpg
قصر توب قابي في إسطنبول (مقر إقامة السلاطين العثمانيين منذ 1465)

 

امتد عمر السلطنة العثمانية لستة قرون وربع، صعد خلالها على كرسي العرش ما يقارب 36 سلطانًا على الأقل،[1] ولم تضع السلطنة خلالها طريقة محددة لانتقال السلطة، مع الأخذ بالاعتبار أنها لم تُحكم أبدًا بعواهل من خارج السلالة العثمانية نفسها، حيث كان الأمراء العثمانيون على الدوام أساسًا لشرعيتها السياسية. وعلى ما يبدو فإن القاعدة الوحيدة التي نظمت انتقال الحكم من سلطانٍ إلى آخر هي انتماء من يؤول إليه كرسي العرش إلى السلالة العثمانية نفسها، مع شروطٍ أخرى أقل أهمية ولم يُلتزم بها دائمًا، كأن يكون ذكرًا عاقلًا يبلغ سن الرشد. وبالمجمل فلم ينصِّب معظم السلاطين العثمانيين أولياءً للعهد، ولم يُعهد بكرسي العرش إلى أكبر أبنائهم أو أكبر أفراد عائلتهم تلقائيًا، ولم يحدث أن اختير الحاكم انتخابًا على يد مجلس من النبلاء، كما كانت عليه العادة في الممالك والإمبراطوريات الأخرى.

أنتج هذا الوضع حالة أعطت لجميع الأمراء العثمانيين، من أبناء السلطان وإخوته وحتى أعمامه، الحق بالمطالبة بالعرش، حتى في وقت جلوس السلطان نفسه، وهو ما جعل منهم تهديدًا مستمرًا باشتعال الثورات وحالات التمرد، ولهذا فقد كان ضمان استمرار السلالة من خلال الانتقال السلس للسلطة أكبر هموم السلاطين على الدوام. بيد أن كل ما سبق، لم يشجع معظم السلاطين العثمانيين على تحديد إطار واضح يشكل مرجعية قانونية لانتقال السلطة يلتزم به الجميع، حتى وصلت الدولة إلى مرحلة أصبح فيها وضع مثل هذا الإطار من الصعوبة بمكان بحيث لا يمكن فرضه على البلاط العثماني، والذي فضلت عناصره استمرار الوضع على حاله لضمان دور أكبر لهم في تحديد هوية السلطان الجديد، ولضمان تأثيرهم على تسيير قرارات الحكومة باتجاه مصالحهم ونفوذهم. كانت نتيجة ما سبق ميراثًا عنيفًا ودمويًا داخل العائلة العثمانية، التي عُرفت بحوادث تصفية وسجن الأمراء، والتي أصبحت منذ التاريخ المبكر للسلطنة عُرفًا معتمدًا تحول لاحقًا إلى قانون مكتوب في عهد محمد الفاتح. هذا بخلاف التدخلات التي مارسها البلاط العثماني نفسه في عملية انتقال السلطة واختيار السلطان، ولربما كان أوضح مثالٍ على ذلك ثورات الإنكشارية المستمر التي دعمتها الحكومة أو أجزاء منها، والتي قصدت غالبًا التدخل في سياسات السلطنة وإجراءاتها الإدارية، أو أتت استجابة لتنفيذ تفاهمات بين ضباط الإنكشارية وبين عناصر أخرى في البلاط كالوزراء أو رجال الدين وغيرهم، وقد كانت ثورات الإنكشارية غالبًا، في حال نجاحها، تنتهي بتنحية سلطان وتنصيب أمير عثماني آخر مكانه.

"الأمر كله لله"

لقد استمدت السلطنة في بداية عهدها أفكارها المبدئية عن توارث الحكم من تقليد ديني شاماني[2] قديم يُرجع الفضل في تنصيب السلطان إلى اختيار إلهي، وهو الأمر الذي جعل تحديد ولي العهد أمرًا مخالفًا للإرادة الإلهية، وأصبح الصراع على كرسي العرش بين الورثة المحتملين، بعد تنحي السلطان أو وفاته، أشبه ما يكون بالقدر المحتوم، بحيث كانت نتيجة هذا الصراع تمظهرًا للإرادة الإلهية لا تجوز مخالفته. صُبغ هذا التقليد بصبغة شرعية إسلامية في عهد السلطنات التركمانية في العصر العباسي، وقد اعتمده السلاجقة، وهم أصل العثمانيين وأسلافهم في حكم الأناضول، فلم يولوا أيضًا أولياءً للعهد إلا فيما ندر، وقد تعمَّد تاريخ انتقال السلطة لديهم بالدم في بعض الأحيان. أما السلاطين العثمانيون فقد قتلوا أخوتهم وأعدموا أبنائهم الذين ثاروا عليهم ونفوهم وسجنوهم، وقد استخدم أعداء الدولة العثمانية هذه الأسس المطاطة للشرعية السياسية في محاولة تحجيم الدولة العثمانية وإقامة العراقيل أمام توسعاتها، عن طريق استثارة نزاعات داخلية بين الأمراء العثمانيين وتقديم الدعم لبعضهم على حساب بعضهم الآخر فتظل الدولة في حالة ضعف أو انشغال بالفتن الداخلية. 

أورخان غازي الأول، ثاني سلاطين الدولة العثمانية

تميز أول انتقال للسلطة في عهد الدولة العثمانية من عثمان غازي إلى أورخان غازي بالسلاسة، بسبب درجة عالية من التوافق الداخلي بين المرشحَين المحتملَين للإمارة وهم أورخان وأخوه علاء الدين. كان أورخان قد تسلم مهام السلطنة من أبيه قبل وفاته بسنتين على الأقل، وقد اقترح أورخان على أخيه بعد وفاة والدهما تطبيق تقليد تركماني قديم يقضي باقتسام الإمارة بينهما،[3] إذ كان حريصًا على عدم اشتعال أي خلاف قد يودي بالإمارة الحديثة إلى فتنة داخلية، وقد رفض علاء الدين اقتراح أورخان باقتسام الأرض والسلطة بسبب حرصه هو أيضًا على الإبقاء على الإمارة موحدة تحت عرش واحد. خلص الاثنين في نهاية الأمر إلى الاتفاق على تنصيب أورخان أميرًا، مع حصول علاء الدين على منصب نائبه أو وزيره الأعلى. [4]

أول الدم

لم تعمر هذه السياسة التوافقية طويلًا، فقد خلَفَ أورخان ابنه مراد الذي كان أول من استن سنة قتل الأمراء المنافسين بعد توليه العرش في عام 1362. لكن الأغلب أن مراد لم يقصد تحويل الأمر إلى سنة داخل العائلة. لقد وجد مراد في أخيه خليل خطرًا حقيقيًا، لا على العرش فحسب، بل على سيادة الإمارة العثمانية في وجه منافسيها الإقليميين، حيث تعرض خليل للاختطاف في عام 1357 على يد قراصنة لاتينيين في بحر مرمرة، وأفرج عنه بعد سنتين بعد دفع فدية وصلت لخاطفيه بعد وساطة من الإمبراطور البيزنطي يوحنا الخامس تحت شرط زواج خليل نفسه من ابنتة الإمبراطور الأميرة إيرينا، وهو ما جعل خليل تحت سيطرة العرش البيزنطي الذي حاول لاحقًا الدفع نحو تسميته سلطانًا، خاصة وأنه كان فتى مراهقًا لم يبلغ من العمر سوى 14 عامٍ وقت وفاة أبيه. أدرك مراد لحظتها أن خليل، وإن كان عاجزًا عن التصدي له الآن بسبب حداثة سنه، إلا أن هناك احتمالًا واردًا أن يُدفع من البيزنطيين لإعلان الثورة عليه في أقرب فرصة سانحة.

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/b/bb/Petar_Lubarda_Kosovski_boj_1953_Svecana_Sala_Novi_Dvor_Beograd.jpg
تصوير لمعركة كوسوفو 1389 - بيتر لوباردة

تُوفي مراد الأول في حزيران من عام1389 خلال معركة كوسوفو التي انتصر فيها العثمانيون ضد اتحاد من الإمارات الصربية والبوسنية والألبانية، حيث تلقى طعنة قاتلة من جندي صربي جريح أثناء تفقده لميدان المعركة، واتجهت قيادات الجيش فورًا لابنه الأكبر بايزيد لتنادي به سلطانًا على البلاد، وقد أعلن هذا النداء في ساحة المعركة على غير العادة التي تتطلب وجود السلطان المرشح في العاصمة، وكان أول فعلٍ قام به بايزيد، قبل حتى أن يصل إلى بورصة مدينة العرش، هو إعدام أخيه الأمير يعقوب تشلبي، والذي كان شريكه في النصر وقاد بنفسه ميسرة الجيش العثماني خلال المعركة.

لم يكن بايزيد يملك في تلك اللحظة أي شرعية لادعاءه بكرسي السلطنة أكثر مما لدى أخيه يعقوب، ولذا فقد حرص على ألا يصل أخوه إلى العاصمة قبله، وبجميع دعمًا كافيًا من الحكومة لتنصيبه بدلًا منه. تجدر الإشارة إلى أن جيش مراد المنتصر قد خرج من معركة كوسوفو منهك القوى حيث استمرت المعركة ثمان ساعات استُهلك فيها معظم الجيش بين قتلى وجرحى، وترك مراد الصريع سلطنته لحظتها في خطر حقيقي، لا من أعدائه البلقانيين الذين هزمهم لتوه بل من أعداءه التركمان في الأناضول، والذين سيستغلون الفرصة بدون شك من أجل الهجوم على العثمانيين وإعلان رفض وصايتهم. إذ كان وجود منافس لبايزيد على العرش فرصة ذهبية لجيران السلطنة لافتعال فتنة داخلية، خاصة إمارة قرة مان التي حاربت العثمانيين قبل معركة كوسوفو بفترة وجيزة، ولذا يمكن الافتراض أن بايزيد لم يقتل أخاه تحسبًا من منافسته على العرش فحسب، بل خوفًا من تأثر هذه المنافسة بالسياسة الإقليمية، فالحديث هنا عن استقرار دولة واسعة ذات أطماع توسعية يسعى جميع جيرانها لتحجيم قواها والسيطرة على انتشارها قدر الإمكان.

سياسات "التغييب"

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/c/c6/Gentile_Bellini_003.jpg
السلطان محمد الفاتح

استمرت سياسة قتل الأمراء في الدولة العثمانية على حالها لعقود قادمة بعد بايزيد، وعلى الرغم من أن وفاته دشنت صراعًا طويلًا على العرش بين أبنائه بسبب ظروفها الخاصة، وهو ما سنناقشه لاحقًا في هذا المقال، إلا أن عقدًا دمويًا من الصراع الأهلي كاد يودي بالسلالة العثمانية إلى مجاهل النسيان لم يحفز أيضًا سن إطار قانوني لتنظيم انتقال السلطة لمنع تكراره. بل إن السلطان محمد الفاتح قد رسَّخ الوضع القائم عن طريق تشريعٍ أصدره يتيح لمن "سيهبه الله السلطنة من أولاده" قتل إخوته في حال وصل إلى العرش حتى لا تكون فتنة "وهو ما أقره غالبية العلماء". لقد قتل محمد أحد إخوته فور أن وصله خبر وفاة أبيه، وقد اضطر في أول سنتين من حكمه لدفع جزية سنوية للإمبراطور البيزنطي قسطنطين الحادي عشر ليستمر في حبس أمير عثماني يُدعى أورخان، كان مرهونًا لدى بيزنطة منذ وقت سابق، لإبقاءه في محبسه ومنع خروجه الذي كان سيستثير حتمًا تمردًا ضد حكم محمد الثاني، خاصة وأن محمد قد عانى من قلة ثقة الإنكشارية به بسبب حداثة سنه وحادثة عزله التي تلت تنصيبه أول مرة قبل معركة فارنا في عام 1444،[5] وهو ما يعني احتمال استجابتهم السهلة لأي محاولة انقلابية، وقد استقرت العلاقة المتوترة بين محمد الفاتح وبين الإنكشارية لاحقًا بعد انتصاره المدوي على بيزنطة وفتحه للقسطنطينية.

استمر السلاطين العثمانيون بعد محمد الفاتح في قتل إخوتهم، وفي حال نجح السلطان الجديد في تولي العرش بدون نزاع داخلي، فإن أول خطواته في الحكم تضمنت بدون شكٍ مجزرة داخل الحرملك، لقد قتل السلطان سليم الأول في عام 1512 أخويه كوركوت وأحمد وأبنائهما (باستثناء مراد بن أحمد الذي تمكن من الهرب والاختباء لدى الصفويين في إيران)، وقد قتل مراد الثالث في عام 1574 خمسة من أخوته بعد تولي العرش، أما محمد الثالث فقد ارتكب مجزرة طالت تسعة عشر أميرًا عثمانيًا دفعة واحدة بعد تنصيبه مباشرة.

لقد تبع وصول السلطان محمد الثالث إلى العرش في عام 1595 إحداث تغيرٍ جذريٍ في تعامل العائلة مع أمرائها، فقد أقر قانونًا جديدًا يقضي بحبس الأمراء داخل أماكن إقامتهم مدى الحياة، وقد خُصصت للأمراء غرف داخل الحرملك سُميت بالأقفاص ظلوا فيها على الدوام وحرموا من الاحتكاك بالعالم الخارجي أو الزواج. كما وألُغي في عهد محمد الثالث التقليد الخاص بتعيين الأمراء ولاةً للدولة، وظلوا داخل القصر ممنوعين من الخروج حتى وقت وفاة السلطان، وقد عانى الأمراء من اضطرابات نفسية بسبب عزلهم المستمر، وانتظارهم للموت في أية لحظة، فعندما يموت السلطان وتختار حاشية القصر والحكومة خليفة له فإن مصيرهم لن يختلف عن مصير سابقيهم. وعلى سبيل المثال، فقد عانى رجال القصر كثيرًا حتى أقنعوا السلطان سليمان الثاني بالخروج من قفصه في عام 1687 لكي يصعد على العرش، وقد ظل يخبرهم بأن ينتظروا ريثما يؤدي صلاته الأخيرة قبل أن يغتالوه.

لقد هُددت السلطنة عدة مرات بالانقسام بسبب صراعات الأمراء وبسبب تمردهم على آبائهم السلاطين، وقد انقسمت بالفعل طيلة "عهد الفترة"، ولربما مثَّل ذلك جزءًا من معضلات الحكم التي اعتاد عليها العثمانيون سابقًا لاتباع سلطنتهم تقاليد الحكم الإسلامية والتركمانية القديمة، لكن الأمر اختلف بعد القرن السادس عشر والتحول الجذري الذي طرأ على طبيعة السلطنة في عهد سليم الأول وسليمان القانوني إلى قوة عالمية واسعة الانتشار تملك أراضٍ في ثلاثة قارات وتحارب بشراسة من أجل توسيع رقعة سيطرتها في وسط أوروبا، وبذا فإن السلطنة لم تعد تحتمل المزيد من أزمات الخلافة والصراع على السلطة. حيث عمد السلاطين إلى إلغاء جميع التقاليد التي ضمنت للأمراء فرصة لمراكمة القوة والنفوذ، وذلك لمنع اندلاع الفتن الداخلية قدر المستطاع، فألغوا عادة تعيين الأمراء كأمراء ألوية وولاة خارج العاصمة، واكتفوا بداية بإرسال أكبر أبنائهم، ثم قاموا بإلغاء هذا التقليد أيضًا وإبقاء جميع الأمراء محتجزين داخل الحرملك. ولكن في ذات الوقت، فإن هذه التقاليد هي التي أنتجت سلاطينًا أقوياء كانوا محاربين شرسين وسياسيين محنكين قادرين على إدارة البلاد ومشاكل الحكومة وصراعاتها الخارجية، ولذا فإن تغيير سياسات انتقال السلطة لضمان نزع فتيل النزاعات الداخلية وضمان وجود أحد أفراد السلالة العثمانية في سدة الحكم قد ترافق مع ضعف تدريجي في مؤسسة العرش، وزيادة مضطردة في قوة شخصيات البلاط وتدخلهم في شؤون الحكم.

الإنكشارية والبلاط وسياسات الخلافة

كانت الإنكشارية أول جيش نظامي دائمٍ في أوروبا منذ جيوش روما القديمة. وكانوا أكثر الوحدات العسكرية مهابةً وتنظيمًا في الأناضول والبلقان وامتلكوا قيادة مركزية بتراتبية هرمية وسلسلة قيادة متماسكة. كما أنهم كانوا في نفس الوقت "وحشًا" يتوجب على جميع السلاطين "ترويضه" باستمرار حتى لا يخرج عن الأمر ويشق عصا الطاعة، فكانوا يستميلونهم على الدوام بالهدايا والمعاشات الضخمة، وكان من عادة السلطان الجديد إخراج مبالغ مالية ضخمة من خزينة الدولة فيما كان يُعرف باسم (البخشيش) أو هدية التنصيب، كان معظمها يذهب للإنكشارية والسباهية.[6] فعلى سبيل المثال وزع سليم الثاني ما مقداره ألف دوقية ذهبية لكل جندي إنكشاري كجزء من البخشيش، فيما أخرج محمد الثالث حوالي مليون وثلاثمائة ألف دوقية ذهبية لتوزيعها على كبار موظفي البلاط، ذهب منها أكثر من نصف مليون دوقية للإنكشارية وحدها، وقد كان من عرف السلطنة أن يتم التعامل مع وفاة السلطان باعتبارها نهاية لعهد وبداية لآخر، وينطبق ذلك على جميع القرارات والقوانين التي أُقرت في عهده، فتعتبر لاغية حتى  صعود السلطان الجديد على العرش، فيقوم إما بتثبيتها أو إلغائها، ولذا فإن وفاة السلطان كانت تحول الإنكشارية إلى عصابات من قطاع الطرق تمارس السلب والنهب داخل العاصمة، ولا تهدأ حتى تنصيب السلطان الجديد وشرائه لرضاهم، وقد جعل ذلك من إخفاء خبر وفاة السلطان لمنع اندلاع العنف داخل العاصمة أمرًا ضروريًا تكفل به بعض عناصر البلاط كزوجات السلاطين وآغاوات الحرملك والصدور العظماء.

لقد أصبح للإنكشارية دور محوري في سير عملية انتقال السلطة، أخذ يتعاظم باضطراد، حتى أصبح واضحًا بشكلٍ جليٍ بدءًا منذ عهد مراد الثاني في عام 1421 بعد أن تمكن بتأييدهم من الفوز في سباق الخلافة ضد أخيه وعمه، وهذا يعني أن الإنكشارية قد امتلكت سلطات واسعة داخل البلاط العثماني حتى أثناء صعود السلطنة وفترة قوتها في عهدها الكلاسيكي. وعليه فقد كانت عودة مراد الثاني إلى العرش بعد تقاعده حتميةً لا بسبب قلة خبرة ابنه المراهق في شؤون الحرب فحسب، بل من أجل إرضاء الإنكشارية الذين لن يقبل قادتهم باتباع طفلٍ عديم الخبرة إلى معركة مصيرية ضد حملة صليبية.[7] كما علم محمد الثاني وقت تسلمه للعرش للمرة الثانية في عام 1451 بعد إعلان وفاة أبيه، أن مغامرته الخطيرة ضد القسطنطينية التي حاصرها في عام 1453 كانت لتكون نهايته لو ارتد عن المدينة خائبًا، إذ رغم قتله لأخيه، فإن عمه أورخان المحتجز لدى القسطنطينية نفسها قد يكون خيارًا متاحًا أمام الحكومة العثمانية بديلًا له. ومما يدلل على قوة الإنكشارية وأهمية رضاها حتى عند سلطان اشتهر بكبريائه وغروره الشديدين مثل محمد الفاتح، فإنه لم يتمكن من تحقيق رغبته في إقصاء كبير وزراء والده الصدر الأعظم خليل باشا الجاندرلي، واضطر لإبقاءه في منصبه، ولم يتمكن من إعدامه إلا بعد فتح القسطنطينية.

استمر الإنكشارية بالتأثير في السياسة الداخلية، وعلى سبيل المثال، كان لهم فضل في وصول سليم الأول إلى العرش بعد انحيازهم إلى صالحه على الرغم من تفضيل السلطان بايزيد الثاني وصدره الأعظم للأمير أحمد للخلافة. لم يقتصر التدخل في شؤون الحكم ومؤسسة العرش على الإنكشارية فقط، وإن كان دورهم قد ظل محوريًا حتى اقتراب عهد التنظيمات وتحديث العسكرية العثمانية في القرن التاسع عشر والمجزرة التي تعرضوا لها على يد السلطان محمود الثاني فيما عرف باسم الواقعة الخيرية،[8] فقد كان هناك شخصيات هامة اكتسبت مع الوقت نفوذًا متعاظمًا داخل القصر بخلاف الصدر الأعظم، أهمهم آغا الحرملك، والذي كان يشغل في ذات الوقت منصب رئيس الطواشية (ا)لخصيان، حيث تعاون مع السلطانة الأم في تدبير مكائد البلاط في مواجهة الصدور العظماء وبقية الوزراء، وكان لهم دور في تحريض الإنكشارية على عزل السلطان أو تأييد أحد المتنافسين على الوراثة.

إضافة إلى ما سبق كان هناك دور محوري لمفتي السلطنة الذي كان يحمل لقب (شيخ الإسلام) وحاشيته من رجال الدين، والذين أعطوا الشرعية لجميع تدخلات الإنكشارية في سياسات نقل السلطة، ومنحوهم وقتما احتاجوا الفتاوى اللازمة لتبرير عزل السلطان أو قتله، وكان لهم دور في على سبيل المثال في عزل كل من السلطان إبراهيم (1648) والسلطان محمد الرابع (1687) والسلطان أحمد الثالث (1730) والسلطان سليم الثالث (1807)، وتشهد حادثة عزل السلطان إبراهيم على سطوة رأي شيخ الإسلام وعلماء الدين، حيث لم يكتفوا بعزله وأصدروا فتوى تبيح قتله حتى لا يتمكن من الهرب وإحداث فتنة داخل السلطنة، وعندما ذهب الجلادون إلى محل إقامة السلطان المعزول صرخ في وجوههم في محاولة يائسة للنجاة، فحمل نسخة من المصحف وقال "هذا كتاب الله فبأي آية فيه ستقتلونني؟" وقد تسبب هتافه في تردد الجلادين للحظة، وهو تردد زال فورًا بعد إصرار شيخ الإسلام على تنفيذ حكم الإعدام على الفور.

حروب أهلية

السلطان محمد تشلبي الأول

لم تتوقف نزاعات الخلافة داخل الدولة العثمانية عند حدود البلاط فحسب، فقد حدث وأن تطور الخلاف بين الأمراء إلى نزاعات دموية، كان أولها وأطولها وأعنفها الحرب الأهلية العثمانية المعروفة باسم "دور أو عهد الفترة" (Fetret Devri بالتركية)،[9] والتي بدأت بسبب الهزيمة القاسية التي لاقاها السلطان بايزيد الأول في معركة أنقرة في عام 1402 على يد سلطان تركمنستان الشرقية تيمور لنك بعد اجتياحه للأناضول، وعلى الرغم من أن "عهد الفترة" لم يكن النزاع المسلح الوحيد الذي اندلع بين المطالبين بالعرش خلال تاريخ السلطنة، إلا أنه الأكثر أهمية، فقد ترافق مع وضع حرجٍ جدًا من تاريخها، ويمكن اعتباره استعراضًا مفصلًا لمدى تأثير السياسة الدولية والإقليمية على الوضع داخلها، وكيفية استغلال المتنافسين على العرش لهذا الوضع في سبيل دعم ادعائاتهم بالحق في العرش.

انقسم ما تبقى من أملاك العثمانية بعد معركة أنقرة إلى ثلاثة إمارات تحت حكم ثلاثة من أبناء بايزيد هربوا من ميدان المعركة، فحكم الشاهزادة سليمان في روملي[10] وأستقر في إدرنة، واقتسم محمد تشلبي وعيسى تشلبي ما تبقى من أراضي السلطنة في الأناضول، فكون محمد إمارة في الشمال تمركزت حول أماسيا فيما سيطر عيسى على العاصمة في بورصة، وقد بقي اثنين من أبناء بايزيد، هم موسى ومصطفى، أسرى لدى تيمور.

لم يؤسس تيمور لوضعٍ دائمٍ في الأناضول بعد انتصاره في أنقرة، وحتى بعد إنهاكه لقوى السلطنة العثمانية وتفكيك أراضيها، فإن الوضع الإقليمي منح لجميع القوى في المنطقة فرصًا متساوية لتحقيق مآربها، لقد قام تيمور بدايةً بإعادة تشكيل الإمارات الأناضولية التي فُككت خلال العقود الماضية على يد العثمانيين، وأهمها إمارة قرة مان، لكنها ظلت رغم ذلك في حالة من الضعف، كما أن الأراضي التي ظلت في حوزة أبناء بايزيد قد استمرت على ولائها للأمراء العثمانيين بفضل نظام الإقطاع العسكري (التيمار) والذي كان وجوده مرتبطًا بالشرعية السياسية التي منحها الأمراء العثمانيون أنفسهم لأصحاب الأراضي والمستفيدين من عائداتها، والتي كانوا سيفقدونها فيما إذا ظل هذا النطاق الجغرافي في حالة من الفراغ السياسي بانتظار من يملأه، وبالنسبة للنطاقات العثمانية الثلاثة بعد أنقرة (1402) فإن اقتسام الأرض بين ورثة السلطان لم يكن أمرًا خارجًا عن المألوف في التاريخ التركماني.

وفي الواقع، لم يكن في المنطقة من يقدر على ملأ الفراغ الذي تركه تفكيك السلطنة العثمانية، حتى تيمور وسلطنته الضخمة، فقد كان الأناضول بعيدًا جدًا عن مركزها في سمرقند، وقواها الرئيسية مشغولة في معارك أخرى في شرق آسيا، ولذا فقد حاول تيمور أن ينتهج سياسة تضمن بقاء الأناضول في حالة من الصراع الدائم، بحيث تشكل كل قوة إقليمية داخله ضاغطًا معاكسًا لتوسع القوى الأخرى، فقَبِل تفكيك النطاق العثماني بين إمارتين أناضوليتين وإمارة بلقانية، وحاول أن يمنح للإمارات التركمانية المعاد تشكيلها الفرصة لفرض ضغط مستمر على محاولات التوسع العثماني المتوقعة، فمنح قرة مان أراضٍ أوسع من أراضيها السابقة، وأعطى لجيرميان الوصاية على موسى تشلبي ابن بايزيد الأسير لديه ليستفيدوا منه في تغذية أي صراع على إرث والده، فيما أرسل الآخر مصطفى إلى سمرقند احتياطًا للسبب ذاته.

ظهر الصراع بين أبناء بايزيد في ظل الوضع القائم حتميًا طالما لم يتمكنوا من صياغة توافقٍ كافٍ بينهم على توحيد أراضيهم وتسمية سلطانٍ واحد من بينهم، وقد أدركوا كذلك أن وصول أي منهم إلى العرش سيعني تهديدًا مباشرًا لحياة الآخرين. من المثير أن الثلاثة قد قرروا عدم استحقاقٍ أيٍّ منهم للقب السلطنة ما دام بايزيد لا يزال على قد الحياة، حتى وإن كان في الأسر، وبناء على ذلك لقَّب سليمان نفسه بلقب (أمير) في روملي، فيما لم يسمي عيسى نفسه سلطانًا على الرغم من جلوسه على العرش في عاصمة السلطنة في بورصة.

لقد قرر الإخوة الثلاثة الاستفادة من الوضع الإقليمي كما أعاد خلقه تيمور في صراعهم الخاص على التحكم والسيطرة، فأبرم محمد تشلبي اتفاقًا مع إمارة جيرميان، وتحالف كلاهما على قتال عيسى في بورصة، وقد اندلع الصراع فور وصول خبر وفاة بايزيد في سجنه، ونجح محمد وجيرميان فعلًا في طرد عيسى وقتله بعد سلسلة من المعارك استمرت حتى أيلول 1403، ودخل محمد تشلبي بورصة ودفن والده وقبل البيعة سلطانًا عثمانيًا وأقنع جيرميان بإطلاق سراح أخيه الأصغر موسى وضمه إلى بلاطه، وفي الروملي تحالف الأمير سليمان مع الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني، وسلمه طبقًا للاتفاق كلًا من أخيه قاسم تشلبي وأخته فاطمة خاتون رهائن مقابل الدعم الديبلوماسي والحصول على حق الملاحة في بحر مرمرة، وقد عبر سليمان إلى الأناضول في عام 1404 وطرد محمد تشلبي من بورصة وأعاده للتقوقع مرة أخرى في أماسيا، استمر سليمان بالضغط على محمد حتى 1409 على الأقل، حيث أقنع موسى أخاه الكبير محمد على إرساله إلى البلقان بمعاونة أمير إسفنديار الذي يسيطر على ميناء سينوب على البحر الأسود، وانتقل موسى بالفعل مع قوة عسكرية صغيرة إلى البلقان عبر البحر وعقد تحالفًا مع ميرتشا أمير والاكيا الذي قبل تابعًا للسلطنة العثمانية وخاضعًا لسلطتها الاسمية في عهد بايزيد، وأغار عيسى على أراضي سليمان في الروملي وأجبره على التراجع إلى البلقان لقتاله، ورغم تقدم المؤقت على موسى، إلا أن الأخير تمكن من دخول أدرنة وأقنع جيش سليمان ذاته بالانشقاق عنه والالتحاق به، وهزم سليمان وقام بإعدامه.

كان صعود سليمان خلال السنوات الخمس الماضية (1405 – 1410) قد أثار تخوفًا لدى القوى الإقليمية بسبب تمكنه من توحيد بورصة وروملي مرة أخرى، وقد عنى ذلك تحكمًا عثمانيًا متزايدًا في ملاحة بحر مرمرة، خاصة مع دعمه من قِبل بيزنطة، دفع ذلك إسفنديار للتحالف مع محمد وموسى فيما نبه الجمهوريات الإيطالية اللاتينية إلى أهمية دعم محمد في مواجهة سليمان وبيزنطة من أجل ضمان سلاسة تجارتهم في البحر الأسود، وترد بعض الأخبار عن محاولة البندقية الاتصال بمحمد في عام 1409 تقريبًا. لم يدم تحالف موسى ومحمد كثيرًا بعد سيطرة الأول على أدرنة، وقد هاجم موسى القسطنطينية وفرض عليها الحصار، وهو ما دفع مانويل الثاني للاستعانة بمحمد لدفع خطر أخيه الصغير. وبذلك، عادت السياسة الإقليمية لتلعب دورًا محوريًا في الصراع العثماني الداخلي. وكما استعان محمد، إلى جانب بيزنطة، بالإمارة الصربية Serbian Despotate تحت زعامة ستيفان لازاريفتش، الذي رأى في تنامي قوة موسى خطرًا على نطاق نفوذه، فاشترك مع محمد في قتال موسى الذي انتهى في عام 1413 بعد انتصارهما في معركة تشامورلو، والتي أرخت لنهاية الحرب الأهلية وإعلان محمد سلطانًا عثمانيًا بلا منازع.

لكن لم يستمر الحال لوقتٍ طويل، فقد خرج مصطفى، الابن الخامس من أبناء بايزيد، من سمرقند بدعمٍ من شاه روخ وريث تيمور وبحث عن ملجأ له في روملي، وقد تلقى دعمًا من بيزنطة ووالاكيا وإمارة آيدن التركمانية في الأناضول، وخاب مسعاه بعد هزيمة ساحقة من السلطان محمد تشلبي، حيث اضطر للهرب عقبها في عام 1416 إلى سالونيك اليونانية (تحت سيادة بيزنطة). لقد عُرف مصطفى وقتها في بورصة بلقب مصطفى "الزائف" (بالتركية Düzme)، وقد بنى أخوه محمد دعايته ضده باعتباره مدعيًا لا يملك نسبًا للعائلة العثمانية، وأن مصطفى الحقيقي قد مات بعد اختطافه وإرساله إلى سمرقند حيث انقطعت أخباره لمدة زادة عن ثلاث عشرة سنة، وبالتالي فهو لا يملك حقًا للمطالبة بالعرش. لم تكفِ دعاية محمد وحدها لإنهاء خطر مصطفى، وقد ظهر في سلوكه لاحقًا إدراكه لحقيقة الخطر الذي قد يشكله حتى لو كان مجرد مدعٍ لا غير، لقد اتفق محمد مع مانويل الثاني على نفيه إلى جزيرة ليمنوس، وفي آخر أيامه توصل محمد إلى اتفاق مع البيزنطيين يضمن استمرارهم في تقييد حركة مصطفى في مقابل إرسال اثنين من أبنائه رهائن إلى بلاط بيزنطة، وعندما رفض مراد الثاني بعد خلافته لمحمد تنفيذ هذا الشرط، أطلق مانويل الثاني مصطفى وعاد ليجمع الأتباع مرة أخرى ويثور على ابن أخيه مطالبًا بالعرش، وقد انتهى مسعاه مرة أخرى إلى الفشل.

لربما كان "عهد الفترة" نتاجًا لوضعٍ استثنائي لم يحدث وأن تكرر مرة أخرى في التاريخ العثماني، إلا أنه وبدون شك لم يكن النزاع الأهلي الوحيد. حيث أنتجت بعض سياسات الحكم التي توارثتها السلطنة العثمانية عن السلاجقة مزيدًا من النزاعات، كان أهمها تعيين السلاطين لأبنائهم ولاة محليين في سن مبكرة لا تتجاوز الثانية عشرة، بهدف تعليمهم أساليب الإدارة والحكم، وعادة ما كان يصحبهم جزء من حاشية القصر يضم مربين ومعلمين يختارهم السلطان بعناية، وقد حاول بعض السلاطين تحريك أبنائهم من لواء إلى آخر باستمرار لمنع تكوينهم لقواعد ثابتة تتيح لهم تنمية قوة محلية تتمكن لاحقًا من منافسة السلطان نفسه على العرش، بيد أن ذلك لم يمنع بعضهم من الاستفادة من المواقع الممنوحة لهم لتشكيل حكومات محلية مدعومة بجيوشٍ قوية استخدموها بالفعل في التمرد على آبائهم أو حسم صراع العرش عند وفاتهم، كما أنهم تمكنوا بسبب الموارد التي امتلكوها من تثبيت نفوذهم داخل الحكومة وامتلاك أعينٍ وآذانٍ وحتى أيادٍ تتحرك داخل العاصمة لصالحهم حتى لو خالف ذلك رغبات السلاطين أنفسهم. وقد كان من عادة السلاطين أن يعلنوا بشكلٍ غير مباشرٍ عن تفضيلاتهم الشخصية لخلافائهم ضمن الأمراء المتنافسين عن طريق الإيالات والألوية التي يختارونهم لحكمها، وكلما كانت اللواء أقرب إلى العاصمة، كلما زادت فرصة الأمير في الاطلاع على خبر وفاة السلطان والوصول إلى العاصمة للمطالبة بعرشه قبل منافسيه، وفي أحيانٍ أخرى، قام السلطان الجالس بتعيين أحد أبناءه وليًا للعهد بشكلٍ صريح، إلا أن التاريخ يثبت أن أيًا من هذه الإجراءات لم يكن ضامنًا لانتقالٍ سلسٍ للسلطة بدون خطر الفتنة الداخلية بين الأمراء، كما أنه لم يمنع سفك الدماء داخل العائلة كذلك.

لقد منح محمد الفاتح لابنه الأصغر الأمير جم سلطان أفضلية بتعيينه واليًا على قونية الأقرب إلى إسطنبول مقارنة بأماسيا التي حكمها الابن الآخر بايزيد، وعلى الرغم من تدخل الوزير محمد باشا قرماني ومحاولته إخفاء سر وفاة محمد الفاتح وتأجيل دفنه لثلاثة أيام حتى يتسنى لجم سلطان الوصول إلى العاصمة أولًا، إلا أن حاشية القصر التي كانت في معظمها قد حسمت أمر دعمها لبايزيد، بما فيها والدته السلطانة جلبهار خاتون والصدر الأعظم السابق غديك أحمد باشا، بالإضافة إلى كبار ضباط الإنكشارية، قد أفشلت مخططه. وقد اندلعت الحرب بين بايزيد وبين جم سلطان الذي حاول بعد هربه من القسطنطينية أن ينصب نفسه سلطانًا في بورصة ويقسم السلطنة بينه وبين أخيه بايزيد في البلقان، إلى أن حسم بايزيد الأمر في معركة يني شهير التي حطم فيها جم سلطان وأجبره على الهرب خارج البلاد.

اجتهد بايزيد الثاني لاحقًا لمنع اندلاع مثل هذا الصراع بين أولاده، وكان من أوائل السلاطين الذين حاولوا تعيين ولي للعهد، وقد أقر فعلًا ابنه الأمير أحمد على خلاف العادة المتبعة في السلطنة، لكن السلطان سليم الأول أشعل تمردًا مسلحًا ضد بايزيد الثاني في عام1511، وقد تمكن سليم من جمع جيش قوامه ثلاثون ألف جندي لقتال والده الذي تمكن من هزيمته، وكانت أول مرة ينجح فيها أمير عثماني في الثورة ضد أبيه بجيش من تجهيزه وبدون معاونة من أي قوة إقليمية. وعلى الرغم من فشل سليم الأول في حربه ضد بايزيد الثاني، إلا أن الإنكشارية قد حسمت الأمر بسبب رفضها لحكم أحمد الذي رأت فيه سلطانًا ضعيفًا، وسعت لعزله ومنح العرش لسليم، وقد حاول الأمير مصطفى (1553) والأمير بايزيد (1561) التمرد على والدهم سليمان القانوني الذي تمكن من التصدي لهما وإعدامها.

خاتمة

ظل الأمراء العثمانيون على اختلافهم مرشحين محتملين لشغل كرسي السلطنة، واتسمت سياسات انتقال السلطة بالحركية الدائمة، والتأثر بالعديد من العوامل الداخلية والخارجية، سواء كانت قدرة الأمراء على حسم الصراعات المكشوفة بينهم، أو قدرة القوى الإقليمية على دعم المرشحين المختلفين للخلافة، وكذلك قدرة الأطراف المختلفة داخل البلاط العثماني على حسم الصراع لصالح الحفاظ على شبكات السلطة والنفوذ، إلا أن الأمر الثابت طيلة القسم الأكبر من عمر السلطنة كان تمحورها حول عثمان غازي وسلالته فقط، فهم رأس هرمها الدائم وأساس ثابت لشرعيتها، وقد أظهرت جميع مكونات الحكومة العثمانية قناعة تامة أن دولتهم لم تكن لتقوم لها قائمة بدونهم، وقد ظهر هذا حتى في سلوك السلاطين العثمانيين وقتما كانوا ينفذون مجازر الحرملك الرهيبة بعد كل تنصيب جديد، إذ حافظوا على وجود فرد واحدٍ على الأقل من العائلة العثمانية على قيد الحياة ليكون مؤهلًا للحكم وقت الحاجة،[11] وبأي حال، فقد كانت أهمية بني عثمان للدولة عاملًا أساسًا في تمكين السلالة من الاستمرار طيلة ستة قرون، على الرغم من كل الصعوبات والتحديات التي واجهتها.


[1] يصح العدد هنا إذا ما استثنينا أبناء بايزيد الأول ما عدا السلطان محمد تشلبي بن بايزيد، والذين حكموا في أجزاء مختلفة من السلطنة بعد تفككها المؤقت، والخليفة الأخير عبد المجيد الثاني الذي شهد عهده قيام الجمهورية التركية.

[2] الشامانية هي ديانة تركمانية قديمة انتشرت في وسط آسيا وامتلكت رغم اندثارها تأثيرًا على تقاليد الحكم في التاريخ المتأخر للسلطنات التركمانية التي نشأت في العهود الإسلامية (خلال العهد العباسي وما بعده).

[3] وهو ما حدث بين أبناء جنكيز خان على سبيل المثال، كما كانت الطريقة التي تأسست بواسطتها سلطنة سلاجقة الروم.

[4] ذات المنصب الذي أصبح يُسمى شاغله لاحقًا (الصدر الأعظم) وهو ثاني أقوى رجل في السلطنة بعد السلطان نفسه ويحمل قدرًا واسعًا من صلاحياته.

[5] كان مراد الثاني أبو محمد الثاني قد اعتزل السلطنة وولى ابنه على العرش بعد أن بلغ من العمر اثنتي عشر سنة فحسب، وقد شجع ذلك بولندا والمجر على كسر معاهدة سلامهم مع العثمانيين والتجهز لغزو أراضيها في البلقان، وقد أقنع الصدر الأعظم جاندرلي خليل باشا مراد الثاني بالعودة مرة أخرى إلى العرش وعزل ابنه الطفل الذي كان أضعف من أن يتصدى لخطر البولنديين.

[6] الفرسان التقليديون الذين كانوا يشكلون أساس العسكرية العثمانية والتركمانية قبل تأسيس الإنكشارية.

[7] المقصود هنا هو حملة فلاديسلاف الثالث ملك المجر وكرواتيا (وملك بولندا المنتخب منذ 1434) التي هُزمت ضد العثمانيين في معركة فارنا في عام 1444.

[8] الواقعة الخيرية (بالتركية Vaka-i Hayriye) هي ثورة اندلعت في إسطنبول في 14 و 15 حزيران عام 1826 عقب علم الإنكشارية بنية السلطان محمود الثاني بتسريح الإنكشارية وتحديث الجيش على النظم الأوروبية مع اعتماده على قيادة تركية، وقد تصدت لها وحدات فرسان السباهية بدعم من أهالي العاصمة الذين أجبروا الإنكشارية على الرجوع لثكناتهم حيث تعرضوا لقصف مدفعي داخلها سقط منهم خلاله عدد كبير من القتلى، وقد تبعها إعدام وسجن ونفس الآلاف من عناصر الإنكشارية وكبار قادتها.

[9] أُطلق على هذا العهد اسم (فاصلة سلطنات Fasila-I Saltanat) في الأدبيات العثمانية، وتعني الفترة الفاصلة بين سلطنتين، أما مصطلح "دور الفترة" فقد ظهر في منتصف القرن العشرين في أدبيات تركية أكاديمية وكان بديلًا للمصطلح Ottoman Interregnum (فترة خلو العرش العثماني) الذي استخدمه لأول مرة – في القرن التاسع عشر – المؤرخ النمساوي جوزف فون هامر-بورجستال Josef von Hammer-Purgstall لوصف الحرب الأهلية العثمانية التي استمرت لأحد عشر عامٍ 1402 – 1413 وانتهت بانتصار وتنصيب محمد تشلبي الأول سلطانًا أوحد على الدولة، وتحمل كلمة "فترة" في التركية دلالة دينية، حيث تستخدم أحيانًا لوصف الفترة الواقعة بين بعث نبيين أو نزول رسالتين سماويتين. يرى ديميترس كاستريتسس Dimitris Kastritsis من جامعة أندروز في دراسة حديثة (2007) أن اختيار تسمية (فترة خلو العرش) أو (دور الفترة) لم يكن دقيقًا ولا يعكس حقيقة ما مارسه أبناء بايزيد من سياسات متماسكة إقليميًا ودوليًا في سبيل توطيد سلطاتهم في أماكن حكمهم وتعزيز مطالباتهم بالعرش الموحد للسلطنة العثمانية.

[10] المسمى التركي العثماني لأراضي السلطنة في البلقان، وقد شملت في وقت سليمان كلا من: تراقيا، بلغاريا، مقدونيا وشمال اليونان. راجع: Kastritsis: The Sons of Bayezid, P XI.

[11] على سبيل المثال، قتل مراد الرابع ثلاثة من إخوته الصغاربعد تولي العرش وأبقى على حياة الأخ الرابع إبراهيم حيث لم يكن لمراد أية أبناء، وقد ورث إبراهيم العرش عن مراد بالفعل في عام 1640.