الاكتئاب الموسمي: معلومات أساسية



تعريف:

الاكتئاب الموسمي Seasonal Depression أو الاضطراب العاطفي الموسمي Seasonal Affective Disorder SAD أعراض حادة للاكتئاب المرضي التقليدي مرتبطة بمواسم وفصول معينة خلال السنة، ترتبط مواعيد نوباتها بحلول نهاية فصل الخريف وبداية فصل الشتاء عند الغالبية العظمى من المصابين بالمرض فيما يندر ظهورها خلال نهاية الربيع وبداية الصيف.

يتميز الاكتئاب الموسمي بالأعراض التالية:

1- رزوح تحت سيطرة شعور عام بالحزن والكآبة يتواصل باستمرار طيلة أيام "موسم" الاكتئاب
2- إحساس مستمر بالقتامة والشعور بانعدام الأمل في المستقبل
3- فقدان الاهتمام بالنشاطات الجالبة للمتعة في الوضع الطبيعي
4- اضطرابات عامة في مستوى الحيوية
5- اضطرابات في النمط الطبيعي للنوم
6- اضطرابات في النمط المعتاد للشهية
7- صعوبة في التركيز

ويمكن أن يُصاب المريض بالاكتئاب الموسمي بتعقيدات في الحالة الصحية قد تشمل:
8- انطواء اجتماعي حاد
9- صعوبات خلال العمل والدراسة
10- الاتجاه نحو إدمان المواد المخدرة
11- رغبة بالانتحار

بعض الأعراض تختلف وتتباين لدى المصابين بالاكتئاب الموسمي الشتوي (أي الذي تبدأ أعراضه بالظهور خلال الخريف والشتاء) والاكتئاب الصيفي (الذي تبدأ أعراضه بالظهور خلال الربيع والصيف)، في حالة الاكتئاب الشتوي يمكن أن يُصاب المريض بالأعراض التالية:
1- اضطرابات النوم: زيادة في عدد ساعات النوم اليومية مع خمول عام ونعاس شبه دائم
2- تغير في الشهية: انفتاح الشهية وشعور دائم بالاحتياج للنشويات والسكريات، ينتج عنها زيادة سريعة وملحوظة في الوزن

وفي حالة الاكتئاب الصيفي يمكن أن يُصاب المريض بالأعراض التالية:
1- اضطرابات النوم: قلة في عدد ساعات النوم مع أرق وقلق متواصلين وشعور عام بالعصبية
2- تغير في الشهية: فقدان الشهية ينتج عنه نقص في الوزن

بعض الأعراض تصنف بوصفها (جرس إنذار) وفي حال لاحظها المصاب أو المحتمل إصابته بالاكتئاب الموسمي أو أي من دائرة الأشخاص المحيطة به فيتوجب عليه/م فوراً البحث عن مساعدة عبر طبيب نفسي مختص، وقد تختلف حدة الأعراض من مريض لآخر لكن بعض الأعراض المذكورة قبل قليل تكون ظاهرة للعيان وبأقل مجهود من الملاحظة، وأهمها التغيرات في أنماط النوم الطبيعي والشهية والرغبة في الانطواء بعد فقدان الاهتمام بالعادات [الجالبة للمتعة] والتي كان يمارسها المريض بشكل معتاد سابقاً، بالإضافة إلى بدء استخدامه للأدوية المخدرة أو ازدياد استهلاكه للكحول عن المعدل الطبيعي، ويُعتبر أهم وأخطر الأعراض هو التفكير في الانتحار والذي قد يترجمه المريض لمحاولات فعلية لقتل النفس.

يمكن الخلط أحياناً بين الاكتئاب الموسمي وأعراض الاكتئاب المرضي التقليدي، بسبب تشابه أعراض كلا المرضين، وفي كلتا الحالتين يتوجب على من تظهر عليه هذه الأعراض البحث عن المساعدة بشكل عاجل لمنع تفاقم الحالة، فالطبيب النفسي هو الأكثر تأهيلاً لتحديد المشكلة بدقة والبحث عن علاج لها.

يؤثر الاكتئاب الموسمي بشكل كبير على المرضى المصابين بالاضطراب ثنائي القطب Bipolar Disorder أكثر من غيرهم وقد يؤدي لتفاقم أعراض المرض الأصلي، ويسبب نوبات من الهوس Mania أو الهوس الخفيف Hypomania في حال كان الاكتئاب صيفياً، ويفاقم من أعراض الاكتئاب ويزيدها حدة في حال كان الاكتئاب شتوياً.

أسباب الإصابة بالاكتئاب الموسمي:

مثل أي مرض أو اضطراب نفسي آخر، تظل أسباب الاكتئاب الموسمي لحد الآن غير واضحة بشكل حاسم للباحثين والأطباء، وُضعت بعض الفرضيات إضافة إلى  نظريات أخرى معتمدة على دراسات سريرية عن بعض الأسباب التي يمكن أن تشرح الاكتئاب الموسمي أو الاكتئاب بشكل عام، وهي عموماً اضطرابات مرتبطة أساساً بتغيرات في الفيسيولوجيا الطبيعية للجسم والدماغ بشكل خاص، بالنسبة للاكتئاب الموسمي، فإن جميع التفسيرات تتمحور حول اضطرابات الساعة البيولوجية الطبيعية مع دخول فصل الشتاء ونقص تعرض الجسم لكميات كافية من أشعة الشمس وهو الذي يؤدي لاضطرابات في مستوى بعض الهرمونات المسؤولة عن الحالة النفسية

وبناء علي ذلك يمكن إرجاع الاكتئاب الموسمي للأسباب التالية:
1- انخفاض في مستوى السيروتونين (ناقل عصبي دماغي يُربط بينه وبين أعراض الاكتئاب والحالة النفسية)
2- زيادة مستوى الميلاتونين (هرمون يُفرز من الغدة الصنوبرية في الدماغ، يتحكم في إيقاعات النوم والحيوية الطبيعية للجسم)
3- نقص فيتامين د (أظهرت الأبحاث مؤخراً ارتباط فيت. د بالحالة النفسية، يستلزم "تنشيط" هذا الفيتامين للتحول إلى صورته النشطة (فيتامين د3) تعرض الجسم لكمية كافية من أشعة الشمس).

وقد ارتبط الاكتئاب الموسمي إحصائياً بالنساء والشباب اليافعين صغار السن كما تكثر الإصابة به في التجمعات السكانية الأبعد جغرافيا عن خط الاستواء، حيث يبدأ الشتاء مبكراً ويتعرض السكان في تلك المناطق لكمية أقل من غيرهم من سكان الأرض لأشعة الشمس، كما أن إصابة أحد أفراد العائلة بالاكتئاب، الموسمي أو التقليدي، تزيد من فرص التعرض لنوبات الاكتئاب الموسمي كذلك.

تشخيص الاكتئاب الموسمي ووسائله:



يظل التشخيص الحاسم للاكتئاب الموسمي أمراً صعباً وتكمن صعوبته في الخلط بينه وبين الاكتئاب المرضي التقليدي، كما يجب التنبيه إلى ضرورة التوجه فوراً للأخصائي النفسي في حالة الإصابة بأي من الأعراض سابقة الذكر، قد تشمل محاولة التشخيص فحصاً عاماً للجسم وقد يجري الطبيب مع المريض المحتمل حوارًا معمقاً حول عاداته وسلوكياته اليومية والأسباب التي دفعته لزيارته، وقد تتمحور الأسئلة الموجهة للمريض حول مزاجه العام، أنماط نومه، تغيرات سلوكية عانى منها خلال الفترة الماضية، بالإضافة إلى التعرف على تاريخ انتشار الاكتئاب في عائلة المريض. 

قد يطلب الطبيب من المريض إجراء بعض الفحوصات، مثل فحص الدم الكامل CBC للتأكد من خلو الجسم من أي التهابات ولاستبعاد احتمالية إصابة المريض بفقر الدم الذي قد ينتج ضعفاً وشعوراً عاماً بالهزال، كما سيتأكد الطبيب من مستويات هرمونات الغدة الدرقية للتأكد من سلامة نشاط عمليات الأيض الطبيعية ومن مستويات فيتامين د في الدم.

في الواقع، فإن التشخيص النهائي والحاسم للاكتئاب الموسمي لا يمكن إنجازه إلا بعد التأكد من عاملين مهمين يميزان الحالة المرضية للمصاب بالمرض، الأول هو تكرار الإصابة بالحالة في نفس الموعد كل سنة، والثاني هو اختفاء الأعراض تلقائياً بعد انتهاء الموسم الذي بدأت في بدايته الأعراض بالظهور.

وسائل العلاج:




1- الصندوق الضوئي Light Box: 
صندوق يحتوي على مصدر للضوء الأبيض قادر على توليد ضوء بشدة تصل إلى 10 آلاف شمعة عيارية Lux ، يعرض المريض نفسه للضوء بالجلوس بشكل مباشر أمام الصندوق مواجهاً له بأعين مفتوحة (بدون النظر إليه بشكل مباشر) على مسافة ما بين 40 سم إلى 60 سم لمدة تتراوح ما بين 20 إلى 30 دقيقة كل يوم خلال الساعة الأولى من الاستيقاظ من النوم، يهدف هذا العلاج إلى تعويض المريض عن أشعة الشمس المفقودة خلال الشتاء. يُشترط بالصناديق الضوئية أن تُفلتر الكم الأكبر من الأشعة فوق البنفسجية الضارة المرافقة للضوء لمنع حدوث أي أضرار في الجلد والعين.

2- الأدوية:
يمكن استخدام مضادات الاكتئاب لعلاج الاكتئاب الموسمي، ويمكن في الحالات الحادة المشخصة مسبقاً استخدام مضادات الاكتئاب بشكل احترازي قبل قدوم الموعد المعتاد لبدء نوبات الاكتئاب الموسمي، ويقوم الطبيب بتحديد الدواء الأفضل والأنسب لكل حالة، علماً بأن غالبية الادوية المستخدمة في علاج الاكتئاب تستغرق وقتاً يمتد ما بين أسبوعين إلى ستة أسابيع حتى بدء ظهور الاستجابة للعلاج.

3- العلاج النفسي تحت إشراف الأخصائي.


يتحسن الوضع العام لمريض الاكتئاب الموسمي بالعلاج والمتابعة المستمرة، لكن بالرغم من ذلك تظل خيارات العلاج المطروحة أعلاه، غير متوفرة لجميع المرضى وخصوصاً بسبب العامل المادي، ويظل العامل الأهم في مساعدة المصاب بالإكتئاب الموسمي هو دائرة الأشخاص المحيطة به وتقديمها للدعم النفسي والاجتماعي المستمر للمصاب وحصول هذه الدائرة على المعرفة الأساسية حول المرض مهم بشكل يوازي أهمية معرفة المريض المحتمل نفسه بها.

يتوجب على هذه الدائرة منع المريض من الإنزلاق نحو الانطواء اجتماعياً وإحاطته بالكم الكافي من الرعاية والحرص على إجراءه الحد الأدنى من الإتصال بمحيطه لمنعه من الإنشغال بما قد يسيطر على تفكيره من أفكار قاتمة، ومن الضروري كذلك أن تساعد المريض على تغيير روتينه اليومي خلال فترة الشتاء، من الضروري على المريض أن يحرص على مراقبة طعامه ويضع برنامجاً خاصاً للحصول على الحد الكافي من السعرات الحرارية خلال اليوم دون الانجرار نحو مراكمة الدهون والنشويات في جسده، قد يكون تغيير الروتين اليومي وسيلة فعالة لمحاربة العزلة والانطواء، وذلك باستغلال الإجازات للقيام برحلات خارج المحيط المعتاد، أو استخدام طرق وشوارع مختلفة للوصول إلى أماكن ممارسة النشاط اليومي كالعمل أو الجامعة، يمكن أيضاً ممارسة الرياضة البسيطة كالمشي أو الركض، كما قد يحسن من المزاج تغيير نوعية الطعام والاعتماد على أطعمة غنية بالفيتامين د مثل الأسماك والحمضيات والألبان والبيض وتناول كمية كافية من المشروبات الطبيعية التي قد تساعد في تحسين المزاج كالينسون والقرفة والشاي الأخضر. ومن المهم أيضاً محاولة ضبط مواعيد النوم، بحيث يحصل الجسم على كفايته من عدد الساعات خلال الليل (6-8 ساعات) وقد يساهم في ذلك التوقف عن السهر والنوم المتأخر والاستيقاظ باكراً لممارسة الرياضة قد البدء بالنشاطات اليومية المعتادة.

تظل المهمة الأساسية لدى المصاب بالاكتئاب والدائرة المحيطة به هي منعه من الانزلاق نحو العزلة والانطواء، ويجب مساعدته على الاقتناع بأن تغيراته السلوكية تعني وجود مشكلة نفسية واضطراب يحتاج إلى تدخل عاجل لحله ولمنع تفاقمه، ومساعدته على تجاوز أي خجل أو توتر تجاه طلب المساعدة من الأخصائيين النفسيين. 

مسيرة العودة الكبرى: الخلفيّات وردود الفعل


**نشرت مجلة الآداب في 30 أيار نسخة مختصرة ومعدلة من هذا المقال، ويعيد كاتبا المقالة هنا نشره بنصه الكامل خاليًا من التعديلات**

محمود أبو ندى وأسامة حماد

تقديم

ظهرت في غزة ومنذ كانون الثاني الماضي دعواتٌ لتنفيذ "مسيرات عودة" عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث دعا ناشطون إلى انطلاق مسيرات يقودها اللاجئون الفلسطينيون من مختلف أماكن تواجدهم نحو الأراضي المحتلة وقد تزايد زخمها الإعلامي باضطراد حتى أعلنت لجنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية في غزة تبنيها للدعوة عبر مؤتمر صحفي عقدته في حاجز المنطار (كارني) في 17 آذار الماضي تحدث فيه منسقها العام خالد البطش عن تشكيل الهيئة الوطنية العليا لمسيرة العودة وكسر الحصار، تضم فصائلًا ومؤسساتٍ مدنيةٍ وعشائريةٍ ومستقلين، بدأت المسيرة في الثلاثين من آذار (بالتزامن مع ذكرى يوم الأرض)، ووصلت ذروتها في الرابع عشر من أيّار (بالتزامن مع ذكرى النكبة ونقل السفارة الأمريكية للقدس). أكدت الهيئة الوطنية العليا للمسيرة على سلميتها وعلى استنادها إلى الشرعية الدولية ممثلة بقرار الأمم المتحدة رقم 194، وكان من مهامها الحشد للمسيرة ونصب "مخيمات العودة" على بعد بعض المئات من الأمتار من السياج الفاصل على نقاط تماس موزعة على امتداده كما قامت بتنظيم نشاطات اجتماعية خلال أيامها الأولى.

ترصد هذه المقالة خلفيّات المسيرة والظروفَ التي رافقت الدعوة إليها ورد فعل الاحتلال عليها، إضافةً إلى استنتاج الأسباب الكامنة وراء تفعيل العمل الشعبي في غزة بعد سنوات طويلة من تجميده. كما ستحلل مدى استجابة الفلسطينيين في غزّة للمسيرة، وترصد تعامل المتظاهرين مع العنف الإسرائيليّ المتصاعد.

الاحتلال: بين دقّ الإسفين ورصاص القنّاصة




مع تواصل التجهيزات للمسيرة وجَّه الاحتلالُ تهديداتٍ للغزيين عبر مسؤولين في حكومته ومتحدثين باسم جيشه، وألقى منشورات على مخيّمات العودة تُحذّر من هذه المشاركة أو الاقترابِ من السياج أو القيامِ بأعمال عنفٍ ضدّه.  كما حملتْ تلك المنشوراتُ والتهديدات تحريضًا على المقاومة الفلسطينيّة في غزّة و"حُكْمِ حركة حماس"، المُتسبِّبِ الرئيسِ ــــ بحسب ادّعاء الاحتلال ــــ في ما آلت إليه الأوضاعُ السياسيّة والاقتصاديّة في غزّة اليوم.

هذا وشملت التهديداتُ شركات النقل في غزّة، إذ حذّرها الاحتلالُ من المُشاركة في نقل المتظاهرين إلى المناطق الحدوديّة. كما اخترق الاحتلال هواتفَ موظفي الشركات وأرسل عبرها رسائلَ نصيّةً تتضمّن مواعيدَ خاطئة لانطلاق الباصات إلى مخيمات العودة. ونشر من خلال عملائه في غزّة إشاعاتٍ تُرهب الغزّيين وتثنيهم عن المشاركة في المسيرة. والهدف من ذلك كله دقُّ إسفين بينهم وبين تنظيمات المقاومة.

وسعيًا إلى ترهيب المشاركين في مسيرة العودة، نَشر الاحتلالُ وحداتٍ عسكريّةً إضافيّة، إلى جانب مئة قنّاص من الوحدات الخاصّة التابعة للجيش. وبموازاة ذلك، أنشأ نقاطَ مراقبةٍ جديدة، ووضع أسلاكًا شائكةً على طول الحدود، وخصوصًا في نقاط الاشتباك المعهودة، وحصن مواقع القنّاصة بسواتر ترابية. وقد سمح الاحتلال لجنوده باستخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين، وهو ما ظهر في الجمعة الأولى من مسيرات العودة بسقوط 16 شهيدٍ و1400 جريح بسبب استخدام قنّاصة الاحتلال للرصاصَ الحيّ والمطّاطيّ، والغازَ المسيل للدموع (أحيانًا عبر رشّه من طائرات فانتو مسيَّرة). وقال المتحدث باسم وزارة الصحة أن ضمن الإصابات حالات تعرضت لإجهادٍ وتشنّجاتٍ وتقيّؤ وسعالٍ وتسارعٍ في نبضات القلب وهي أعراضٌ عززت الاعتقاد باستخدام الاحتلال لقنابل احتوت على غاز السيانيد ضد المتظاهرين.

إعادة "تفعيل" العمل الشعبي: السلاح تحت ظل الحجارة




بعد سنوات طويلة من الانقطاع، عاد العملُ الشعبيّ إلى تصدّر المواجهة مع العدوّ. فمنذ انسحابه الأحاديِّ الجانب من قطاع غزّة سنة 2005 لم تشهد غزة عملًا شعبيًا بهذا الاتساع والزخم. فمع تفكيك المستوطنات وغياب نقاط التماس المعتادة اتجه العمل المقاوم أكثر نحو العسكرة، كما أن حماس وبعد سيطرتها على غزة في 2007 ضيقت على أي نشاط شعبي في المجال العام خارج مظلتها لاعتبارات سياسية واضحة، كما أن القيود التي وضعها الاحتلال على حدوده مع القطاع، وأهمها المنطقة العازلة التي أنشأها بين الغزيين ومستوطنيه وسيَّجها بحاجز فاصل مرتبط بمنظومة مراقبة رقمية متطورة ساهمت بتقليص فرص أي احتكاك مباشر بين الغزيين وشبكة مستوطنات وكيبوتسات الاحتلال في منطقة الغلاف وفي عزل غزة عن محيطها بكل صورة ممكنة.

وكانت المقاومة قد استطاعت عقب حرب 2014 أن تكسر هيمنة الاحتلال على المنطقة العازلة ويعود الفضل في ذلك إلى استراتيجية الأنفاق الهجوميّة، التي نقلتْ جزءًا من المعركة إلى ما خلف السياج الفاصل خلال الحرب. كما رصفت المقاومة بعد الحرب، وبهدف الحفاظ على مكتسباتها الميدانية، شارعًا يربط نقاط التماس المختلفة على طول السياج الفاصل ووزعت عليه نقاط رصد ومراقبة، وهو ما أعطى الغزيين شيئًا من المرونة في استعادة زخم العمل الشعبيّ المباشر ضد الاحتلال، وظهر ذلك في مشاركة الغزيين في مظاهرات على طول السياج في هبة تشرين الثاني 2015 التي اندلعت عقب عملية تنفيذ كتائب القسام لعملية قرب مستوطنة إيتمار في نابلس.

إلّا أنّ نشاطات الغزّيين على طول الحدود خلال السنوات السابقة لم تمتلك زخمًا كالذي امتلكته مسيرة العودة الكبرى. وكانت فكرة "مسيرة العودة" ستلاقي سابقًا اعتراضًا جوهريًّا ينطلق من تخوّف منطقيّ من رد فعل الاحتلال العنيف الذي سيسعى بدون شك إلى قمع أي انتقاص واسع المجال لهيمنته على المنطقة العازلة خصوصًا وأن مهمة الجيش في تجنب خطر الفعل الشعبي واحتواءه في منطقة بالغة الأهمية أمنيًا كحدوده مع غزة أكثر حساسية ويحتاج إلى وقت أطول وجهد أمني أكبر من العمل العسكري المباشر وستظل نتائجه غير محسومة، ولذا فإن المنطقي توقع وصول القمع ضد هذا النوع من المظاهرات في غزة بالذات إلى أقصى حدوده لخفض كثافتها قدر الإمكان. وطالما أن هذا الظرف الحرج المرافق لتنفيذ فكرة مسيرة العودة لا يزال قائمًا، فمن المنطقي افتراض ربط تفعيل هذا الخيار في هذا الوقت بقرار استراتيجي للمقاومة في غزة.

في هذا الصدد لا بدّ من الحديث عن توتر الميدان في غزة مع بدء مظاهرات شهدت مشاركة محدودة وزخمًا منخفض الكثافة أوائل كانون الأول احتجاجًا على القرار الأمريكيّ بنقلِ السفارة الأمريكيّة من مستوطنة تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة، في نفس الوقت الذي زادت فيه فرق الهندسة التابعة لجيش الاحتلال من وتيرةُ الكشف عن أنفاق المقاومة حيث كشفت عن أربعة أنفاق خلال العام الجاري فقط، أحدُها كان يصل قطاعَ غزّة بمصر عبر حاجز كرم أبو سالم. وقد ردَّت المقاومة ففجّرتْ في منتصف شباط الماضي عُبوةً ناسفةً على السياج الفاصل زُرعت أثناء مظاهرات الجمعة الأسبوعية. إضافة إلى اختراق بعض الشبّان في منتصف آذار للسياج الحدودي وإحراقهم لإحدى الحفّارات وبعض المعدات التي يستخدمها الاحتلالُ في الكشف عن الأنفاق، كما نظمت المقاومة مناورات عسكرية دفاعية واسعة المجال لأول مرة في غزة قبل موعد المسيرة بعدة أيام انتهت إلى كشف عيب خطير بمنظومة القبة الحديدية.

أمّا سياسيًا ففشلت شهورٌ طويلة من محادثات المصالحة بين حماس وفتح، وانهارت عقب التفجير الذي استهدف موكبًا تابعًا لحكومة السلطة ضمّ كلا من رئيسَ الوزراء (رامي الحمدالله) ومديرَ المخابرات (ماجد فرج) أثناء زيارتهما لغزّة، وقد تبادلت حماس وفتح المسؤولية عن تدبير الاستهداف.

كما أن الظرف الإنساني في غزّة وصل إلى مرحلة بالغة الخطورة. فالقطاع يعيش تبعات حصار وحروب متواصلة منذ أحد عشر عامًا ويعاني تدهورًا في القطاع الاقتصاديّ، وفي البنية التحتيّة، وفي الوضع البيئيّ وارتفاع نسب التلوث، وما لذلك من تأثير على الزراعة، المرتبطة أساسًا في جانب منها بالاقتصاد الصهيوني ومتطلبات السوق الصهيوني من المحاصيل الغزية، والتي تُزرع دون الأخذ بالاعتبار تأثيرها على مخزون المياه الجوفية، إضافة إلى التأثير السلبي للوضع البيئي على الثروة السمكيّة  بسبب تصريف مياه الصرف الصحي غير المعالجة في البحر، وانعكاس كل ذلك على صحة الغزّيين، فبحسب تقارير أمميّة فإنّ عدد مرضى السرطان في غزَّة بلغ ارتفاعًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، وكانت هذه التقارير قد حذّرتْ من تحوّل القطاع إلى مكانٍ غير صالح لحياة البشر بحلول العام 2020.

هذا وكان للعقوبات التي اتخذتها سلطةُ أوسلو دورٌ كبيرٌ في تشديد وطأة الحصار على الغزيين. فبعد سلسلة من "العقوبات" المستمرة على القطاع شملت تقليصًا للدعم في المستلزمات الصحية المرسلة لمستشفيات القطاع وتجميدًا للتحويلات الطبية لمرضى القطاع إلى المستشفيات الخارجية، قامت السلطة كذلك مؤخّرًا بتخفيض رواتب موظّفيها التي تشكّل دعامةً أساسيّة لما تبقّى من اقتصادٍ منهار في غزّة، وهدّدتْ بقطعها بشكلٍ كامل، وأعادت فرضَ الضرائب التي أُعفيَ منها القطاع حين تولت قيادتَه حركةُ حماس في العام 2007. مع استمرار رئيس السلطة (أبو مازن) بتكرار تهديده المبتذل بإعلان غزة إقليمًا متمردًا في كل مناسبة ممكنة.

إذا فغزَّة كانت تتجه بخطى متسارعة نحو انفجار جديد، والمقاومة تخسر قدرات ومَوَاطِنَ قوةٍ دفعت لاكتسابها ثمنًا غاليًا ولم يكن بإمكان غزَّة تحمل مواجهةٍ عسكريةٍ جديدةٍ في هذا الوقت، لذا فقد بدا أن تفعيل التبادل بين المقاومة المسلحة والشعبية قد بات أمرًا ملحًا.

وَظّفتْ فصائلُ المقاومة كلَّ ثقلها من أجل الحشد للمسيرة. فنظّمتْ أذرعُها الإعلاميّة والاجتماعيّة حملةً مكثّفةً لإيصال الدعوة إلى أكبر عددٍ ممكن من الناس. وهو ما نتج عنه كسبها لهذا الزخمَ الشعبيّ، بالرغم من أن الدعوة لها انطلقت أساسًا من حسابات نشطاء مستقلين على وسائل التواصل الاجتماعي، ويعود الفضل في ذلك لإمكانات الفصائل اللوجستية ولأظهرتها الشعبية التي تشكل شريحة واسعة من الغزِّيين، إضافة إلى قرار حركة حماس المسيطرة على القطاع بفتح المجال العام أخيرًا أمام العمل الشعبي، والدفع بكل قوة في اتجاه التحشيد له.

"السلمية" في مسيرة العودة




بالرغم مما ورد أعلاه فلا يمكن إنكار أن الخطاب الذي تبنته الهيئة الوطنية العليا للمسيرة ــــ  بما فيها فصائلُ المقاوَمة ــــ شدّدَ دومًا على رفض العنف استراتيجيةً للعمل. فالخيام التي نُصبَتْ في "مخيّمات العودة" كانت بعيدةً عن السياج الفاصل، كما أنّ المخيمات جُهِّزت لممارسة نشاطات اجتماعيّة ورياضيّة قد تبدو أنها خُصصت لمنع الناس من الانخراط في مواجهة عنيفة مع الاحتلال. وكانت قياداتُ الفصائل قد أرسلتْ رسائلَ عديدةً تؤكّد نهجَها "السلميّ": فظهرتْ بعضُ قيادات حركة حماس على منصّةٍ نُصِبتْ بالقرب من إحدى نقاط التماس، وفي خلفيّتها صورٌ لشخصيّات معروفة للإعلام الغربيّ باعتبارها أيقوناتٍ للنضال اللاعنفيّ بالرغم من كل ما قد تثيره أيقنتها من جدل. كما برزت خلال الأيام الأولى في مخيمات العودة محاضراتٌ وورشاتُ عملٍ تهدف إلى تعليم المتظاهرين أساليبَ المقاومة اللاعنفيّة وتكتيكاتها.

غير أنّه بدا واضحًا من تصريحات منظّمي المسيرة وجودُ اختلاف بينهم في فهم مصطلح "السلميّة." فقد عبّر المستقلّون و "مؤسّساتُ المجتمع المدنيّ" عن رفضٍ مطلقٍ لأيّ ممارسة عنفيّة في المسيرة، بما في ذلك رميُ الحجارة. وجرى التأكيدُ على ضرورة الاكتفاء بالتظاهر قبالة السياج الفاصل وسيلةً لإحراج الاحتلال أمام المجتمع الدوليّ، على العكس من قيادات الفصائل التي باركت نشاطات المتظاهرين وشاركت فيها أحيانًا، وبدا أنها تعتبر، تبعًا لذلك، أن "السلمية" في المسيرة تعني ببساطة عدم استخدام السلاح. لكنْ، وتحرّيًا للدقّة، لا يمكن وصفُ مسيرات العودة بـ "السلميّة،" وخصوصًا مع ما اكتسبه هذا المصطلحُ في بعض الأوساط من دلالاتٍ مناهضةٍ لوسائل المقاومة العنيفة. ولقد كان تحوّلُ المسيرة إلى مقاومة شعبيّة عنفيّة غير مسلحة أمرًا حتميًّا؛ ذلك أنّ أيّة محاولة للسيطرة على طبيعة الفعل المقاوِم ضدّ الاحتلال خلال المسيرة ضربٌ من الخيال. ولأجل هذا السبب بالذات، حشد الاحتلالُ طاقتَه العسكريّة على حدود غزّة، فحاول قمعَ المسيرة قبل أن تنطلق، مستهدفًا المُزارع الشهيد، عُمر سمور، في أرضه شرق خانيونس بقصف مدفعيّ. لذلك، فإنّ لجوء المشاركين إلى العنف بصورته غير المسلحة قد كان ردّة فعل طبيعيّةً على استخدام الاحتلال للقتل المباشر.

الغزيون في مواجهة القمع: الأساليب والأدوات




أظهر المشاركون في المسيرة مرونةً عاليةً في التصدّي لقمع الاحتلال. فقد وظّفوا أساليبَ وأدواتٍ قديمةً، وطوّروا أساليبَ جديدةً ومبتكرةً تناسب ظروفَ ميدانهم الخاصّ. وقد ساهم ذلك في إعطاء المسيرة المزيدَ من الزخم والكثافة، على عكس ما سعى إليه الاحتلال، الذي ظنَّ أنّ رفعَ حصيلة الشهداء والجرحى في اليوم الأول قد يؤدّي إلى خفض عدد المشاركين في الأيام التالية.

وقد لاحظ المشاركون التأثيرَ الإيجابيّ للدخان الناتجِ من حرق إطارات الكاوتشوك قبالة السياج الفاصل خلال اليوم الأول من المسيرة، وهي وسيلةٌ استُخدمتْ في العمل الشعبيّ في فلسطين منذ وقت طويل. وظهرتْ للمشاركين شراسةُ الاحتلال ضدّ الشبان الذين نقلوا وأشعلوا الكاوتشوك قرب السياج خلال الجمعة الأولى. وتحوّلتْ صورة الشهيد عبد الفتاح عبد النبي، التي التُقطتْ له قبل استشهاده بلحظات وهو ينقل الكاوتشوك ناحية السياج بقصد إشعاله، إلى أيقونةٍ للجمعة التالية، "جمعة الكاوشوك". فانتشرتْ حمّى الكاوتشوك في غزّة، وجُمعت التبرّعاتُ من الناس لشراء الإطارات ونقلها إلى السياج لاستخدامها في الجمعة التالية. وبلغ من تأثيرها أن أصدر الاحتلال في اليوم ذاته قرارًا بمنع إدخال الكاوتشوك إلى غزّة.

ومثلما حاول المتظاهرون حمايةَ أنفسهم من قنّاصة الاحتلال عبر استخدام الكاوتشوك، فقد طوّروا أيضًا أساليبَ هجوميّةً لزيادة أضرار الاحتلال. فكان أن وظَّفوا الطائراتِ الورقيّة في نقل موادّ مشتعلة عبر السياج، نجحتْ خلال الشهرين الماضيين في إضرام النار بمئات الدونمات الزراعيّة حول كيبوتسات "غلاف غزّة" ومستوطناته. ومؤخّرًا بدأ متظاهرون باستخدام بالونات من الهيليوم عوضًا عن الطائرات الورقيّة. هذا فضلًا عن القَطْع المستمرّ لأجزاء من السياج الفاصل، وهو ما تحوّل إلى ممارسة أساسيّة في المسيرات.




وقد اقتحم المتظاهرون حاجز كرم أبو سالم مرتين ونجحوا بالتسبب بخسائر فادحة وتمثلت ذروة النشاطات بالنجاح في التسلل عبر السياج الفاصل عدة مرات وصل المتظاهرون في بعضها إلى نقاط عسكرية نصبها الاحتلال قبالة السياج وأحرقوا فيها خيامًا للقناصة.

يُلاحَظ ما في هذه الممارسات من درجة عالية من التنظيم الذاتيّ، المعتمد على لامركزيّة القيادة. فلم تتدخّلْ قياداتُ الفصائل في توجيه المتظاهرين إلى الخطوات التي اتخذوها ضدّ الاحتلال. كما اتسمتْ ممارساتُهم بالسلاسة والمرونة، وبأنها تعلّمتْ من أخطائها، وطوّرتْ نفسها ذاتيًّا. ولقد قسّم المشاركون أنفسهم إلى مجموعات، اختصّت كلٌّ منها بمهامّ محدّدة، دون الحاجة إلى قيادة موحّدة أو سلسلة أوامر.

لا يجعل ذلك كلُّه من هذه المسيرات حالةً فريدةً من نوعها؛ فهي حالة عامّة تسم الحراكات الثوريّة الشعبيّة. لكنها تكشف عن امتلاك الغزّيين ما يكفي من الوعي لحسم خيارهم في استخدام العنف الثوريّ لمواجهة الاحتلال، وبرهنوا أنّ أيّ انفراج في الحيّز العامّ للعمل الشعبيّ المغلق أمامهم منذ ثلاثة عشر عامٍ سيُستخدم لتعزيز وتيرة الاشتباك مع المحتلّ.

14 أيار وما بعده.. نتائج ومآلات

في ذات اللحظة التي كانت تُفتتح فيها السفارة الأمريكية في القدس المحتلة، وصلت المسيرة إلى أقصاها، سواءٌ على صعيد المشاركة الواسعة أو على صعيد ردة فعل الاحتلال، حيث بلغ عدد الشهداء حوالي 57 شهيدًا أُعلن عن استشهادهم في اليوم الأول إضافة إلى أكثر من 2700 إصابة، وهي أرقام توضع المستوى القياسي من العنف المتصاعد ضد المسيرة. وهو ما شكل أزمةً غير معهودةٍ للطواقم الطبية في غزة، لم تشهدها حتى في أوقات الحروب، فلم تضطر مستشفيات غزة من قبل أبدًا إلى التعامل مع أكثر من 2700 إصابة خلال ساعات قليلة فقط.

وكان منظمو المسيرة يعولون على حدوث اقتحام واسع للسياج الفاصل، وهو ما تعذر نتيجة رد الفعل العنيف، والذي أدى كذلك إلى انخفاض وتيرة المشاركة في المسيرات خلال الأيام اللاحقة، والذي ترافق مع نشاط سياسي عربي (مصري وأردني) هَدِف إلى احتواء الوضع الميداني.

يجدر بالذكر أن الاحتلال أرسل تهديدًا لحماس عبر المخابرات المصرية قبل المسيرة بيوم يحذر من أن أي اقتحام للسياج الفاصل سيُقابل بأقصى درجة من القوة، كما كان الاحتلال يحاول أن يوجه جزءًا من رده الحاد، حتى قبل 14 أيار، إلى المقاومة مباشرة باعتبارها مسؤولة عن الحدث، فقُصفت مواقع ونقاط رصد للمقاومة ردًا على اقتحام المتظاهرين للسياج الفاصل وحرق المساحات الزراعية حول الكيبوتسات، أي أن الاحتلال سعى لاستعادة قواعد الاشتباك التي فرضها تدريجيًا بعد انتهاء حرب 2014 وحاول منع المقاومة من الاستفادة من الوضع الميداني على السياج الفاصل منذ بدء المسيرة، وتصاعد رد الاحتلال وطال عددًا من أفراد المقاومة الذين سقطوا ما بين شهداء وجرحى بوتيرة شبه يومية خاصة بعد 14 أيار، فقررت المقاومة  في 29 أيار، وردًا على ممارسات الاحتلال، إطلاق وابلٍ من القذائف ضد مواقع عسكرية ومستوطنات غلاف غزة، وبالرغم من تهديدات مسؤولي حكومة الاحتلال التي تصاعدت بنبرة حادة ضد تصرف المقاومة إلا أن ردها، بالرغم من كثافته، لم يتجاوز استهداف مواقع عسكرية للمقاومة تم إخلاؤها سابقًا، مما يدلل على نجاح المقاومة حتى تلك اللحظة في تحقيق هدفها. في الوقت ذاته، كانت اللجنة الشعبية لكسر الحصار قد اطلقت قافلة بحرية من ميناء غزة متجهةُ إلى قبرص، وعلى متنها (17) فلسطينيًا، قام الاحتلال باعتراضها والسيطرة عليها. إلا أنها لن تكون القافلة الأخيرة بحسب تأكيدات اللجنة. وبالرغم من انخفاض وتيرة المسيرة بعد 14 أيار إلا أن منظميها أكدوا على استمرار فعالياتها كما حُدد يوم 5 حزيران القادم يوم ذروةٍ جديد للمسيرة، وقد أكدت قيادات المقاومة على أن المسيرة ستظل مستمرة حتى رفع الحصار عن غزة بشكل كامل.

الدولة التركية في الأناضول والبلقان: من الميراث السلجوقي إلى التوسع العثماني

كانت الشمس قد لاحت في الأفق أخيراً معلنة بدء نهار السادس والعشرين من شهر أغسطس من العام 1071م وأطلت على مقدمة جيش يتكون من 20 ألف مقاتل معظمهم من المرتزقة، تعددت أعراقهم ما بين إنجليز وفرنجة ونورماند وكرجيين (جورجيين) وآرمن وبلغار، بل وحتى أتراك، من قبائل (البجنك Pecheneg) و(الجومان Cuman) التي كانت ضمن طلائع المهاجرين الأتراك إلى أوروبا الشرقية، كان هؤلاء هم كل من تبقى من جيش بلغ تعداده حوالي 40 ألف مقاتل تخلى نصفهم عن الجيش خلال مروره في طريق طويل عبر الأناضول من غربها انطلاقاً من القسطنطينة إلى شرقها حيث السهل المقابل لقلعة "ملازكرت" (باللاتينية: مانزيكرت Manzikert)، الواقعة في مقاطعة "أيبيريا" ضمن "آرمينيا البيزنطية" في أقصى القسم الشرقي من "الأناضول"، وكان يتوسطهم سرادق أمبراطوري جلس فيه الإمبراطور البيزنطي (رومانوس الرابع ديوجينوس Romanos IV| Diogenes) من سلالة الأباطرة اليونانيين المعروفة باسم (دوكاس Doukas)، حيث كان يواجه على الناحية المقابلة جيشاً بلغ تعداده ما بين 20 إلى 30 ألف جندي حسب اختلاف المصادر، يقوده ثاني من تولوا حكم السلطنة السلجوقية، السلطان محمد بن (داوود جانغري) المعروف غالباً لجزء من قراء هذا المقال بلقبه الفارسي الأشهر (ألب أرسلان = الأسد البطل أو الأسد الهصور)، كانت السلطنة السلجوقية الحديثة العهد قد استطالت بيدها على أملاك بيزنطة في الأناضول طيلة العقود الثلاثة الماضية، وقد أمل (رومانوس الرابع ديوجينوس) عندما شن حملته للتصدي للهجوم السلجوقي هذا بأن يمهد الطريق للقضاء على شأفة السلاجقة نهائياً في آخر أرضٍ تسيطر عليها بيزنطة في آسيا، وقد كانت مانزيكرت بالذات جزءًا من أرضٍ استلبها أسلاف (رومانوس) بالحديد والدم من منافسيهم الجورجيين قبل حوالي خمسين سنة ولم يكن مستعداً فيما يبدو لأن يخسرها لسلطان مسلم. خطب (ألب أرسلان) في جنده مرتدياً ثوباً أبيض اللون يرمز لكفنه ويعلن من خلاله استعداده التام للموت دون جنوده، وبعد أن بدأ (رومانوس) هجومه على الجيش السلجوقي، بادر السلاجقة بالتقدم، والتحم الجيشان في معركة ملحمية انتهت بانتصار ساحق للسلاجقة الذين نجحوا في نهاية اليوم في أسر الامبراطور البيزنطي.

بعد حوالي 318 عاماً، وبالضبط في الخامس عشر من يونيو 1389م، وقف قائد عسكري أوروبي آخر على صهوة جواده ليطل على ساحة معركة مرتقبة بالقرب من قوصوة (كوسوفو) البوسنية، كان الأمير (لازار هريبلجانوفيتش Lazar Hrebeljanovic)  أمير "صربيا المورافية" وبجانبه (يوك برانكوفتش) حاكم مقاطعة "برانكوفتش" إضافة إلى (فلاتكو فلاكوفيتش) ملك "البوسنة" على رأس جيش بلغ تعداده حوالي 30 ألف مقاتل خرجوا بعد مباركة من الفاتيكان في مهمة مقدسة لإيقاف الزحف العثماني على البلقان، وعلى مد البصر، كان لازار، الذي نجح سابقاً مرتين في صد العثمانيين عن حدود إمارته، يرى السلطان العثماني (مراد الأول) يقود جيشاً مكوناً من 40 ألف مقاتل وعلى يمينه الشهزادة [ولي العهد] (بايزيد) الذي سيصبح بنهاية هذا اليوم سلطاناً خلفًا لأبيه القتيل بعد أن يقتل بيده أخاه الأصغر الذي حضر المعركة، التحم الجيشان بقوة ودار بينهما قتال شرس استمر لثمانية ساعات استنفذ فيه معظم الجنود الذين سقطوا في ساحة القتال صرعى وجرحى، وبنهاية اليوم استطاع العثمانيون النيل من الأمير (لازار) نفسه الذي قاتل بشجاعة حتى آخر رمق، وأعلن العثمانيون انتصارهم الصعب، ولكن المستحق، هبط مراد عن صهوة جواده يتفقد ساحة المعركة ونال طعنة من جندي صربي جريح فقتله على الفور.

لم تبدأ قصة الأتراك في الأناضول والبلقان عند "مانزيكرت" ولم تنتهِ عند "كوسوفو"، ولكن، كانت هاتان المعركتان الحدثين الأكثر حسماً في تثبيت دعائم أول سلطنة إسلامية في الأناضول، تأسست رسمياً بعد "مانزيكرت" بثلاثة سنوات، وفي تثبيت دعائم آخر سلطنة تركية ستصبح بعد انتهاء النسل العباسي آخر دولة خلافة في العالم الإسلامي، في أوروبا الشرقية. سيسرد هذا المقال، باختصار قدر المستطاع، قصة الأتراك في آسيا الصغرى وشرق أوروبا بين (آل سلجوق) و(آل عثمان).

الأتراك في الأناضول: من سلجوق إلى عثمان

لم تكن "مانزيكرت" الهدف ولا كان ما وصلت إليه يد الأتراك(1) السلاجقة بعد ذلك، بل كان الهدف، والحلم الأكبر، الذي راود غزاة الأناضول المسلمين هو "القسطنطينية Costantinople".

في الواقع، كانت "القسطنطينية" حلماً راود معظم قادة حروب التوسع العربية الإسلامية الأولى، تلك المدينة المنيعة على مضيق البسفور التي كانت في ذلك الزمن درة تاج الامبراطورية الأكثر توسعاً في أوروبا وآسيا وأفريقيا ومهد حضارتها، والمدينة التي ولدت فيها الامبراطورية الرومانية العظمى من جديد كدولة مسيحية، على أن التوسعات الأموية والعباسية ظلت ولعقود طويلة واقفة على الباب الشرقي للأناضول، غير قادرة على إحداث أي اختراق يذكر إلى الأماكن الأكثر قرباً من المركز البيزنطي في العاصمة المقدسة، وقد كان السلاجقة، الذين أسسوا أول سلطنة إسلامية في الأناضول في 1074 م بعد معارك قاسية ضد البيزنطيين، أول من اقترب فعلاً من تحقيق هذا الحلم.

قوى السلاجقة نفوذ سلطنتهم الفتية في غرب آسيا والتي أسسها السلطان طغرل (وليس أرطغرل الذي سيرد ذكره لاحقاً) في 1037م وبدأوا في اختراق صفوف البيزنطيين في آسيا الصغرى، وكانت أولى معاركهم ضد بيزنطة في "باسينلر" (باللاتينية: كابيترون Kapetron) الواقعة في "إرضروم" شمال شرق الأناضول في 1048 م وتوالت بعدها توسعات السلاجقة في الأناضول وأسقطوا المدينة تلو الأخرى، استولوا مثلا على "بايبرت" في 1054م ثم "أديمان" في 1066م ثم "ملاطية" في 1067م إلى أن سيطر أخيراً جيش بقيادة القائد العسكري (أفشين بيك) على "قونية" في 1069م ، وهو الفتح الذي سهل على السلطان السلجوقي (محمد بن داوود جانغري ألب أرسلان) فتح قلعة "ملازكرت" في 1071م، وقد كان لهذا الانتصار نتيجتان مهمتان؛ فمن جهة سهلت سيطرة السلاجقة على قلعة مانزيكرت إنطلاق الحملات العسكرية لتصل إلى عمق الجانب الغربي من الأناضول ووقوع المزيد من المدن تحت سيطرتهم وهو الذي تُوِّج بإنشاء "سلطنة سلاجقة الروم" أو "السلطنة السلجوقية الأناضولية" بعد حصول خاقانها الأول (سليمان بن قتالمش) على منشور السلطنة [الاعتراف الرسمي] من السلطان السلجوقي (ماليك شاه بن ألب أرسلان) في 1074 م، ومن جهة أخرى، كان لانتصار "مانزيكرت" أثراً بالغاً في بدء عملية {تتريك} الأناضول ديمغرافياً(2)، حيث شجعت فتوحات السلاجقة الكثير من أتراك غرب آسيا على الهجرة إلى آسيا الصغرى والاستقرار في قرى ومدن السلطنة الجديدة، وقد استمرت هذه العملية، بتسارع مضطرد، طيلة سنوات صعود وتوسع السلطنة الجديدة، والتي شكلت وطناً جديداً للقبائل التركية المنتشرة في المساحات الشاسعة الممتدة من وسط إلى غرب آسيا، وهو وطن سيظل مرتبطاً باسمهم حتى يومنا هذا.

الفتوحات السلجوقية بعد موقعة مانزيكرت

بأي حال، لم تستطع "سلطنة سلاجقة الروم" بسط نفوذها على مجمل أراضي الأناضول، بالطبع فقد وصلت حدود السلطنة إلى بحر مرمرة والبحرين الأسود والأبيض المتوسط وأسست أسطولاً بحرياً في "إزمير" في 1081 م ساعدها في السيطرة على بعض الجزر اليونانية في "بحر إيجة"، ولكن ظلت بيزنطة قادرة على الاحتفاظ بشريط ساحلي ممتد على طول البحرين الأسود ومرمرة ساعدها على النأي بعاصمتها المنيعة عن طموحات السلاجقة الذين بلغ أقصى توسع لسلطنتهم الفتية عام 1087 م بسيطرتهم على مدينة "الرها". دق التوسع السلجوقي ناقوس خطرٍ عالي الصوت في أوروبا وكان واحداً ضمن عوامل متراكمة، منها عوامل أوروبية داخلية، اقتصادية واجتماعية، ومنها عوامل سياسية مرتبطة بالتوسع العربي الذي بدأ في عهد الأمويين والذي نال من مستوطنات بيزنطة في الشام وشمال أفريقية أولاً ثم أسس دولة قوية في شبه جزيرة إيبيريا ثانياً، ثم نظم هجمات ناجحة قاسية التأثير على مراكز حضرية أوروبية في شبه جزيرة إيطاليا وبعض الجزر اللاتينية واليونانية في البحر المتوسط [نفذها بعض أمراء دولة الأغالبة في العصر العباسي]، وختاماً كان تأسيس "سلطنة سلاجقة الروم" وتهديدها المباشر لمركز أعظم امبراطورية مسيحية في أوروبا، كل تلك العوامل ساهمت في استنهاض أوروبا لقواها لتوجيه ضربة موجعة للمشرق العربي / الإسلامي فكانت الحملة الصليبية الأولى في 1096م، عبرت موجات ثلاثة للحملة الصليبية عبر الأناضول واصطدمت مع "سلطنة سلاجقة الروم" التي اضطرت للتراجع أمام المد الأوروبي وخسرت عاصمتها "إزنك" متراجعة إلى "قونية" ولم تقدر على منع الحملة من تحقيق أهدافها وانتزاع كل من "الرها" و"أنطاكية" والتوغل جنوباً والوصول إلى الشام والسيطرة على الشريط الساحلي المحاذي للبحر الأبيض المتوسط وتأسيس عدد من الإمارات والمقاطعات القوية بالإضافة إلى مملكة في "فلسطين". ظلت "سلطنة سلاجقة الروم" تراوح مكانها ما بين تقدم وتراجع ضد البيزنطيين والصليبيين واستطاعت بالرغم من الأخطار المحدقة بها ما بين أعداء خارجيين وخلافات داخلية وصراعات على الحكم أن تصمد لما يزيد على قرنين لاحقين ونجحت بالتصدي لحملتين صليبيتين أخريتين إلى أن بدأ تفككها على يد الغزو المغولي وخضعت للدولة التي سبق وأسسها الإيلخان، أو الخان الصغير، (هولاكو)، في غرب آسيا خلال النصف الثاني من القرن الثالث عشر، ثم تضائل نطاق نفوذها على الإمارات التركية في الأناضول والتي بدأت برفض سلطة السلطان السلجوقي تدريجياً، وانقطعت آثار السلطنة في العام 1303 م بوفاة آخر سلاطينها (غياث الدين مسعود الثاني)، وظل ما تبقى من إماراتها تابعاً للإيلخان في مدينة "تبريز" مباشرة.

كان واحد من الأخطار المذكورة بعاليه والتي واجهت (سلطنة سلاجقة الروم) قبل تفككها الأخير ونجحت في مواجهتها بنجاعة، الهجوم الذي حاولت شنه الدولة الخوارزمية، سلطنة أتراك وفرس وسط آسيا، تحت حكم (جلال الدين خوارزم شاه)، على حدودها الشرقية في 1230م ، وقد تصدى للهجوم السلطان (علاء الدين كيكباد الكبير) في معركة "ياصي جمن" في 10 أغسطس 1230 م. دعى (علاء الدين) عشائر الأتراك للاستجابة لنداء الحرب، وكان من بين المستجيبين (أرطغرل بن كندز ألب(3)) [بالتركية الحديثة: آرتورول Ertugrul]  أمير عشيرة قايي والذي كان يرابط مع أفراد عشيرته بالقرب من "أخلاط" الواقعة بمحاذاة بحيرة "فان" (ضمن بتليس حاليا) شرق الأناضول، كافئ السلطان (علاء الدين) الأمير (أرطغرل) على مساندته ومنحه أرضاً  على حدود الدولة البيزنطية لتكون وطناً لعشيرته.

الأناضول في عهد علاء الدين كيكباد الأول (الكبير)


العثمانية في الأناضول والبلقان: من عثمان المؤسس إلى مراد الأول

كانت "قايي" واحدة من العشائر التركية الخاقانية(4) التي هاجرت إلى الأناضول الشرقية عقب الاستيلاء على قلعة "مانزيكرت" في 1071 م وظلت في "أخلاط" حتى العام 1230 م على الأقل، من المرجح أن "قايي" كانت تتبع مباشرة لسلطة الفرع المارديني [نسبة لمدينة ماردين جنوب شرق الأناضول] من أمراء بني (أرتق(5) أو آرتوك Artukoglu)، وأنهم وبشكل مثير للاستغراب تلقوا أوامر من السلطان (علاء الدين كيكباد الكبير) في 1230 أو 1231م للتحرك غرباً لمسافة ألف كيلومتر والمرابطة على حدود السلطنة مع الإمبراطورية البيزنطية بالقرب من مقاطعة "بيلة جك" الحالية، ويُعتقد أن الأوامر التي حملوها منحتهم أراضٍ اشتملت على المساحة الواقعة ضمن مثلث "بيله جك" - "أسكيشهر" - "كوتاهية" وضمت على الأقل على مناطق "بوزيوك" و"سوغوت" و"دومانيتش"، وربما من الواجب أن يتوقف المقال للحظة عند سؤال مهم: لماذا أصدر السلطان هذه الأوامر ولماذا قبلت "قايي" وأميرها (أرطغرل) بتنفيذها؟

من الضروري في البداية إدراك أن ثبوت الراوية الواردة بعاليه عن كون إمارة (أرطغرل) في أقصى الغرب الأناضولي كانت مكافأة له على مساندته للجيش السلجوقي في معركة "ياصي جمن" غير قطعي، وربما شارك (أرطغرل) ورجال عشيرته في قتال الأيوبيين في حلب أو ربما اضطر للنزوح خشية من وصول مرتقب للغزاة المغول، كما أن تعداد عشيرة "قايي" المرابطة في "أخلاط "كان أقل من 4000 شخص، بما يشمل النساء والأطفال، فما الذي قصد به (علاء الدين كيكباد الكبير) عندما أرسل هذه القلة من الناس إلى جوار ألد أعداء سلطنته مع أوامر بحماية حدوده معهم وربما المساهمة في توسيعها؟ بل ما الذي يمكن أن تمنحه من الأساس عشيرة صغيرة كعشيرة "قايي" لجيش سلجوقي يبلغ تعداده أكثر من 50 ألف مقاتل ويكون سبباً في استثارة إعجاب (علاء الدين) بها ومنحها مقاطعة خاصة بها لتحكمها؟ بل هل من الممكن أن يكون إرسال "قايي" إلى غرب الأناضول كان تهجيراً قسرياً عقابياً لا مكافأة؟ خاصة وأن "قايي" موجودة في "أخلاط" منذ عقود طويلة وقد كانت طيلة تلك الفترة وطناً لهم لم يحاولوا تغييره؟ لا وجود لإجابات قاطعة لهذه الأسئلة، لكن المقطوع بصحته بحسب المصادر التاريخية أن أرطغرل أصبح أميراً برتبة (أوج بلك)(6)، وأنه استقر بعشيرة "قايي" بالقرب من "بيله جك" في 1231 م وأن إدارته لها كانت تحت إمرة عدد من الأسر التركية التي حكمت "أسكيشهر" و"كوتاهية" و"قسطموني"، مثل بني (جوبان) و(جاندار) و(جيرميان) الذين دانوا لهم بالتبعية طيلة سنوات طويلة.

مثلث بيلة جك - كوتاهية - أسكيشهر على خريطة حديثة للجمهورية التركية


حدود تقريبية لإمارة عثمان في الأناضول في بداية القرن الرابع عشر الميلادي

وإذا ما تجاوز المقال عن السؤال السابق، يظهر أمامه سؤال ملح آخر، لا يتعلق بظروف نشأة الإمارة العثمانية فحسب بل بالظروف التي رافقت توسع حدودها المضطرد وانتشارها المستمر والدائم الحركة، أي كيف استطاعت هذه الإمارة الصغيرة في الوقت الذي لم يكن لها ما يكفي من الشأن لتتلقى أوامرها وتدفع ضرائبها باتصال مباشر مع السلطان في قونية، أن تتحول إلى قوة عالمية ضاربة تنتشر أراضيها في جميع قارات العالم القديم خلال عدة قرون فحسب بينما كان توسعها الأول على حساب قوة ضاربة كالامبراطورية البيزنطية؟ كان من الصعب على أي مؤرخ معرفة حقيقة ما جرى بالفعل في تلك الفترة التي امتدت من نهاية القرن الثالث عشر حتى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، فأقدم الوثائق التي تركتها لنا الدولة العثمانية تعود إلى القرن الخامس عشر فيما ضاعت وثائق المئة والعشرين سنة الأولى من تاريخ الدولة أثناء هجوم جيوش تركستان الشرقية بقيادة تيمور لنك على الأناضول في عهد السلطان يلدرم بايزيد، وقد مرت الدولة منذ ذلك الحين بتغيرات عميقة أثرت بدون شك على منهجية كتابة تاريخها وتأثر مؤرخي تلك الحقبة بإنجازات العثمانية اللاحقة وتوسعاتها أولاً واعتماهم على مصادر تفتقر إلى الدقة غالبا كالتاريخ الشفهي بسبب بعد الفترة الزمنية الفاصلة بين وقت وقوع الأحداث ووقت بداية إعادة تدوينها، ولذا، وبناء على ما تقدم، فقد شغل السؤال المذكور بعاليه المؤرخين سنوات عديدة، ، وقد وضع بعض المستشرقين خلال القرن التاسع عشر نظريات تفسر التوسعات العثمانية على أساس عنصري ينسب [إنجازات] العثمانية إلى أعراق وأجناس أخرى، وقد كانت أول ردة فعل على هذه النظريات طرح عنصري مضاد للمؤرخ التركي (فؤاد كوبرولو Fuat Koprulu) والذي ينسب تأسيس الدولة العثمانية إلى عشائر من أتراك الأوغاز القاطنين في وسط آسيا والذين تحركوا إلى الأناضول هرباً من الغزو المغولي، واستطاعوا بالتعاون مع عناصر (تركية إسلامية) من أطراف الأناضول تمرست في الحكم والحرب تحت إدارة السلاجقة تأسيس الدولة العثمانية، كانت هذه نظرية ضعيفة بدون شك، وقد أضعفها وجود دلائل أركيولوجية تثبت وجود العشيرة الأساسية التي نسل منها البيت العثماني وتكونت حولها السلطنة، وهي عشيرة "قايي"، في منطقة "أخلاط" شرق الأناضول قبل بدء الغزو المغولي بفترة طويلة، حيث تمتلأ تلك المنطقة بالكثير من شواهد قبور وأضرحة أجداد العثمانية، ما يؤكد على أن هجرة "قايي" إلى الأناضول قد تمت كواحدة من نتائج التوسع السلجوقي خلال النصف الثاني من القرن الحادي عشر الذي تلى انتصار "مانزيكرت" في 1071م. لكن نظرية (كوبرولو) الضعيفة أعطت فكرة للمؤرخ النمساوي (بول ويتيك Paul Wittek) أسس عليها نظرية تشرح من وجهة نظره قدرة العثمانيين على التوسع بهذه السرعة، فقد قبل ويتيك بالأساس (العرقي/التركي-الديني/الإسلامي) الذي يحصر فيه (كوبرولو) العثمانية في شكلها الأول، ولكنه يفسر قدرة الدولة العثمانية على حشد كل هذا العدد من الجنود واجتذاب كل هذا العدد من الرعايا بنظرية عُرفت في الأوساط الأكاديمية طيلة خمسة عقود باسم (نظرية الغازي أو نظرية الغزو) (Gaza or Ghazi Thesis)، وبالنسبة لويتيك فإن العثمانيين نجحوا في استغلال مفهوم [الغزو] كتعريف للجهاد والحرب المقدسة في تجنيد الأتراك تحت رايتهم لقتال البيزنطيين والأوروبيين الكفار، وأن هذه العقيدة التي يتشابك فيها [الديني] بـ [العرقي] كانت الوسيلة التي منحت للعثمانيين تفوقهم العسكري طيلة قرون لاحقة. كان واحد من الأدلة الرئيسية التي اعتمد عليها ويتيك في صياغة نظريته قصيدة كُتبت في القرن الخامس عشر تستذكر إنجازات السلطان أورخان الأول وتمتدح فتحه لبورصة وتصفه بأنه [غازي بن غازي]، وبالنسبة له، فإن هذه الأوصاف ذات الدلالة الدينية ربما شكلت جزءًا من أيديولوجية متكاملة أثرت على رعايا الدولة الجديدة وساعدت في تجنيدهم في حروبها التوسعية.

ظلت [نظرية الغازي] هذه مسيطرة على الأوساط الاكاديمية طيلة خمسة عقود (من ثلاثينات حتى ثمانينات القرن العشرين) لم يمسسها نقد بسوء، بل إنها أثرت حتى على الأكاديميا التركية ووجهت كثيراً من المؤرخين الأتراك الذين بحثوا في تاريخ أسلافهم العثمانيين إلى محاولة إثباتها وبناء صورة متخيلة عن عالم عشيرة قايي الصغيرة في إمارة عثمان الحدودية، ويذكر المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في مصنفه الضخم (تاريخ الدولة العثمانية) كيف أن التركمان الرحل [البدو] كانوا يشكلون قلبا نابضاً للمقاطعات الحدودية مع بيزنطة وأنهم، بخلاف سكان المدن المتشبعين بالثقافة الفارسية والعربية، أكثر فعالية في شؤون الحرب والغزو والقتال، يذكر أوزتونا وجود مجموعة من [الغزاة الدراويش]، ربما كان يقصد بهم طبقة اجتماعية، تتشكل أساسا من المنتمين إلى بعض الطرق الصوفية المنتشرة في وسط آسيا وغربها، كانوا مسؤولين عن (تربية) التركمان البدو حديثي العهد بالإسلام أو من تربطهم بالديانة رابطة ضعيفة معنى وسمو الجهاد في سبيل الله، ويوضح أوزتونا أن القصبات [المجتمعات البدوية التركية التي تعيش متنقلة تحت إمرة أميرها] التي أسستها العثمانية في غرب الأناضول والتي كانت تتحول إلى مجتمعات مستقرة كانت تتمحور حول مؤسسات اجتماعية دينية مثل المسجد والمدارس الدينية والحمامات العامة التي تشكل أماكن التقاء وفضاء لتعليم الشبيبة فضل الجهاد والغزو في سبيل الله، تعطي هذه الصورة لمحة عن تجربة مشابهة تأسست في نجد في بدايات القرن العشرين على يد بعض رجال الدين من (آل الشيخ) العاملين تحت إمرة سلطنة نجد وحاكمها السعودي (عبد العزيز) وهي تجربة الهجرات التي استخدمت في توطين البدو وتجنيدهم للقتال لصالح العائلة السعودية  في "الرياض".

بحلول 1980م بدأت تظهر أصوات ناقدة هاجمت النظرية بقوة وأثبتت فيها الكثير من نقاط الضعف، فالأبحاث التاريخية تثبت بأن بني عثمان لم يكونوا متشددين دينياً (بحسب مفهوم الأكاديميا الغربية للتشدد الديني المرتبط بمفهوم الإسلام السني) بل كانوا في حكم أصحاب البدع والضلالة بنظر أقرانهم من المسلمين السنة لانتمائهم أساساً لفرق وطرق صوفية في الغالب، كما أن العثمانيين كانوا متساهلين في تجنيد أهل الذمة من المسيحيين من أهالي المدن والبلاد التي سيطروا عليها، كما أن الأوصاف التي نالها مؤسسوا السلطنة من سلاطينها الأوائل وبالرغم من طابعها الديني إلا أنها لا تعكس حقيقة توجهاتهم الأيديولوجية وغالبا ما منحها إياهم المؤرخون تكريماً لذكراهم، وقد أظهرت سياسة العثمانيين نمطاً [لا-دينياً] براغماتي الطابع سيطر على توجهاتهم السياسية وتوسعاتهم العسكرية، وبالأخص عندما تحالفوا ذات مرة مع امبراطور بيزنطي وقاتلوا لأجله في البلقان في عهد (أورخان الأول)، كما أن العثمانيين في بداية دولتهم وباعتبارهم بدوًا رحلاً فقد تواجدوا بعيدًا عن المراكز الحضرية الإسلامية التقليدية التي نشأت فيها الفرق الإسلامية السنية وبعيدين بالتبعية عن الخلافات العميقة التي نشأت بين السنة ومذاهبهم وبين الفرق الأخرى وبعيدين عن الانخراط فيها، كما أن هذه القبائل التركية لم تتخلَ بعد بشكل كامل عن موروثها الديني القديم في حقبة ما قبل الإسلام، والذي كان يؤثر على عاداتها وتقاليدها وبشكل خاص على طريقة اختيار أمرائهم وحكامهم، والتي استندت إلى عقيدة قديمة منحت طبقة ضيقة من الأتراك، هي العشائر الخاقانية أو السلطانية، حقاً إلهياً يتيح لهم اتخاذ الألقاب وتشكيل الإمارات والسلطنات، وختاماً، فإن الدليل المحوري الذي استند عليه (ويتيك) كان أساساً قصيدةً كتبت في القرن الخامس عشر، أي بعد فتح (أورخان الأول) لـ "بورصة" بعقود طويلة، ولم يكن استخدام القصيدة لوصف مثل [الغازي بن الغازي] إلا تخيلاً رومانسياً لوقائع حدثت في الماضي.

بناء على ما تقدم، كان من الصعب الإيقان بأن العرق والدين كانا وقوداً محركاً لتوسع الدولة العثمانية خلال القرن الأول من تاريخها، ومن الصعب تخيل العثمانيين كمجموعة متجانسة عرقياً مندفعة في فتوحاتها وتوسعاتها بدافعٍ من عقيدةٍ دينيةٍ، وبالرغم من تزايد الانتقادات لنظرية ويتيك إلا أن محاولات قليلة قد تمت في سبيل إيجاد بديل مناسب لها، ربما كانت أول محاولة بالفعل كانت في 1983م للمؤرخ الأمريكي (رودي بول ليندنر) من جامعة ميشيغان والذي حاول تفسير التوسع العثماني الأول استناداً إلى نظريات في علم الأنثروبولوجيا (علم الانسان)، فطبقاً لوجهة نظره كانت العثمانية تجمعاً قبلياً بدوياً ارتبطت عناصره المختلفة بروابط العلاقات المشتركة وليس بعلاقات الدم والمصاهرة، وقد اتحدت مع بعضها في سبيل شن حرب على المجتمع المديني المحيط بها بهدف الانخراط فيه! وقد كان من المنطقي أن توجه طرف سيفها نحو المجتمع المديني الأكثر قرباً منها، وهو الدولة البيزنطية، مستبعداً بشكل كامل أن يكون للعرق دور محوري في التوسعات العثمانية، ومستبعداً كذلك تأثير العقيدة الدينية، بل إن (ليندنر) كان يرى أن انتماء العثمانيين في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي للإسلام كان صورياً وأنهم كانوا أقرب للوثنية منهم للإسلام. في 1995م قام المؤرخ التركي (جمال كافدار Cemal Kafadar) بمحاولة لتصحيح بعض المفاهيم بخصوص التشدد الديني، وبالنسبة لـ (كافدار) فالالتزام الديني الذي قد يكون محركاً للرغبة في الانخراط في دعوة دينية مسلحة غير مرتبط بالضرورة بالاسلام السني، ادعى (كافدار) أيضاً بأن مفردة (غزو) في التركية قد ارتبطت أحياناً بمفهوم غير ديني، وهي كذلك بالفعل ولم تكتسب معناها الديني عند العرب أيضاً إلا لاحقاً، ومن المحتمل بحسب (كافدار) أن معنى هذه الكلمة قد تطور عبر الزمن وأنها أطلقت ليس على نشاط دعوي ديني مسلح ولكن على مجتمع محاربين نشأ في المقاطعات التركية الحدودية المحاذية لبيزنطة وقد شكل هذا المجتمع طبقة اجتماعية.

عموماً فإن هذه الرحلة من التوسع والنمو التي حيرت بدايتها المؤرخين بدأت فعلياً باستلام (عثمان) الأول الحكم خلفاً لأبيه (أرطغرل) في 1281 م وقد بدأ حراكاً توسعياً وضع حجر الأساس الحقيقي للامبراطورية العالمية التي ستنشأ لاحقاً وستبلغ توسعها الأقصى في ثلاثة قارات بعد عدة قرون، توسع عثمان شمالاً ناحية نهر "سكاريا" وغربا ناحية "بورصة" محاولاً الوصول إلى بحر "مرمرة"، كان أول تحرك عسكري له الاستيلاء على حصن "قره جه حصار" في 1288م، أحكم سيطرته على القضاء المركزي لـ "أسكيشهر" وقلعتها، ومناطق "كيفة" و"أقيازي" التابعة لـ "سكاريا"، و"دومانج" التابعة لـ "كوتاهية"، واستولى على "يني شهر" التي أسس فيها قاعد حكم مؤقتة، وكذلك "مودانية" و"إينه كول" في "بورصة"، على أن أهم إنجاز له، من حيث تأثيره على مستقبل الإمارة، كان انتصاره ضد الحاكم البيزنطي في "بورصة" (باللاتينية: بروسا Prusa) (جورج موزالون) في معركة "قويونوحصار" (باللاتينية: بافيوس Bapheus) في يوليو 1302م والتي ساهمت في إنهاء سيطرة البيزنطيين على ريف "بورصة" وتراجعهم للتحصن في قلاعهم ما ساعد على تسهيل مهمة إسقاطها لاحقاً واحدةً تلو الأخرى، كما بدأ الرعايا البيزنطيون خوفاً من الإمارة العثمانية بالخروج بشكل موسع من الأناضول متجهين ناحية أراضي الامبراطورية في القارة المجاورة وهو الأمر الذي ساعد في قلب الميزان الديمغرافي لصالح الأتراك. حاصر عثمان مدينة "بورصة" لسنوات طويلة وإن لم ينجح في أخذها، فلم يكن لجيشه، الذي اعتمد بشكل أساسي على المشاة والخيالة الخفيفة، أي تفوق لوجستي يتيح له الاستيلاء على مدينة محصنة مثل "بورصة"، لكنه كان معنياً بدون شك ورغم عدم قدرته على كسر دفاعات المدينة، بإطالة أمد الحصار ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لأن أي هجوم عكسي كانت ستشنه بيزنطة على أراضيه كان ليعتمد "بورصة" كنقطة تجهيز وانطلاق، فُتحت "بورصة" في أبريل 1326م على يد خليفة عثمان، أورخان الأول، واتخذها عاصمة ومقراً له.

توسع الإمارة العثمانية في عهد عثمان الأول


في محاولة أخيرة ويائسة، شن الامبراطور البيزنطي (أندرونيكوس الثالث باليولوجوس Andronicus III Palaeologus) هجوماً على العثمانيين بقصد إعادة الاستيلاء على المدن التي سقطت في أيديهم، قابله (أورخان) في "كنزة داريجاسي" (باللاتينية: بيليكانوم Pelekanom) شمال خليج "إيزمت" في يونيو 1329م وألحق به هزيمة ساحقة وأجبره على الارتداد إلى "القسطنطينية" ولم تستطع بيزنطة بعد تلك الموقعة إيقاف أي حراك توسعي عثماني في الأناضول، كما أنها سهلت على (أورخان الأول) كنتيجة لتلك المعركة السيطرة على "إزنك" مدينة العرش السلجوقي القديمة في 1331م وهو الأمر الذي شجعه على رفض التبعية للإيلخان المغولي في "تبريز" وإعلان البيت العثماني وريثاً شرعياً للسلطنة السلجوقية. كان لهذا الإعلان قيمة معنوية كبيرة، وأظهر التردد الذي أبداه أمراء الدويلات التركية في الأناضول في رفضه أو قبوله خوفهم من التوسع العثماني وقوة دولتهم المتنامية، ولم يرفضه صراحة سوى أمراء (قرة مان) الذين كانوا يسيطرون على "قونية" آخر عواصم السلاجقة ويعتبرون أنفسهم أحق بوراثتهم، كان إعلان أورخان تصريحاً باستعداد الدولة العثمانية الفتية لفتح جبهات جديدة إلى الشرق بجانب الجبهة البيزنطية وإنهاء عقود من سياسة الحياد في التعامل مع جيرانهم من الأتراك.

التوسع العثماني في عهد أورخان الأول

توسعت دولة أورخان واستطاعت الوصول إلى الشواطئ الثلاثة، مرمرة والأسود وإيجة، توسعت على حساب جيرانها من الأتراك لأول مرة، استولت على "أنقرة Ankara" بصلح ديبلوماسي، استولت على "بولو"، قلصت حكم أمراء العثمانية القدامى من بني (جاندار)، سيطرت على جزر مرمرة ومضيق "جنا قلعة" و"أسكودار" وأصبحت تتحكم في كامل الضفة الآسيوية لبحر مرمرة مع كل من مضيقيه، وقفت القوات العثمانية على مضيق البسفور واستشرفت قبة آية صوفيا على الضفة الأخرى للمضيق، سيطرت على جزء كبير من مقاطعة "كوتاهية"، استولى (أورخان) على "قرا صي Karasi" ومدينة "بيرجاما" إحدى أهم مراكزها (ضمن ولاية إزمير حالياً) وسيطر على أسطولها البحري الذي مكنه من السيطرة على بعض جزر بحر مرمرة كما انضم إليه جزء كبير من جيشها البالغ 25 ألف مقاتل، وارتفع بذلك تعداد جيشه إلى حوالي 120 ألف مقاتل منهم 50 ألف من الخيالة وأصبحت الدولة العثمانية بذلك أقوى قوة ضاربة في الأناضول(7)، انتقلت قوات (أورخان) إلى أوروبا للمرة الأولى، وقاتلت، تحت راية الامبراطور البيزنطي (يوحنا الخامس باليولوجوس John V Palaeologus) بعد عقد صلح معه في 1347م ضد المتمردين السلاف في البلقان، وقد وصل المقاتلون العثمانيون، تحت قيادة الشهزادة [ولي العهد] (سليمان بن أورخان)، حتى مدينة "سلانيك" (شمال اليونان)، اعترف (يوحنا الخامس) بفضل العثمانيين ومنح لسليمان في العام 1353م قلعة "جيمبا Gimpa" في شبه جزيرة "جاليبولي Gallipoli" على الضفة الغربية لمضيق "جنا قلعة"، وامتلك بذلك العثمانيون موطئ قدم في أوروبا لأول مرة(8). توفي (الشهزادة سليمان) في 1357م قبل وفاة والده وانتقلت ولاية العهد إلى أخيه (مراد الأول) الذي تولى السلطنة في مارس من العام 1362م واستمر في سياسة سلفه التوسعية شرقاً في الأناضول وغرباً في البلقان، كان (مراد الأول) مقتنعا بأن الحرب في الأناضول ليست إلا مضيعة لجهد ووقت هو في غنى عنها، وأن أي أرض جديدة يكسبها في البلقان ستوسع من نفوذه في الأناضول تلقائياً، ولذا فقد حاول استخدام سياسة ديبلوماسية مع الحد الأدنى من المجهود العسكري لضبط الأمور مع جيرانه الأتراك، ضغط مراد على الإمارة الحميدية (بني حميد) واضطرهم لقبول التنازل عن جزء من إمارتهم ضم مدن "آق شهر" و "بك شهري" و "سيدي شهري" و"يالواج" وأعلنوا قبولهم بالسيادة الاسمية للعثمانيين، سيطر على "أنطاليا" وفصل جغرافياً بين إمارات "آيدن" و"قرة مان و"جاندار" و"جيرميان"، وطد علاقته بجيرانه وقبل كل من (بني جيرميان) و (بني جاندار) بسلطته عليهم فيما رفضها (القرة مانيون) بالرغم من مصاهرة أميرهم (داماد علاء الدين) مع (مراد الأول)، كان (القرة مانيون) يعتمدون في نزاعهم الديبلوماسي البارد مع العثمانيين على حلفهم مع إمارة قبرص اللاتينية والسلطنة المملوكية في مصر والشام والتي كانوا يعتبرونها تابعة لهم! جرد مراد صهره من أهم حليف بعقده معاهدة صداقة مع المماليك في 1385م والذين أقنعوا الخليفة العباسي المقيم لديهم في القاهرة بمنح مراد لقب السلطنة رسمياً والاعتراف بالعثمانيين سلاطنة على الأناضول لأول مرة، رد (داماد علاء الدين) كان سريعا فتحرك واستولى على "بك شهري" في استفزاز واضح لحميه الذي أرسل له (الشهزادة بايزيد الأول) بجيش قوامه 70 ألف مقاتل، وهو أضخم من أي جيش جرده مراد في أي من معاركه وفتوحاته في البلقان طيلة سني حكمه، صرع بايزيد جيوش زوج اخته (داماد علاء الدين) واستعاد "بك شهري" في معركة خاطفة، توسطت زوجة (علاء الدين) له عند أبيها ودخل في طاعته مرة أخرى، كانت تلك المعركة إلهاءًَ ومضيعة للوقت والجهد في نفس اللحظة التي كانت القوات العثمانية في وضع حرج في البلقان في مواجهة إتحاد شرق-أوروبي تقوده إمارة "صربيا المورافية" ضد العثمانيين.

التوسع العثماني في عهد مراد الأول

وبالانتقال إلى الطرف الآخر من السلطنة، نرى أن العثمانيين قاموا ولأول مرة في عهد (مراد الأول) فرض العثمانيون الجزية، لأول مرة، على القسطنطينية، كما على مملكتي صربيا وبلغاريا، ثبت (مراد الأول) أقدام العثمانيين في البلقان وبحلول العام 1388م كانت السلطنة قد ضمت كلاً من "أدرنة" (باللاتينية Adrianople) (التي جعلها عاصمة للقسم البلقاني من السلطنة) و"فيلبي" و"مناسطير" و"صوفيا" [عاصمة بلغاريا الحالية] و"نيش"، استطالت سطوة العثمانيين في عهد (مراد الأول) ووصلت توسعاتهم إلى البوسنة وألبانيا و"آتيكا" [في اليونان] وضمت مملكة بلغاريا بالكامل، كان البابا (أوربان الخامس Urban V) قد دعى لتجهيز حملة صليبية لقتال العثمانيين والدفاع عن البلقان في 1364م وقد انطلقت الحملة السافويانية Savoyard crusade بالفعل في يناير من العام 1366م بقيادة الكونت (أمادوس السادس) حاكم مقاطعة "سافوي" [في جبال الألب وسط أوروبا] ولكنها لم تستطع تحقيق غايتها العسكرية وانحرفت بوصلتها تجاه معارك جانبية ضد الامبراطورية البلغارية، حققت حملة (سافوي) نجاحاً محدوداً في "جاليبولي" والذي عاد وأجهضه البيزنطيون بإعادة منحها للعثمانيين بعد حوالي عقد من الزمن كمكافأة أعطاها (يوحنا الخامس) لـ (مراد الأول) على جهوده في دعمه ضد ابنه أندرونيكوس الرابع الذي قاد ضده تمرداً فاشلاًَ انتهى في 1379م. طيلة العقد اللاحق وحتى وفاة مراد الأول ظلت صربيا عصية على العثمانيين بسبب صمود الأمير الصربي (لازار هريبلجانوفيتش) الذي واجه جيوش (مراد الأول) في "دبرونيفيتشا"  في ديسمبر 1381م [وسط صربيا الحالية] واستطاع هزيمتها وإعاقة تقدمها في البلقان وأجبر العثمانيين على الابتعاد عن إمارته طيلة السنوات الخمس اللاحقة، تعرضت إمارته لهجوم آخر في 1386م شنه القائد العثماني (قولا شاهين بيك) والذي مني بخسارة فادحة وسقط حوالي ثلاثة أرباع جيشه المكون من 20 ألف مقاتل ما بين قتيل وجريح، بالرغم من صمود إمارة (لازار) ومملكة صربيا إلا أن آخر معاقل بلغاريا سقطت بالفعل بعد سنة واحدة فقط بعد هجوم شنه (جاندرلي علي باشا) الصدر الأعظم(9) على ضفاف نهر "الدانوب" وأدى ذلك لتزايد الخطر العثماني على صربيا وما تبقى من إمارات وممالك البلقان التي استنجد رؤسائها بالبابا في الفاتيكان لنجدتهم وقد أعلن بالفعل عن استنفار حملة صليبية جديدة على العثمانيين، اتحد (لازار هريبلجانوفيتش) مع أمير مقاطعة "برانكوفيتش" والملك البوسني كما ذُكر في بداية المقال بهدف شن هجوم موسع على مناطق سيطرة العثمانيين في البلقان، وتقابل الاتحاد مع جيش (مراد الأول) الذي قاده بنفسه برفقة ابنيه (الشهزاده بايزيد الأول) و(يعقوب شيلبي Yakub Celebi) في معركة "قوصوة" (باللاتينية: كوسوفو Kosovo) في يونيو 1389م، سقطت (لازار) و(مراد) صرعى بنهاية المعركة وتولى (بايزيد الأول) السلطنة خلفاً لأبيه. بالرغم من الإنهاك الذي نال من العثمانيين بسبب معركة "كوسوفو" إلا أن نتيجتها حسمت أمر الوجود العثماني في البلقان، وثبتت أقدامهم فيها طيلة الخمسمائة سنة اللاحقة.

لم تنتهِ توسعات العثمانيين عند هذا الحد، ظلت الماكينة الحربية تعمل بجد ونشاط طيلة قرون لاحقة، وكادت تحقق (إنجازات) أكبر وأضخم مما وصلت إليه، طرق العثمانيون أبواب (فيينا) النمساوية و(روما) الفاتيكانية وإن لم ينجحوا بدخولها، خاضوا حروباً ضروساً مع روسيا وإيران، رُفعت أعلامهم على معظم دول الساحل الشمالي لأفريقيا، وكانوا أول قوة عظمى نازعت البرتغاليين على نفوذهم في الخليج الفارسي والقرن الأفريقي، وغير ذلك مما لن يتسع المجال لذكره في مقال واحد.


--------------------------------

(1) المقصود هنا خليط الأعراق الذي كون مجمل رعايا السلطنة السلجوقية من ترك وكرد وفرس، واستُخدمت (أتراك) اختصاراً ولغلبة العنصر التركي لاحقاً.

(2) كانت لغة النخبة المفضلة هي الفارسية وهي التي استخدموها لنظم الشعر، بينما استخدم السلاجقة العربية في المعاملات الرسمية وتكلم عامة الناس بالتركية. كانت عائلة قرة مان (1250 - 1487 م) التي حكمت واحدة من الإمارات الغرب-أناضولية التي نشأت نتيجة لتفكك السلطنة في النصف الثاني من القرن الثالث عشر أول من استخدم اللغة التركية كلغة رسمية وفرض التتريك ثقافياً.

(3) اسمه كندز ألب وكان قائدًا لعشيرة قايي سلفاً لابنه أرطغرل، وليس (سليمان-شاه) كما درج في بعض الأساطير التي أحاطت باسم مؤسس البيت العثماني، ويُرجح أن تسمية أبيه بسليمان كانت لأجل ربطه باسم السلطان سليمان بن قتالمش سلطان سلاجقة الروم الأول، وكان ذلك بسبب توطيد لصلة مفترضة بين العثمانيين والسلاجقة باعتبارهم خلفاء شرعيين لهم.

(4) العشائر أبو البطون الخاقانية: عشائر تركية كانت تملك حق تأسيس السلطنات والإمارات تبعاً لتقاليد متوارثة بين الأقوام التركية من مرحلة ما قبل الإسلام بناء على حقوق منحت لها على أساس تشريعات أقرتها الديانة التركية القديمة.

(5) سلالة من الأمراء الأتراك كُلفت بإدارة المنطقة الواقعة ما بين شرق الأناضول وشمال الهلال الخصيب تحت الحكم السلجوقي، انقسمت إلى ثلاثة أفرع رئيسية حكم أحدها ماردين وتفرع من فرع ماردين فرع آخر حكم حلب، وفرع ثاني في هاربوت وآخر في حصن كيفة.

(6) أوج بيك = أمير مقاطعة حدودية، ويوازي لقب (ماركيز) المستخدم في فرنسا.

(7) كانت ثاني أقوى إمارة في الأناضول في ذلك الوقت، إمارة بني (قرة مان) ومركزها في قونية، تمتلك جيشاً يبلغ تعداده 50 ألف مقاتل نصفهم من الخيالة، ساعدت سياسة العثمانيين في ضم التشكيلات العسكرية للإمارات المهزومة إلى جيشهم بدلاً من تفكيكها في زيادة قوتهم العسكرية لتصبح دولتهم الأقوى في الأناضول.

(8) كان أول عبور للأتراك إلى البلقان في العام 1263م (قبل العثمانية) وقد كان عبور العام 1353م في عهد أورخان هو العبور السابع عشر.

(9) لقب يستخدم لوصف رئيس الأمراء والوزراء في السلطنة وهو أعلى منصب في الدولة بعد السلطان ويملك ختم السلطنة ولا يملك أمر تعيينه أو عزله سوى السلطان نفسه.

الاستعمار البريطاني في الجزيرة (4): العلاقات الكويتية النجدية في ظل الهيمنة البريطانية (القسم الثاني)

استعرض الجزء السابق من هذه المقالة علاقات نحد والكويت قبل وأثناء الحرب الكبرى، والطريقة التي تعاملت بها بريطانيا مع الخلافات التي نشبت بين الطرفين، وكيف استطاعت بنجاح أن تسيطر على تنافسية عبد العزيز وسالم المبارك المحتدمة وتمنع تأثيرها سلباً على سياستها في الخليج وعملياتها العسكرية في سورية والعراق في آخر سنوات الحرب. سيبدأ هذا الجزء من النقطة التي توقف عندها الجزء السابق وسيكون آخر مقال في هذه السلسلة يتطرق إلى علاقات نجد والكويت. وسيناقش، كما أوضح ختام المقال السابق، النزاعات الحدودية والعلاقات الاقتصادية.

انتهت الحرب وتبخرت معها سيطرة الأتراك على العراق والخليج لصالح الوريث البريطاني، أصبح الوقت ملائما أمام بريطانيا الآن لإعادة رسم الحدود على خريطة المنطقة، وكان من المنطقي أن يدرك سالم المبارك ذلك، وأن يوقن بأنه في حال استمرت ممالئة بريطانيا لعبد العزيز آل سعود فإنه سيفقد جزءاً من إمارته وربما سيخسرها كلها لعبد العزيز، وهو الذي كان يفكر أيضاً بذات الطريقة، بحيث استمرت سياسته التوسعية حتى بعد انتهاء الحرب وفقدان دافعها الأساسي الذي نال من أجله دعم البريطانيين وهو تقويض نفوذ العثمانيين في الجزيرة، ولم يكن يهتم عبد العزيز كثيراً بما إذا كانت توسعاته هذه تأتي على حساب حلفاء آخرين لبريطانيا.



خريطة الكويت حسب الاتفاقية الانجلو - عثمانية 1913م

بادر سالم المبارك إلى تأمين الحد الجنوبي لإمارته ببناء حصن في خور البلبول على شاطئ الخليج، كان الكويتيون يعرِّفون حدود إمارتهم طبقاً للحدود التي رسمتها لهم بريطانيا عام 1913م في المعاهدة الأنجلو - عثمانية، حيث كانت الإمارة شبه دائرة مركزها مدينة الكويت وتمتد حدودها من خور الزبير (140 كلم شمالاً) وتنتهي عند رأس منيفة (270 كلم جنوباً) مروراً بحفر الباطن والصفا والقرعا والرهابة ووبرة وأنطاع، كان خور البلبول الذي يقع بالقرب من رأس منيفة آخر نقطة تصل إليها حدود الإمارة من الجنوب كما كان يمتاز بغزارة المياة ويمكن استخدامه كمرسى طبيعي للسفن الشراعية. كان خور البلبول يقع ضمن الأحساء بحسب عبد العزيز ويدخل ضمن نطاق أراضيه، ولذا فقد رفض أن يبني الأمير الكويتي فيه حصناً عسكرياً وأرسل احتجاجاً على تحركه إلى الوكيل السياسي البريطاني في الكويت (الميجور جيمس سي. موور)، رفض سالم الاحتجاج وأرسل لعبد العزيز رسالة يوضح له فيها أن خور البلبول تقع ضمن ممتلكاته وحدود إمارته إلا أنه عاد والتزم بتجميد البناء فيه بعد الضغوط البريطانية، لم يكن سالم يعلم حتى ذلك الوقت بأن معاهدة دارين - العقير 1915م التي وقعها عبد العزيز مع بريطانيا لم ترسم أبداً أي حدود بين نجد وجيرانها، ونصت بصراحة على أن تُناقش مسألة الحدود هذه لاحقاً.

عزم عبد العزيز على الرد بسرعة على خطوة سالم، فأمر أحد زعماء قبيلة المطير، وهو هايف بن شقير الدويش، لأخذ جماع من قبيلته وتأسيس هجرة للإخوان بالقرب من منطقة قرية العليا (أو جرية) وذلك في العام 1920م، احتج سالم بدوره على تصرف عبد العزيز، وأرسل اجتجاجه للميجور موور ولمندوب عبد العزيز في الكويت وأرسل لابن شقير الدويش يأمره بمغادرة قرية على الفور، لم يستجب ابن شقير الذي رد على رسالة سالم ببساطة بأنه لا يتلقى أوامراً منه ولا يستجيب إلا لأوامر عبد العزيز فقط، ولم يقبل عبد العزيز بإنهاء تواجد المطيريين في قرية ورفض الاستماع للبريطانيين في هذا الخصوص، لم يعترف عبد العزيز بمعاهدة 1913م بين الانجليز والأتراك واعتبر أن جميع مناطق الأحساء والقطيف جزء من إمارته ووهبت له شرعاً على يد الوالي العثماني في البصرة بعدما دخلها قبل سبعة أعوام، بدون شك فقد طمح عبد العزيز في ضم الكويت لأراضيه وما كان ليسعده شيء أكثر من سيطرته على ميناء حيوي على الخليج يمثل نقطة على خط تجاري دولي كميناء الكويت، ولإدراكه باستحالة إقناع البريطانيين بتوحيد نجد والكويت فقد كان يطمح على الأقل في تقليص حجم إمارة آل الصباح لأقصى حد ممكن، وسبق وأن صرح أكثر من مرة برغبته في حصر الإمارة الكويتية عند حدود سور عاصمتها الخارجي معتبراً أن هذه حدودها الطبيعية التي المعتادة كما كانت في عهد أسلافه. تواصلت احتجاجات سالم على ما اعتبرها تعديات للنجديين على إمارته، كان الوضع معقداً بصورة أكبر من أن يقدر الميجور موور على التعامل معه، واضطر لزيارة رؤسائه في بغداد في 18 مارس 1920م والتقى فيها المندوب السامي في العراق آرنولد ويلسون، وعاد إلى الكويت برسالة منه سلمها لسالم المبارك يطمأنه فيها بأن بريطانيا ستعمل على ترسيم الحدود بين نجد والكويت بما يرضي الطرفين، لم يقتنع سالم وطلب من موور أن يعمل على إنهاء تواجد النجديين في قرية العليا، قام موور بمراسلة ويلسون في 23 أبريل 1920م طالباً منح النصح بخصوص مطالبات سالم، لكن لم يج ويلسون على رسالة موور واضطر سالم للتصرف من تلقاء نفسه، أرسل سالم أحد رجاله وهو دعيج بن سلمان على رأس قوة عسكرية صغيرة قوامها 400 مقاتل عسكرت في حمض على بعد 60 كلم من قرية العليا لتأكيد حقوقه على قرية ولحماية بادية الكويت من الهجمات النجدية، لاحت بوادر الصدام المسلح في الأفق.

كان من السهل على عبد العزيز أن يعتبر تحرك سالم الأخير إعلاناً للحرب، وأن يرد عليه بنفس الحدة، إلا أنه كان مقيداً أيضاً بالتزامه أمام البريطانيين بمعاهدة دارين - العقير 1915م بعدم المساس بأمن جيرانه وبعدم اللجوء إلى السلاح لحل خلافاته معهم، بالرغم من ذلك فقد صدرت عن نجد استجابة عنيفة تجاه تحرك دعيج بن سلمان ناحية حمض، ولكن من غير المعروف على وجه الدقة إذا ما كانت هذه الاستجابة قد تمت بمعرفة وتوجيه عبد العزيز أم ارتجالاً بدون الحصول على موافقته، بأي حال، فقد تحرك فيصل الدويش أحد أهم زعماء المطير بقوة عسكرية قوامها 2000 مقاتل نصرة لأبناء عمومته في قرية العليا، واشتبكت قواته مع الكوتيين في 18 مايو 1920م ومنيت قوة دعيج بن سلمان بهزيمة ساحقة بسبب تفوق النجديين العددي.

كانت معركة حمض أول مواجهة مسلحة بين نجد والكويت في عهد الدولة السعودية الثالثة وقد دفعته نتيجة المعركة لزيادة تحصينات مدينته خوفاً من هجوم نجدي محتمل(1)، احتج سالم على ما قام به عبد العزيز أمام البريطانيين، وقد عادوا للتأكيد مجدداً على أنهم سيعينون من سيقوم بترسيم الحدود بين الكويت ونجد في أقرب فرصة متاحة، أسقط في يد سالم واضطر للاستجابة لنصيحة موور بإرسال وفد لنجد ليفاوض عبد العزيز مباشرة، والذي وصل إلى الرياض في 30 مايو 1920م واستقبله عبد العزيز وقدم الاعتذار للكويت عبره على ما بدر من الدويش في حمض وأكد للوفد أن سالم هو من بادر بالاعتداء، وعاد ليذكرهم ثانية باتصالات أميرهم مع أعدائه في حائل آل رشيد. تبادل سالم وعبد العزيز الرسائل لاحقاً على أمل الوصول إلى حل للأزمة ولكن بدون أي فائدة، فقد كان كلا الطرفين متمسكاً بموقفه من الحدود، وقد أظهر ذلك لعبد العزيز ضرورة استحثاث البريطانيين على التدخل، راسل عبد العزيز البريطانيين في أواخر يونيو 1920م وجاء ردهم يطلب منه أن يحل مشاكله مع جيرانه بنفسه بدون أي عنف كما سبق وتعهد.

أرسل عبد العزيز أيضاً رسالة للميجور موور في 5 يوليو 1920م يؤكد فيها عدم معرفته(2) بما قام به الدويش، ويؤكد له بأن غنائم الإخوان من المعركة قد جُمعت منهم ووعده بعدم تكرار ما حدث بشرط أن يتعهد سالم بعدم التعدي على حدود نجد مرة أخرى، قام موور بتمرير الرسالة إلى آرنولد ويلسون في بغداد وقد أجابه في 9 يوليو 1920م طالباً منه أن يخبر سالم رسمياً بأن الحدود التي أقرتها المعاهدة الأنجلو عثمانية 1913م أصبحت لاغية بموجب ما أقرته بريطانيا مع عبد العزيز في دارين - العقير 1915م. وأن يطمأن كلا الطرفين بأن الحكومة البريطانية ستقوم بترسيم الحدود طبقاً للأصول. من الواضح أن عبد العزيز لم يقتنع بتسويفات مسؤولي بريطانيا في العراق، وطمح في إيصال وجهة نظره إلى لندن لحثها على التعجيل بالأمر، فأرسل في 28 يوليو 1920م رسالة لديكسون وكيل بريطانيا في البحرين يطلب منه الضغط باتجاه تولي حكومة بلاده حل الأزمة، راسل ديكسون وزارة الخارجية في لندن في 19 أغسطس وشرح لهم الوضع بالتفصيل ونقل تصورات كل من عبد العزيز وسالم عن الحدود بين نجد والكويت، واعتراض عبد العزيز على اعتماد سالم على معاهدة 1913م بين الانجليز والأتراك كمرجع لترسيم الحدود نظراً لاختلاف الوضع على الأرض واحتجاجه بأن حدود إمارته يجب أن تغطي أماكن سكن القبائل التي تدين له بالولاء.

اقترحت الحكومة البريطانية وضع محكمين من طرفها لأجل حسم الخلاف، وبالطبع فقد اشترطت على كلا الطرفين القبول مسبقاً بالتحكيم أيًّا كانت نتيجته، وقد طلبت بريطانيا من سالم وعبد العزيز وضع تصوراتهما الخاصة عن الحدود كأساس لبداية النقاش، وحيث أن كلا الطرفين قد تشدد في مطالبه (الموضحة بأعلاه، سالم أراد الكويت كما رسمتها المعاهدة الأنجلو عثمانية، وعبد العزيز أرادها داخل حدود المدينة وتنتهي عند سورها الخارجي فقط)، فقد فشلت جهود التحكيم قبل أن تبدأ ولم يكن من المتاح الوصول لأرضية تفاهم مشتركة بين الكويتيين والنجديين.

في نهاية سبتمبر 1920م كان بيرسي كوكس في طريقه إلى بغداد لاستلام مهامه كمندوبٍ سامٍ للعراق خلفاً لآرنولد ويلسون، وفي طريقه التقى بكل من عبد العزيز في ميناء العقير وسالم في الكويت، بغرض استعراض وجهتي نظرهما في حسم الخلاف الحدودي، وهنا صرح عبد العزيز لكوكس، الذي كان يعتبره صديقاً شخصياً، عن أطماعه الحقيقية، وطلب منه العمل على إقناع الحكومة البريطانية بضم الكويت بكاملها إلى أملاكه وإمارته، كان عبد العزيز قد استغل حضور جون فيلبي (الذي كان وقتها وكيلاً سياسياً لبريطانيا في نجد) للقاء، وذكر باقتراحه الذي طرحه قبل ثلاثة سنوات(3)، وبالطبع فقد واجه هذا الطلب رفض كوكس الحاسم، كان الإنجليز يدركون خطورة منح رجل كعبد العزيز، تصعب السيطرة عليه، نفوذاً مطلقاً على ساحل الخليج، فلن تقف أطماعه التوسعية عند الكويت فحسب وربما ستمتد إلى إمارات أخرى، كما أنهم ما كانوا ليقبلوا بفقدان السيطرة التي يمنحها لهم وجود آل الصباح على رأس الإمارة الكويتية على ميناء الإمارة الحيوي والذي يشكل نقطة ربط مع المستعمرة البريطانية في العراق. أما في الكويت، فقد عاود سالم المبارك شكايته المعتادة من تعديات عبد العزيز على حدود إمارته وتذكير كوكس بالمعاهدة الأنجلو – عثمانية 1913م والخريطة التي رسمتها لحدود الكويت، كان جون فيلبي أيضاً حاضراً للقاء سالم مع بيرسي كوكس كذلك، وتولى مهمة الدفاع عن عبد العزيز متهما سالم بالبدء بالتعدي على نجد وعلى رعايا عبد العزيز في قرية(4). وعد كوكس سالم بأن بريطانيا ستظل محافظة على التزاماتها تجاه أصدقائها الكويتيين وأنه سيبذل ما بوسعه لمتابعة الخلاف بينه وبين عبد العزيز. وما أن وصل كوكس إلى بغداد في 2 أكتوبر 1920م لتسلم مهام عمله الجديد حتى باشر بمراسلة الخارجية في لندن موضحاً بأن الطرفين في الكويت ونجد متشددان في الدفاع وجهتي نظرهما في نزاعهما الحدودي، واقترح جمعمها على طاولة مفاوضات واحدة في البصرة لتقريب وجهات النظر، وفي حال فشل المفاوضات فيجب أن تفرض بريطانيا عليهما تصورها الخاص عن الحل.

لم تفلح تطمينات بيرسي كوكس في منع اشتعال الصدام المسلح بين الطرفين مرة أخرى، وهذه المرة كانت المواجهة بالقرب من قرية الجهراء الكويتية (حوالي 30 كلم عن العاصمة)، وعلى الرغم من تضارب بعض المصادر في تحديد السبب الرئيسي وراء اشتعال المواجهة إلا أن قراءة الظروف تؤكد أن المواجهة كانت حتمية، فقوات الإخوان تحت قيادة فيصل الدويش كانت لا تزال تذرع الحدود بين نجد والكويت جيئة وذهاباً في استفزاز واضح للكويتيين وقد وصلت في 8 أكتوبر 1920م إلى الصبيحة، وكان من المنطقي أن يتعامل سالم مع تحركات الدويش كمقدمة لهجوم مرتقب على الكويت، ولذا فقد حشد قواته في الجهراء استعداداً لأي طارئ، وقام بحسب بعض المصادر بالتواصل مع بن رشيد طالباً منه دعماً عسكرياً والذي أرسله على الفور ليصبح عند سالم في الجهراء 1500 مقاتل تحت قيادته، في 10 أكتوبر 1920م تقدم فيصل الدويش على رأس قوة عسكرية من الإخوان مكونة من 4000 مقاتل من ضمنهم 500 فارس واندفعوا نحو الجهراء بقوة واستطاعوا اجتياحها خلال ثلاثة ساعات، وبالرغم من أن الكويتيين استطاعوا امتصاص الهجوم في بدايته إلا أن نفاذ ذخيرتهم والتفوق العددي للإخوان اضطرهم للتراجع وترك أسلابهم في شوارع الجهراء واللوذ بأسوار قصر الأمير داخلها والذي يُسمى بالقصر الأحمر. سقط من الكويتيين أثناء انسحابهم أكثر من 300 قتيل بخلاف الجرحى، أي أن خمس الجيش الكويتي على الأقل قضى نحبه خلال ساعات الهجوم.

استنجد سالم بالبريطانيين وطلب منهم إيقاف الهجوم على الجهراء، نصح الميجور موور قيادته في بغداد بإرسال تعزيزات عسكرية بهدف منع تقدم الإخوان وتوغلهم أكثر في أراضي الكويت، وبالفعل فقد رست سفينتان عسكريتان بريطانيتان أمام ميناء الكويت في 14 أكتوبر 1920م وقدمت بعض الطائرات الحربية من العراق والتي حلقت فوق الصبيحة وألقت عدداً من المنشورات فوق تجمعات الإخوان موجهة باسم الميجور موور إلى فيصل الدويش ومن معه توضح أن التعدي على أملاك سالم يعني تعدياً على بريطانيا، وتأمرهم بالانسحاب الفوري من الجهراء والصبيحة.

كان الدويش قد أرسل لسالم المبارك شروطاً مسبقة للقبول بالانسحاب من الجهراء توضح كمَّ ما يعاني منه هذا الرجل من صفاقة، فقد طلب منه تحريم تجارة واستخدام التبغ في الكويت وقطع العلاقات مع الإنجليز وهدم المستشفى الأمريكي وطرد طاقمه والانخراط في سلك الإخوان والامتثال لتعالم الوهابية! في 20 أكتوبر 1920م وصلت رسالة من بيرسي كوكس إلى كل من سالم وعبد العزيز يأمرهم بوقف العمليات العسكرية وطلب من عبد العزيز سحب الإخوان من الصبيحة على الفور وقد أرسل له عبد العزيز رده بموافقة مشروطة، فلن يسحبهم إلا إذا تعهد سالم بإيقاف هجماته على نجد وقطع علاقاته مع إمارة حائل وابن رشيد. بعد أقل من أسبوع أرسل عبد العزيز رسالة إلى ديكسون الوكيل السياسي البريطاني في الكويت عرض فيها رواية مغايرة للأحداث ومبرراً أحداث الجهراء بهجوم سابق شنته قوات كويتية على فرقة استطلاعية نجدية كان يقودها ابن عمه عبد العزيز بن تركي آل سعود وقد كانت تتمركز على مسافة مسير يوم ونصف اليوم من الرياض (أي أنها داخل حدود نجد وخارج نطاق المنطقة المتنازع عليها)، وقد دفع هذا الهجوم فيصل الدويش إلى ما قام به في الجهراء.

بأي حال فإن الدويش طلب من سالم إرسال رد على مطالباته الموضحة بأعلاه، ورفض سالم وطلب منه أن يأتي إلى الكويت بنفسه للقاءه، ذهب الدويش بالفعل والتقى بسالم بحضور الميجور موور الذي أوضح له ببساطة أن بقائهم في الجهراء والصبيحة يعني تعرضهم للقصف الجوي فوراً وأن بريطانيا لن تتخلى عن الكويت ومصالحها فيها، بل إنه أوضح ثقته في رفض قائده عبد العزيز لتصرفاته هذه مؤكداً على حرص الأخير على صداقته مع آل الصباح، انصاع فيصل الدويش وقبل بالانسحاب خارج الجهراء والصبيحة وعاد للتمركز مع إخوانه في هَجرَة الأرطاوية.

تلقى عبد العزيز لاحقاً دعوة من القنصل البريطاني في البصرة لحضور لقاء سينضمه بيرسي كوكس بينه وبين الأمير الكويتي، لم يوافق عبد العزيز على الذهاب إلى البصرة متذرعاً بضروفه الصحية وانشغاله ببعض شؤون إمارته الداخلية وأبلغ القنصل عدم ممانعته أن ينوب بيرسي كوكس عنه في هذا اللقاء. في ذات الوقت تدخل حاكم المحمرة الشيخ خزعل للوساطة بين الطرفين وأرسل، بعد اتصالات مع الميجور موور، ابنه كاسب بن خزعل، وانضم لوفد جمع شخصيات من الكويت برفقة الأمير أحمد الجابر الصباح والتقوا بسالم في 30 ديسمبر 1920م، ومن ثم بعبد العزيز في 12 فبراير 1921م وأثناء مباحثاتهم معه وصلهم خبر وفاة سالم المبارك في 27 فبراير 1921م فتوقفت المباحثات على الفور وقام عبد العزيز بإلغاء كل ما تم الاتفاق عليه خلالها(5) وعاد أحمد الجابر إلى الكويت وتم الاتفاق على تنصيبه أميراً على الكويت مع تنصيب ابن عمه عبد السالم في ولاية العهد.


ظلت المساعي التي تبذلها بريطانيا من أجل إنهاء الأزمة الحدودية بين نجد وجيرانها قائمة، خاصة وأن توسع عبد العزيز والذي شمل إمارة حائل بعد استسلام آخر أمرائها محمد بن طلال في نوفمبر 1921م وأصبحت سلطنة نجد وملحقاتها مرتبطة بحدود مع كل من مملكة العراق وإمارة شرق الأردن وكلاهما بلدان واقعان تحت الانتداب البريطاني، إضافة إلى الكويت المرتبطة مع بريطانيا بمعاهدة حماية. صحيح أن عبد العزيز تخلص من عدو تاريخي متمثل في آل رشيد، وأن أمير الكويت الجديد أحمد الجابر تربطه بعبد العزيز علاقة صداقة وثيقة رغم الخلافات العميقة بينه وبين عمه، لكنه أصبح محاطاً بالهاشميين من ثلاثة جهات (شرق الأردن والعراق والحجاز) والظروف التي نشأت فيها دولهم جعلتهم على عداء تنافسي مع سلطنة نجد الفتية وحاكمها الطموح، لذا، كان من الأفضل لعبد العزيز أن يضمن لنفسه حدوداً واضحة مع جيرانه(6)، كما أن بريطانيا رأت في خريطة مقسمة بخطوط واضحة فرصة لضمان استقرار انتدابها على حصتها من تركة الدولة العثمانية، ولمنع عبد العزيز من فرض المزيد من التوسعات خارج صحراء نجد سواء في الكويت أو العراق، كما اهتمت بريطانيا بتوزيع ولاءات القبائل بين الدول الأربعة بغض النظر عن حركتها المستمرة بحثاً عن الماء والمرعى بين الأراضي التقليدية للدول المذكورة(7)، وذلك لضبطها ومنع تعدياتها على بعضها البعض وتهديدها لاستقرار المنطقة وتوكيل إدارات هذه الدول بضمان ذلك. وقعت سلطنة نجد مع مملكة العراق (تحت رعاية بيرسي كوكس المندوب السامي البريطاني في العراق) اتفاقية المحمرة في 5 مايو 1922م والتي عنيت بتحديد ولاءات القبائل بين الدولتين وتقسيم الآبار في المنطقة الحدودية دون ترسيم الحدود بشكل واضح، وقد أتبعت بريطانيا اتفاقية المحمرة بمؤتمر آخر عُقد في العقير في 2 ديسمبر 1922 صدر عنه بروتوكولان تكميليان لاتفاقية المحمرة قام بترسيم الحدود نهائياً مع العراق كما نتج عنه ترسيم نهائي للحدود بين سلطنة نجد والكويت، وهي الحدود التي أنهت وبشكل رسمي أي ذكر للاتفاقية الانجلو - عثمانية 1913م والحدود التي رسمت وقتها. 


حضر عبد العزيز المؤتمر بنفسه بصحبة وفد يمثل سلطنته، فيما مثل صبيح نشأت وزير المواصلات العراقي الملك فيصل، أما أحمد الجابر فقد ناب عنه الوكيل السياسي البريطاني في الكويت الميجور جيمس سي. موور.  كان الخلاف بين العراق ونجد عميقاً ولم تسفر المحادثات بين الطرفين عن أي اختراق أو تقدم، وما كان ليحدث هذا الاختراق وفيصل يطالب بأن تصل حدود مملكته إلى أسوار الرياض، وعبد العزيز يطالب بأن تصل حدود سلطنته إلى نهر الفرات وأسوار الكويت! في النهاية، تدخل بيرسي كوكس وحسم الخلاف القائم بقلم أحمر خط به حداً امتد من شاطئ الخليج حتى جبل عنزان في شرق الأردن، وحدد منطقتين محايدتين تفصل الأولى بين نجد والعراق وتفصل الثانية بين نجد وجنوب الكويت، وبذلك، أكدت الخريطة بشكلها هذا على اقتطاع عدد كبير من الآبار التي كانت تردها القبائل النجدية ضمن حدود العراق فيما حرمت عبد العزيز من جميع مطالباته في أراضي إمارة الكويت، أثار ذلك حفيظة عبد العزيز واجتمع مع بيرسي كوكس على هامش المؤتمر واشتكى من ما وصفه بـ (حرمان بريطانيا له من معظم أراضي سلطنته(، وكنتيجة لهذا اللقاء اقتطع بيرسي كوكس من أراضي الكويت مقلصاً مساحتها إلى الثلث تقريباً، بدون أي اعتراض من ممثل الكويت الميجور موور والذي لم يشارك في المباحثات سوى بالتوقيع على الاتفاقية النهائية.

 وثق هارولد آر. ديكسون الوكيل السياسي البريطاني في البحرين لقاء كوكس وعبد العزيز، وحسبما نقل فإن عبد العزيز بكى أثناء اللقاء وقال لكوكس أنه حُرم من معظم سلطنته وأن الأجدى ببريطانيا أن تتركه يستقيل وتأخذ بقيتها، وأن هذا الموقف أثر في كوكس وجعله يغير موقفه ويعوض عبد العزيز من أراضي إمارة الكويت دون الرجوع لأحمد الجابر مجازفاً بردة فعله أو بعدم قدرته على إقناعه بقبول الترسيم النهائي للحدود ورفضه للمصادقة عليه. وبغض النظر عن صدق التفاصيل التي أوردها ديكسون بخصوص هذا اللقاء، فإن المنطق يقول أن كوكس ما كان ليتخذ قراراً كهذا فقط لتأثره بشاعرية عبد العزيز! ويمكن البحث عن دوافع كوكس في الاسباب التالية:

1- كان قرار كوكس مرتبطاً بوضع معقد تشهده المنطقة بسبب التنافس بين السعوديين والهاشميين ورغبة بريطانيا في تقليل الاحتكاك بين الطرفين.

2- المنطقة التي ضمها عبد العزيز بعد تفكيكه لإمارة حائل كانت مكان سكن تاريخي لعدد من القبائل المعادية لعبد العزيز (أبرزها شمر) والتي اضطرت للهجرة إلى جنوب العراق للابتعاد عنه، وقد تعود للاحتكاك به مرة أخرى وغزو أراضيه مما قد يشجعه ليمارس على العراق ضغطاً عسكرياً كالذي مارسه على الكويت في عهد سالم وهو الأمر الذي سيقوض استقرار المنطقة.

3- بناء على النقطة السابقة، كان لا بد من إبعاد عبد العزيز عن جهود التنقيب عن البترول في البصرة.

4- كان عبد العزيز أقل حكام المنطقة خضوعاً للانجليز، وكان من الممكن أن يحول ولاءه بسهولة إلى قوة عظمى أخرى ويتنكر لمعاهدته مع بريطانيا وهو الذي قام به فعلاً عندما منح امتياز التنقيب عن النفط في الأحساء لفرانك هولمز أولاً ثم منحه لاحقاً للأمريكيين رغم ادعاء الشركة (الأنجلو – فارسية) لحقها في التنقيب في الأحساء والذي حصلت على امتيازه من سلطات البصرة العثمانية، كما أن مشاريع بريطانيا لتوحيد سورية الكبرى تحت الحكم الهاشمي قد تستفز الفرنسيين للتواصل مع عبد العزيز والذي سيتجند بسهولة للوقوف في وجه تقوية الحكم الهاشمي في سورية، وهو الأمر الذي تم لاحقاً بالفعل.

5- كانت سلطة الأمير الكويتي قد تقلصت في الصحراء بسبب ازدياد ولاء القبائل البدوية لعبد العزيز وزيادة انخراطهم في سلك الإخوان، وكان من الأجدى ضم الأراضي الكويتية البعيدة عن المركز المتمثل في العاصمة إلى سلطة عبد العزيز ليضمن سيطرة أكبر على القبائل التي تسكنها.

6- كانت قوة عبد العزيز وسياسته العسكرية في التعامل مع جيرانه مجربة خلال السنوات القليلة الماضية، ويستطيع بسهولة مهاجمة الكويت والعراق مستخدما تشكيلات الإخوان العسكرية والتي يستطيع التملص من مسؤوليته عنها، وهي الحجة التي استخدمها بيرسي كوكس في إقناع أحمد الجابر بالمصادقة على ترسيم الحدود بين نجد والكويت والذي تم إقراره في العقير، وقد قال له بوضوح (لقد سبق السيف القلم)، وأوضح له أنه إن لم يتنازل لعبد العزيز عن مطالباته في الكويت فسينتزعها منه بالقوة.



خريطة توضح المنطقة المحايدة بين السعودية والكويت بحسب اتفاقية العقير 1922م

أي في خلاصة الأمر، كان لا بد من إبعاد عبد العزيز عن العراق وإرضاءه عوضاً عنه بالكويت مع الاستمرار قدر الامكان بكسبه صديقاً وحليفاُ. لقد صدمت بريطانيا حليفها الكويتي وأرغمته على قبول شروط مجحفة إرضاء لرجل الجزيرة الأول والأقوى، وكانت تأمل أنها بتصرفها هذا ستظل قادرة على فرض سيطرتها على إرادته السياسية، أو كسبه في صفها على الأقل. ما لم يحسب بيرسي كوكس حسابه أن إملائاته هذه على الكويت ونجد والعراق لن تؤدي بأي حال إلى الوصول إلى الاستقرار الذي كان يتمناه، فالاتفاقات الموقعة كانت مليئة بالثغرات، فالقبائل التي قطنت هذه المناطق لمئات السنين لن تغير نمط حياتها وعاداتها وطرق كسبها للعيش بين ليلة وضحاها، الاتفاقيات أيضاً لم توضح آلية الاستفادة من المناطق المحايدة، وقد تفاقمت مشكلة هذه المناطق بعد اكتشاف حقول النفط فيها، وقد أثبتت الأيام أن تسوية العقير لم تكن كافية لضمان استقرار المنطقة ونزع فتيل الخلافات بين أطرافها، وقد ابتدأت هذه المشاكل عندما فرض عبد العزيز حصاراً سعودياً اقتصادياً على الكويت، وبدأ يفقد سيطرته تدريجياً على مليشيات الإخوان التي خدمته في تشكيل مملكته مترامية الأطراف أكثر من أي شيء آخر.

بوصفه أحد أنشط الموانئ على الخليج، كان أهل نجد يفضلون (مسابلة) ميناء الكويت بدلاً من موانئ الأحساء (القطيف، جبيل والعقير)، وقد كانت أهل نجد يشترون بضائعهم من الكويت وبتوزعون في مناطق نجد ويقومون ببيعها دون أن تستطيع إدارة السلطنة أن تحصل منهم تعرفة جمركية على غرار التي كان يحصلها الكويتيون في ميناء مدينتهم، سبق وأن تنبه عبد العزيز لهذه المشكلة في العهد القصير الذي قضاه جابر المبارك على رأس الإمارة، وطلب من أميرها أن يقتسم معه عائدات الجمارك، لم يعد عبد العزيز لإثارة الموضوع إلا في عهد أحمد الجابر وذلك قبل توقيع معاهدة العقير، في سنة 1921م أرسل عبد العزيز رسالة لأحمد ينبأه بأنه سيمنع تجار نجد من مسابلة ميناء الكويت وأنه سيوجههم عوضاً عن ذلك إلى موانئ الأحساء، ليس فقط ليضمن جباية جمارك البضائع ولكن ليساعد في تنمية موانئه كذلك، أعطى عبد العزيز لأحمد خياراً بأن يُقيم في مينائه موظفين منتدبين من حكومة نجد ليقوموا بتحصيل الرسوم لنجد مباشرة، كان من المنطقي أن يرفض أحمد الجابر هذا الاقتراح، فمن جهة، ما كان ليرهق التجار المتعاملين مع ميناء بلاده الرئيسي بمضاعفة الضرائب، وما كان، من جهة أخرى، أن يقبل باقتسام ما تجبيه خزانة دولته من الجمارك مع النجديين. تم تأجيل بحث الموضوع إلى مؤتمر العقير، وقد تم الاتفاق على هامش المؤتمر أن يرسل أحمد مفاوضين للرياض للوقوف على وجهة نظر عبد العزيز بخصوص الموضوع، وقد توجه وفد من الكويت في 1923م إلى الرياض وعاد إلى أحمد الجابر حاملاً ثلاثة اقتراحات من عبد العزيز: إما أن تقبل الكويت بتواجد موظفين سعوديين في ميناء الكويت، أو أن يدفع أحمد الجابر تعويضاً عن الجمارك لنجد من جيبه الخاص، أو أن يقيم موظفين كويتيين في الميناء يجبون رسوم الجمارك على بضائع نجد طبقاً لما تحدده حكومة نجد. وقد قوبلت اقتراحات عبد العزيز الثلاثة بالرفض، وتعرضت الكويت، التي كانت تحرص على أن تظل سياستها الاقتصادية محررة من السيطرة النجدية، إلى حصار اقتصادي استمر لسنوات طويلة، أرسل أحمد الجابر ولي عهده وابن عمه عبد السالم إلى الرياض في 1923م في محاولة للوصول إلى حل لمشكلة المقاطعة الاقتصادية ولكن بعثته لم تُفضي إلى شيء، لاحقاً اقترح عبد العزيز أن يُعاد تنظيم تحصيل الجمارك الكويتية بواسطة موظف بريطاني يتم انتدابه من البصرة أو الهند، وقد رفض أحمد الجابر هذا الاقتراح كذلك. شدد عبد العزيز حصاره على الكويت وضاعف رسوم رسو سفن صيد اللؤلؤ الكويتية في موانئه في الأحساء.

لم يكتفِ عبد العزيز بمقاطعة الكويت، التي تعتمد في اقتصادها على التجارة بشكل أساسي (8)، لكنه بدأ يتغاضى شيئاً ما عن هجمات الإخوان على الكويت، وقد تعرضت الكويت طيلة السنوات من 1924م إلى 1928م لغزوات متلاحقة من زعماء الإخوان كابن حثلان (زعيم العجمان الذي قاد التمرد ضد عبد العزيز خلال معركة جراب 1915م) وترحيب بن شقير وفيصل الدويش، وما كانت الكويت لتصمد أمامها إلا بمساعدة القوات البريطانية التي كانت تحرص على إبعاد الإخوان عن الكويت، لأنهم وبدخولهم للكويت يقتربون من القاعدة الجوية البريطانية في البصرة، لكن الخلافات بين عبد العزيز والإخوان تفاقمت حتى أبلغ الأول السلطات البريطانية بأنه غير مسؤول إطلاقاً عن أي تصرفات تبدر منهم سنة 1927م، وبعد هذا التاريخ، ورغم تعرض الكويت لهجوم الرقعي في 28 يناير 1928م تعرض على إثره الشيخ علي الخليفة الصباح للإصابة فيما قتل علي السالم الصباح أثناء ملاحقة المهاجمين في حفر الباطن، إلا أن الكويت أصبحت تتغاضى بدورها عن تواجد الإخوان في أراضيها بعد إعلانهم للثورة على عبد العزيز، وبخاصة قائدهم الأبرز فيصل الدويش. حاول عبد العزيز مراراً أن يقنع البريطانيين بملاحقة الثائرين أثناء هربهم إلى الكويت، لكنهم رفضوا دائماً أن يضع مقاتل نجدي واحد قدمه في أرض الكويت مهما كانت الظروف، واكتفوا بوعده بأن تظل الكويت على الحياد في صراعه مع الإخوان وزوده بدعم لوجستي نوعي للقضاء على ثورتهم خوفاً مع اختراقهم للحدود مع العراق وشرق الأردن. 

كثفت بريطانيا اتصالاتها مع أحمد الجابر وطلبت منه الكف عن مساعدة الإخوان، وقد وافق أحمد بشرط أن تساعده بريطانيا على إقناع عبد العزيز بوقف مقاطعته الاقتصادية للكويت وضمان أمن وسلامة الإمارة، وافقت بريطانيا ووعدت أمير الكويت بالتدخل لدى عبد العزيز لاحقاً والذي استطاع بتحييد الكويت وكذلك الأردن والعراق أن يقضى على ثورة الإخوان في 1930م. حاولت بريطانيا التدخل سلمياً لدى عبد العزيز لإنهاء الخلاف مع الكويت، وقد تبادل الجانبان الزيارات الديبلوماسية خلال عقد الثلاثينات، فزار أحمد الرياض في 1930م و 1934م كما زار عبد العزيز الكويت في 1936م وقد كان أرسل ابنه فيصل إلى الكويت في 1932م، ولكن  مجهود هذه الزيارات لم يُسفر عن شيء يُذكر، ربما ظن عبد العزيز أن بريطانيا قد استنفذت وسائل ضغطها عليها بعدما قطعت عنه المعونة المالية نتيجة لرفضه لسحب امتياز التنقيب عن النفط في الأحساء من الشركة الشرقية العامة (1923م) وهي الشركة التي يمثلها الضابط النيوزيلندي فرانك هولمز، لكن البريطانيين، وبعد اضطرارهم للجلاء عن العراق في 1932م وفقدانهم سيطرتهم على ميناء البصرة، لم يكونوا ليجازفوا بفقدان ميناء آخر في الخليج، ولا بأن يسمحوا بأن يشاركهم عبد العزيز السيطرة عليه، خاصة وأنهم فقدوا أي فرصة للتأثير عليه اقتصادياً بعدما أعاد منح امتياز التنقيب عن النفط في الأحساء (المسحوب من الشركة الشرقية العامة في 1928م) إلى شركة أمريكية في 1933م. لذلك، قام البريطانيون أخيراً بفرض إغلاق على موانئ الأحساء ومنع أي سفينة تجارية من الرسو فيها، فاضطر وقتها عبد العزيز إلى انهاء الحصار ووقع اتفاقية للتعاون التجاري مع الكويت.

بدأ وضع العلاقات الثنائية بين البلدين بالتحسن تدريجياً، ووقعت الكويت والسعودية اتفاقية للدفاع المشترك في 1947م، وقد تم حل جميع المشكلات العالقة بما في ذلك تقسيم المنطقة المحايدة بين البلدين واقتسام نفطها طبقاً لاتفاق تم إنجازه بين البلدين في عام 1960م.

--------------------------

(1) أمر سالم المبارك بإقامة سور للكويت في 1920م وكان ثالث سور يُبنى حول المدينة بعد سوري 1780م و 1814م. كان طول السور يبلغ حوالي 7 كلم، بعرض 3 متر وارتفاع 4 متر مع رصيف وفتحات للرماة، بُني السور بمساعدة الأهالي وتم بناءه في شهرين، من مايو إلى يوليو 1920م وكان له أربعة بوابات وأضيف لها بوابة خامسة لاحقا، هدم السور في 1957م نتيجة للتوسع العمراني ولم يتبق منه سوى بواباته الخمس.

(2) بالرغم من أن مؤرخين عدة ومنهم مؤرخان كويتيان، وهما عبد العزيز الرشيد وحسين خلف الشيخ خزعل قد افترضوا براءة عبد العزيز من مسؤوليته تجاه هجوم الدويش على حمض، إلا أن احتمالية مسؤولية عبد العزيز تظل قائمة، خاصة وأن هجوم الإخوان عن حمض والجهراء كان وسيلة ناجعة للضغط على الكويت من جهة، والادعاء بفقدان عبد العزيز للسيطرة على إخوانه ينجيه من إحراج مخالفته لمواد اتفاقية دارين - العقير والتي ألزمته بعدم التعدي على جيرانه وحل مشاكله معهم سلمياً.

(3) كان جون فيلبي قد اقترح على حكومة بريطانيا في الهند ضم الكويت إلى أملاك عبد العزيز كوسيلة لتأمين الطريق الواصل بين الخليج والشام ومنع عمليات تهريب المعونات والذخائر لمعسكرات العثمانيين في سورية والتي رعاها سالم خلال الحرب الكبرى بمساعدة بعض القبائل ومنها قبائل العجمان، رُفض اقتراح فيلبي واكتفت بريطانيا بحصار الكويت عبر البحر.

(4) بحسب ما أورد حسين خلف الشيخ خزعل في كتابه عن تاريخ الكويت، فقد قال فيلبي لسالم المبارك: (لو كنت أكثر واقعية لأدركت أن الحكومة البريطانية لا يمكن أن تخاصم ابن سعود من أجلك).

(5) تذكر بعض المصادر أن عبد العزيز، وما أن وصل خبر وفاة سالم، قام على الفور بتمزيق جميع الأوراق التي حوت ما تم الاتفاق عليه بين الطرفين وقال مخاطباً الأمير أحمد الجابر: أما الآن فحيث صار إليك الأمر فلا أرى حاجة لشروط أو تحفضات، فأنا لك سيف مسلول اضرب بي من شئت وأنت أولى بالقبائل التي تحت أوامري ولك أن تؤدب من تشاء إذا بدر منها أي اعتداء على رعاياك، أما حدود الكويت فإنها ستمتد إلى أسوار الرياض ولا أقبل أن تكون بما قطعنا به آنفاً).

(6) كان عبد العزيز يخشى من التدخل الهاشمي (الحجازي) في شؤون سلطنته، وخاصة بعد إعلان الشريف حسين نفسه ملكاً على العرب وتقديم نفسه للجماهير العربية كإمام للثورة، وقد راسل عبد العزيز السلطات البريطانية في 1917م مطالباً إياها بترسيم وتوضيح الحدود بينه وبين مملكة الحجاز.

(7) تحركت قبائل شمر عن حائل على إثر سيطرة عبد العزيز عليها في 1921م ونزحت إلى الشناقية والسماوة والزبير فيما نزحت قبائل الظفير إلى الناصرية وسوق الشيوخ، وقد اندلع نزاع مسلح بين الظفير يساندهم عدد من قبائل العراق وهجانة لواء المنتفك من جهة وفيصل الدويش وإخوانه من جهة أخرى في 21 مارس 1922م وكان الوضع في تلك الحالة يهدد بالمزيد من التفاقم إن لم تتدخل بريطانيا لحسم الأمور.

(8) اكتُشف النفط في الكويت لأول مرة في 1938م ولم يبدأ تصديره إلا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.

---------

للاستزادة:
1- حسين خلف خزعل، تاريخ الكويت السياسي (خمسة أجزاء).
2- H. R. P. Dickson, Arabs of the desert
3- إسماعيل ياغي، العلاقات السعودية الكويتية في النصف الأول من القرن العشرين.
4- مفيد الزيدي، عبد العزيز آل سعود وبريطانيا دراسة في السياسة البريطانية تجاه نجد 1915 - 1927.
5- فاسييليف، تاريخ العربية السعودية.
6- محمد حسن العيدروس، دراسات في الخليج العربي (جزئين).
7- أمين الريحاني، تاريخ نجد وملحقاته.