تمهيد
القسطنينية في العهد البيزنطي (المربعات السكنية التابعة للجاليات الإيطالية باللون الأزرق) |
"إني
لأفضل أن أرى عمامة الأتراك في وسط المدينة على أن أرى فيها قلنسوة اللاتين".
ينسب المؤرخ البيزنطي (دوكاس) القول السابق إلى الدوق (لوكاس نوتاراس) أحد أهم
رجال الدولة البيزنطية في عهد إمبراطورها الأخير (قسطنطين الحادي عشر باليولوجوس)،[1] وذلك تعليقًا منه على
استقبال الإمبراطور في أواخر العام 1452 للكاردينال (إيسيدور) الذي أرسله بابا
الفاتيكان (نيكولاس الخامس Nicolas V)[2] كشرطٍ لدعم الممالك
والجمهوريات اللاتينية (الإيطالية) لبيزنطة في وجه محاولات الدولة العثمانية
للسيطرة على المدينة في عهد محمد الفاتح، وقد أقام الكاردينال اللاتيني قداسًا في
الكنيسة العظيمة (هاجيا صوفيا) وسط اشمئزاز سكان المدينة الأرثودوكس ونبلائها، أي أنه
وبحسب (دوكاس)، فإن أحد أهم نبلاء أعظم إمبراطورية في التاريخ المسيحي قد قبل في
قرارة نفسه أن يُرفع الآذان في كنيسة (هاجيا صوفيا)، أعظم كنيسة أرثودوكسية في
العالم، على أن يتمتم فيها كاردينال إيطالي بصلوات من الإنجيل باللغة اللاتينية،
وبصرف النظر عن دقة نسب هذا القول للدوق (نوتاراس)، فإنه يدلل إلى بشكل كبير على الحرب
الطائفية المستعرة بين بيزنطة وروما، والتي حكمت، إلى حد بعيد، جزءًا كبيرًا من
العلاقة بين أهم مركزين دينيين للديانة المسيحية على الإطلاق في العصور الوسطى بعد
الانقسام الذي نشأ بين الكنيستين الشرقية الأرثوذكسية في القسطنطينية والكاثوليكية
في روما في العام 1054.
واحدةٌ
من الحوادث الراسخة في تاريخ العلاقة بين الطائفتين في العصور الوسطى كانت المذبحة
العظيمة التي ارتكبتها جموع الجماهير البيزنطية الغاضبة داخل مدينة القسطنطينية في
أبريل من العام 1182 ضد الجالية اللاتينية فيها بتأييد من الإمبراطور (أندرونيكوس
الأول كومنينوس Andronikos I Komnenos)،[3] حيث أدت إلى إنهاء وجود
أكثر من ستين ألف شخص ينتمون إلى عدة جاليات إيطالية، فقُتل معظمهم وهرب بعضهم
فيما بيع حوالي 4000 شخص منهم عبيدًا للتركمان السلاجقة في الأناضول. تُعرف هذه
المذبحة في الأدبيات الأكاديمية باسم (مذبحة اللاتين Massacre
of the Latins) على الرغم من أنها لم تكن المذبحة الوحيدة
التي تعرضت لها مجموعات رومانية كاثوليكية بسبب انتمائها الديني، وذلك بسبب عِظم هذا
الحدث بالذات في تاريخ أوروبا الكاثوليكية. سيستعرض هذا المقال الخلفيات التاريخية لمذبحة
اللاتين ووقائعها ونتائجها وتأثيراتها على العلاقة بين الإمبراطورية البيزنطية والعالم
الأوروبي اللاتيني.
خلفية
تاريخية
استطاعت
الدول الإيطالية بحلول القرن الثاني عشر الميلادي تقديم نفسها باعتبارها القوة
المهيمنة على الملاحة البحرية في البحر المتوسط، فمع نجاح الحملة الصليبية الأولى
(1096 – 1099) وتأسيس الإمارات والممالك الصليبية في بلاد الشام نشطت حركة التجارة
البحرية من المشرق إلى جنوب أوروبا عبر البحر، وتمكنت جمهورية البندقية، وبشكلٍ
أقل، جمهوريتي بيزا وجنوة، من فرض سيطرتها على خطوط النقل من موانئ شرق المتوسط من
القسطنطينية حتى عكا، والتي كانت منفذ أوروبا على البضائع المنقولة من وسط وشرق
آسيا عبر طريق الحرير، خاصة مع الضعف الذي لازم الأسطول البيزنطي والذي كان جزءًا
من عوارٍ مزمن أصاب القدرات العسكرية للدولة البيزنطية بعد عقودٍ من الهجمات
المنظمة للأتراك السلاجقة على أراضِ الإمبراطورية في الأناضول. مأسست الجمهوريات
الإيطالية الثلاث لتجارتها عبر المتوسط عن طريق امتيازات رسمية حصلت عليها من
المستوى السياسي للإمارات والممالك المسيحية في المشرق، حيث استطاعت من خلال هذه
الامتيازات الحصول على تسهيلات تجارية وإنشاء بعثات ديبلوماسية
تحولت مع مرور الوقت إلى جاليات ضخمة من التجار وعائلاتهم التي تمركزت داخل مربعات
سكنية خاصة بها داخل مدن الموانئ، بلغ تعدادها في القسطنطينية بالذات عشرات الآلاف،
ورافقها رجال دين أسسوا دور عبادة لرعاياهم. ومع حلول الربع الأول من القرن الثاني
عشر تمكنت جمهورية البندقية من الحصول على امتيازات وتنازلات تجارية من الإمبراطور
البيزنطي (ألكسيوس الأول كومنينوس Alexios I Komnenos)[4]
احتكرت من خلالها، إلى حد بعيد، معظم التجارة المارة عبر ميناء القسطنطينية إلى
أوروبا، وقد استمرت امتيازات البندقية سارية المفعول حتى بعد وفاة (ألكسيوس الأول)،
وهو ما مثَّل تركة ثقيلة أرهقت كاهل الاقتصاد البيزنطي وأخضعته لسيطرة التجار البنادقة والمتعاونين معهم من الأرستقراطيين
المحليين إلى حد كبير.
بداية
الصراع
تركزت
معظم التجارة البيزنطية في يد نخبة صغيرة من النبلاء تعاونت مع التجار الأجانب على
تسهيل تحويل بيزنطة لمحطة تجارية إيطالية، وأضرت بالتالي، في سبيلها نحو الإثراء،
بصغار التجار والطبقات الدنيا من سكان الإمبراطورية، حيث شاركوا في عملية مراكمة
الثروة التي ساعدتهم على تكوين طبقة أرستقراطية ضيقة امتلكت مساحات واسعة من الأراضي
وتحكمت في مصير العديد من الناس الذين انسحقت أعمالهم لصالحهم ولصالح الإيطاليين. استمر
الوضع في القسطنطينية على هذا الحال حتى عهد الإمبراطور (مانويل الأول كومنينوس Manual
I Komnenos)[5] الذي سعى لتقليص نفوذ البنادقة
داخل القسطنطينية ومينائها، واستعان في سبيل ذلك بمنافسيهم داخل إيطاليا نفسها،
فمنح ذات الامتيازات الممنوحة للبنادقة لكل من جمهوريتي بيزا وجنوة ودوقية أمالفي.
غذَّت خطوة (مانويل الأول) الخلافات بين الإيطاليين داخل المدينة ولم يلبث التجار الأجانب كثيرًا
قبل أن يترجموا هذا الخلاف على هيئة صراعٍ دمويٍ تمثل في هجوم واسع شنته الجالية
البيزانية بالتعاون مع بعض البنادقة ضد المربع السكني ومناطق إقامة الجنويين خلال
العام 1162، وهو الذي اضطر الإمبراطور (مانويل الأول) لطرد معظم الجنويين
والبيازنة من المدينة وهو ما منح البنادقة سيطرة شبه تامة على تجارتها الخارجية
مرة أخرى.
لم يستمر
هذا الوضع طويلًا، فقد عاد الجنويين مرة أخرى إلى المدينة، وعاد التوتر بينهم وبين
البنادقة للتصاعد مرة أخرى، وقد أدى لاحقًا، في العام 1171، إلى هجوم مماثل لهجوم
العام 1162 شنه هذه المرة البنادقة ضد الجنويين نتج عنه تدمير معظم مربعهم السكني،
وقد استغل الإمبراطور الهجوم لشن حملة اعتقالات واسعة طالت معظم قيادات الجالية البندقية
وتخللها أعمال عنف منظمة شملت إحراقًا متعمدًا لمساكن البنادقة واغتصاباتٍ جماعية
في الشوارع، وقد عجز البنادقة عن التصدي للقوات البيزنطية، كما فشلت حملة عسكرية بحرية
سيرتها البندقية عبر بحر إيجة إلى أراضي الإمبراطورية البيزنطية ردًا على إجراءات
(مانويل الأول) في تحقيق أي نتيجة ملموسة، واكتفت البندقية فيما بعد بدعم الثورات
الصربية في ضد الحكم البيزنطي في البلقان، كما فرضت حصارها على ميناء (أنكونا)
الإيطالي الواقع على الشاطئ الغربي للبحر الأدرياتيكي، والذي كان آخر معاقل
البيزنطيين في شبه الجزيرة الإيطالية.
المذبحة
وقعت
البندقية اتفاقية هدنة مع البيزنطيين في 1179 تقريبًا (وهي معلومة غير مؤكدة
تمامًا)، فبالرغم من تراجع النشاطات العسكرية بين البنادقة والبيزنطيين، إلا أن
العلاقات بين الطرفين لم تعد إلى سابق عهدها إلا في وقتٍ لاحق، في ذات الفترة،
كانت تجارة جمهوريتي بيزا وجنوة تزدهران في القسطنطينية في ظل غياب البندقية الكامل
عن المشهد، وقد تزايد تعداد جالياتهم داخل المدينة حتى وصل إلى أكثر من 60 ألف
نسمة.
توفي
الإمبراطور (مانويل الأول) في العام 1180، تاركًا وراءه ابنه (ألكسيوس الثاني
كومنينوس Alexios II Komnenos) وريثًا
للعرش ولمَّا يبلغ الحادية عشرة من عمره بعد، وقد تولى عرش الإمبراطورية بالفعل
تحت وصاية والدته الإمبراطورة (ماريا) أميرة أنطاكية سابقًا، كانت (ماريا) أميرة
لاتينية كاثوليكية المذهب، وقد ناصرت، بفجاجة واضحة، امتيازات الإيطاليين داخل
القسطنطينية، وساعدت من خلال العهد القصير الذي تولت فيه الوصاية على العرش التجار
الإيطاليين وشركائهم من أرستقراطيي القسطنطينية على إحكام سيطرتهم بشكلٍ كاملٍ على
الاقتصاد البيزنطي، لم يمضِ كثيرٌ من الوقت قبل أن تتنامى مشاعر الازدراء تجاه
الأميرة اللاتينية وابنها الصغير، ولم تخفَ هذه التطورات عن عين الأمير (أندرونيكوس)،
وهو واحدٌ من أمراء العائلة الإمبراطورية وابن عم الإمبراطور الراحل (مانويل الأول)،
والذي استغل مشاعر الاحتقان داخل القسطنطينية فدخلها في نيسان من العام 1182 وسط
احتفالٍ شعبيٍ مهيب، لم يلبث وأن تحول إلى هجوم صاعقٍ نفذته جماهير العاصمة الغاضبة
تجاه كل ما يمت للجاليات الإيطالية في المدينة بصلة، ذُبح الرجال والنساء والأطفال
في الشوارع، أحرقت بيوتهم وكنائسهم، ونُهبت أموالهم ومؤسساتهم التجارية والخيرية، ولم
يسلم من المذبحة حتى الكاردينال يوحنا المبعوث البابوي للقسطنطينية والذي قُطع
رأسه ورُبط في ذيل كلبٍ ليُجر في شوارع المدينة.
سمح الإمبراطور
(أندرونيكوس الأول) بتمرير المذبحة بدون أي تدخل لإيقافها على الرغم من كونه معروفًا
بعدم اكتراثه بالاختلافات المذهبية مع اللاتين، بل إن المذبحة لم تعد عليه بأي
فائدة سياسية أو اقتصادية، فقد اضطر لاحقًا خلفه الإمبراطور (إسحق الثاني أنجيلوس Isaac
II Angelos)[6] إلى استعادة العلاقات
التجارية مع الجمهوريات الإيطالية، كما أنه قد شحذ العداء الغربي / الكاثوليكي
للإمبراطورية الأرثوذكسية حتى أقصاه، وقد استخدمت المذبحة ذريعة للهجوم الذي شنته مملكة صقلية على مدينة سلانيك[7] ثاني أكبر مدن الإمبراطورية
البيزنطية، والتي عانت من مذبحة انتقامية راح ضحيتها أكثر من 7000 شخصٍ من سكان المدينة.
لن يتوقف
الأمر عند هذا الحد، وعلى الرغم من نجاح البيزنطيين في تحرير سلانيك بعد فترة
وجيزة، إلا أن العداء بينهم وبين أوروبا الكاثوليكية قد وصل إلى درجة عالية من
الاستحكام، ستؤدي خلال العقود اللاحقة إلى مزيدٍ من العداء الذي سيتوج بمساعي جمهورية
البندقية الحثيثة لتفكيك الإمبراطورية واحتلال عاصمتها، وستنجح الجمهورية بالفعل
في تحويل مسار حملة صليبية كاملة، هي الحملة الصليبية الرابعة التي حشدتها أوروبا ردًا
على سيطرة الأيوبيين على مدينة القدس ومعظم مملكتها الصليبية في 1187، إذ تحول
مسارها إلى البلقان، بعد أن كان يُفترض بها التوجه بحرًا نحو مصر الأيوبية، وقد
نجحت الحملة بعد حصارٍ شديد للمدينة من طرفها الأوروبي في احتلالها وتفكيك
الإمبراطورية البيزنطية وإنشاء إمبراطورية لاتينية في أراضيها في البلقان،
بالإضافة إلى إمبراطورية أخرى في الأناضول كانت عاصمتها مدينة (نيقة)، أُنشأت خصيصًا
كسدٍ يحجز بين سلطنة سلاجقة الروم في شرق ووسط الأناضول والأملاك اللاتينية الجديدة
في شرق أوروبا، وقد استمرت الإمبراطورية الجديدة قائمةً بداية من تأسيسها في 1204
حتى تفكيكها في 1261 مع عودة خط النسل الإمبراطوري البيزنطي ممثلًا بعائلة
(باليولوجوس) إلى العرش عن طريق الإمبراطور (ميخائيل الثامن Michael
VIII Palaiologos).
الإمبراطورية اللاتينية وإمبراطورية نيقة (1204-1261) |
[1]
إمبراطور بيزنطة خلال الفترة 1449 – 1453.
[2]
بابا الفاتيكان خلال الفترة 1447 – 1455.
[3]
إمبراطور بيزنطة خلال الفترة 1182 – 1185.
[4]
إمبراطور بيزنطة خلال الفترة 1081 – 1118.
[5]
إمبراطور بيزنطة خلال الفترة 1143 – 1180. وكان حفيدًا
للإمبراطور (ألكسيوس الأول).
[6]
إمبراطور بيزنطة خلال الفترة 1185 – 1195، وقد كان حفيد الأميرة (ثيودورا
كومنيني Theodora Komnene) زوجة الأرستقراطي
البيزنطي (قسطنطين أنجيلوس Konstantinos Angelos) وابنة الإمبراطور (ألكسيوس الأول) [عمة كل من مانويل الأول
وأندرونيكوس الأول] وكان نسلها آخر الورثة المستحقين لعرش الإمبراطورية بعد وفاة
(أندرونيكوس الأول) في 1185، والذي بدأ سلالة جديدة من الأباطرة بعد انتهاء خط نسل
عائلة (كومنينوس).
[7]
سلانيك أو تيسالونيكي Thessalonica، ميناء يوناني
بيزنطي تقع في شمال الساحل الشرقي للبحر الأدرياتيكي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق