مقتطفات من رحلة ابن جبير الأندلسي إلى الشرق الإسلامي


معروفٌ باسم ابن جبير، وهو أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني، الأندلسي، الشاطبي البلنسي، جغرافي وفقيه إسلامي نشأ في الأندلس، ولد في بلنسية وسمع العلوم من أبيه في شاطبه وأخذ القرآن عن مشايخها. وصفه ابن الخطيب بقوله: كان أديباً بارعاً، شاعراً مجيداً، سريُّ النفس، كريم الأخلاق.

لم تقم شهرة ابن جبير في الأوساط العلمية إلا بعد تأليفه للكتاب الذي ستعرض هذه التدوينة بعض المقتطفات منه، وهو عبارة عن سجلات يومية قام بتدوينها أثناء سفره من الأندلس إلى بلاد الشرق الإسلامي لأداء فريضة الحج، وقد بدأت رحلته في الثامن من شوال من العام 578 هـ الموافق للثالث عشر من شهر فبرير (فبراير) من العام 1185 م وبدأ تدوينها في الثلاثين من شوال تحديداً، وهو في عرض البحر.

قام ابن جبير بتسجيل مذكرات رحلته على شكل مدونات يومية، ولم يقم بنشرها بين الناس، إذ لم تنتظم على شكل كتاب إلا على يد واحد من تلاميذه وهو الذي قام بتسميتها بـ (تذكرة الأخبار عن اتفاقات الأسفار) واشتهر فيما بعد بكتاب رحلة ابن جبير. الكتاب متوفر على الانترنت كملف بصيغة PDF لمن يريد تحميله وقراءته (اضغط هنا أوهنا) بعيداً عن اقتباسات كاتب التدوينة وتحيزاته.
ملاحظة: جميع ما داخل الاقتباسات بين (قوسين) هو زيادة عن النص الأصلي بغرض التوضيح.

يقول ابن جبير في مفتتح سجلاته:

"ابتُدئ بتقييدها يوم الجمعة الموفي ثلاثين لشهر شوال سنة ثمان وسبعين وخمس مئة على متن البحر بمثابلة جبل شلير عرفا الله المسلامة بمنه.
وكان انفصال أحمد بن حسان ومحمد بن جبير من غرناطة، حرسها الله، للنية الحجازية المباركة، قرنها الله بالتيسير والتسهيل وتعريف الصنع الجميل، أول ساعة من يوم الخميس الثامن لشوال المذكور وبموافقة اليوم الثالث لشهر فبرير (فبراير) الأعجمي. وكان الاجتياز على جيان لقضاء بعض الأسباب ثم كان الخروج منها أول ساعة من يوم الاثنين التساع عشر لشهر شوال المشكور وبموافقة الرابع عشر لشهر فبرير المذكور أيضا.
وكانت مرحلتنا الأولى منها إلى حصت القبذاق ثم منه إلى حصن قبرة، ثم منه إلى مدينة إستجة ثم منها إلى حصن أشوفة ثم منه إلى سلبر ثم منه إلى حصن أركش ثم منه إلى قرية تُعرف بقرية القسمة من قرى مدينة ابن السليم ثم منها إلى جزيرة طريف، وذلك يوم الاثنين السادس والعشرين من الشهر المؤرخ (شوال 578 هـ)" (1)

يقول ابن جبير أيضا في وصف قرية جدة القريبة من مكة المكرمة في الديار الحجازية:

"وجدة هذه قرية على ساحل البحر المذكور أكثر بيوتها أخصاص، وفيها فنادق مبنية بالحجارة والطين وفي أعلاها بيوت من الأخصاص كالغرف، ولها سطوح يستراح فيها باليل من أذى الحر. وبهذه القرية آثار قديمة تدل على أنها كانت مدينة قديمة، وأثر سورها المحدث بها باق إلى اليوم. وبها موضع فيه قبة مشيدة عتيقة يُذكر أنه كان منزل حواء أم البشر، صلى الله عليها، عند توجهها إلى مكة، فبنى ذلك المبنى عليه تشيرا لبركته وفضلة، والله أعلم بذلك.

وفيها مسجد مبارك منسوب إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ومسجد آخر له ساريتان من خشب الآبنوس يُنسب أيضاً إليه، رضي الله عنه، ومنهم من ينسبه إلى هارون الرشيد، رحمة الله عليه.

وأكثر سكان هذه البلدة مع ما يليها من الصحراء والجبال أشرافٌ علويُّون: حسنيون وحسينيون وجعفريون، رضي الله عن سلفهم الكريم. وهم من شظف العيش بحال يتصدع  له الجماد إشفاقاً، ويستخدمون أنفسهم في كل مهنة من المهن، من إكراء جمال إن كانت لهم، أو مبيع لبن أو ماء، إلى غير ذلك من تمر يلتقطونه أو حطب يحتطبونه. وربما تناول ذلك نساؤهم الشريفات بأنفسهن، فسبحان المقدر لما يشاء، ولا شك أنهم أهل بيت ارتضى الله لهم الآخرة ولم يرتضِ لهم الدني. جعلنا الله ممن يدين بحن أهل البين الذي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" (2)

ويقول أيضاً في معرض وصفه للديار الحجازية:

"وأكثر هذه الجهات الحجازية وسواها فرق وشيع لا دين لهم قد تفرقوا على مذاهب شتى. وهم يعتقدون في الحاج ما لا يُعتقد في أهل الذمة، وقد صيروهم من أعظم غلاتهم التي يستغلونها: ينتهبونهم انتهاباً، ويسببون لاستجلاب ما بأيديهم استجلاباً. فالحاج معهم لا يزال في غرامة ومؤونة إلى أن ييسر الله رجوعه إلى وطنه. ولوا ما تلافى الله به المسلمين في هذه الجهات بصلاح الدين لكانوا من الظلم في أمر لا ينادى وليده ولا يلين شديده. فإنه رفع ضرائب المكوس عن الحاج وجعل عوض ذلك مالا وطعاما يأمر بتوصيلعما إلى "مكثر" أمير مكة، فمتى أبطأت عنهم تلك الوظيفة الترمتبة لهم عاد هذا الأمير إلى ترويع الحاج وإضهار تشقيفهم بسبب المكوس. واتفق لنا من ذلك أن وصلنا جدة، فأمسكنا بها خلال ما خوطب "مكثر"، الأمير المذكور. فورد أمره أن يضمن الحاج بعضهم بعضاً ويدخلوا إلى حرم الله، فإن ورد المال والطعام اللذان برسمه من قِبلِ صلاح الدين(3) وإلا فهو لا يترك ماله قبل الحاج. هذا لفظه، كأن حرم الله ميراثٌ بيده محلل له اكتراؤه من الحاج. فسبحان مغير السنن ومبدلها" (4)

يصل ابن جبير، وبعد عرض مفصل لما مر به أثناء رحلته في الحجاز إلى الاستنتاج التالي:

"وليتحقق المتحقق ويعتقد الصحيح الاعتقاد أنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب، لإنهم على جادة واضحة لا بُنيَّات لها (أي طريق بلا فروع). وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية فأهواء وبدع، وفرق ضالة وشيع، إلا من عصم الله عز وجل من أهلها. كما أنه لا عدل ولا حق ولا دين على وجهه إلا عند الموحدين، أعزهم الله، فهم آخر أئمة العدل في الزمان. وكل من سواهم من الملوك في هذا الأوان فعلى غير الطريقة، يعشرون تجار المسلمين (أي يأخذون عشر غلالهم ضريبة) كأنهم أهل ذمة لديهم، ويستجلبون أموالهم بكل حيلة وسبب، ويركبون طرائق من الظلم لم يُسمع بمثلها، اللهم إلا هذا السلطان العادل صلاح الدين (الأيوبي) (5)، الذي قد ذكرنا سيرته ومناقبه، لو كان له أعوان على الحق [نقص في النص] مما أريد الله عز وجل يتلافى المسلمين بجميل نظره ولطف صنعه."(6)

بعد انتهاء ابن جبير من الحج، وذلك بعد حوالي سنة ونصف السنة على خروجه من الأندلس، يتوجه ضمن زيارته إلى المشرق الإسلامي في رحلة إلى بلاد العراق (شهر محرم سنة 580 هـ)، ويزورعدداً من المدن الرافدية والشامية، العتيقة منها والحديثة (بمعيار أهل ذلك العصر) ونورد هنا شيئاً من وصفه لبعض هذه المدن:

الكوفة
"هي مدينة كبيرة (أي الكوفة) عتيقة البناء، قد استولى الخراب على أكثرها، فالغامر منها أكثر من العامر، ومن أسباب خرابها قبيلة خفاجة المجاورة لها، فهي لا تزال تضر بها، وكفاك بتعاقب الأيام محيياً ومفنياً. وبناء هذه المدينة بالآجر خاصة، ولا سور لها. والجامع العتيق آخرها مما يلي شرقي البلد، ولا عمارة تتصل به من جهة الشرق. وهو جامع كبير، في الجانب القبلي منه خمسة أبلطة، وفي سائر الجوانب بلاطان. وهذه البلاطات على أعمدة من السواري الموضوعة من صم الحجارة، المنحوتة قطعة على قطعة، مفرغة بالرصاص، ولا قسي عليها، على الصفة التي ذكرناها في مسجد رسول الله (7)، صلى الله عليه وسلم، وهي في نهاية الطول متصلة بسقف المسجد، فتحار العيون في تفاوت ارتفاعها. فما أرى في الأرض مسجداً أطول أعمدةً منه ولا أعلى سقفاً."

بغداد
"هذه المدينة العتيقة، وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، مثابة الدعوة الإمامية القرشية الهاشمية، قد ذهب أكثر رسمها، ولم يبقَ منها إلا شهير اسمها. وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب إليها كالطلل الدارس والأثر الطامس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعي من المستوفز (أي المار بها) العقلة والنظر إلى دجلتها االتي هي بين شرقيها وغربيها منها كالمرآة المجلوة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبتين، فهي تردها ولا تضمأ، وتتطلع منها في مرآة صقيلة ولا تصدأ والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ. ..... وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع بالتواضع رياء، ويذهب عنه عجبا وكبرياء، يزدرون الغرباء، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء ويستضغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء، قد تصور كل منهم في معتقده وخَلَده أن الوجود كله يصغر بالإضافة لبلده، فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم، كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادا أو عباداً سواهم، يسحبون أذايالهم أشراً وبطراً، ولا يغيرون في ذات الله منكراً، يظنون أن أسى الفخار في سحب الإزار، ولا يعملون من أن فضله، بمقتضى الحديث المأثور في النا، يتبايعون بينهم بالذهب قرضاً، وما منهم من يحسن لله فرضاً فلا نفقة فيها إلا من دينار تقرضه، وعلى يدي مخسر للميزان تعرضه، لا تكاد تظفر من خواص أهلها بالورع العفيف، ولا تقع من أهل موازينها ومكاييلها إلا على من ثبت له الويل في سورة التطفيف، لا يُبالون في ذلك بعيب، كأنهم من بقايا مدين قوم النبي شعيب، فالغريب فيهم معدوم الإرفاق متضاعف الانفاق لا يجد من أهلها إلا من يعاملة بنفاق، أو يهش إليه هشاشة انتفاع واسترفاق، كأنهم من التزام هذه الحلة القبيحة على شرط اصطلاح بينهم واتفاق، فسوء معاشرة أبنائها يغلب على طبع هوائها ومائها، ويعلل حسن المسموع من أحاديثها وأنبائها، استغفر الله إلى فقهائهم المحدثين، ووعاظهم المذكرين، لا جرم أن لهم في طريقة الوعظ والتذكير ومداومة التنبيه والتبصير والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تعالى ما يحط كثيراً من أوزارهم ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم" 

دمشق
" جنة المشرق ومطلع حسنه المونق المُشرِق، قد تحلت بأزاهير الرياحين، وتجلت في حلل سندسية من البساتين، وحلت من موضوع الحسن بالمكان المكين، وتزينت في منصتها أجل تزيين، وتشرفت بأن آوى الله تعالى المسيح وأمه، صلى الله عليهما، منها إلى ربوة ذات قرار ومعين، ظل ظليل، وماء سلسبيل، تنساب مذانبة انسياب الأراقم بكل سبيل، ورياض يحيى النفوس نسيمها العليل، تتبرج لناظريها بمجتلى صغيل، وتناديهم: هلموا إلى معرَّس للحسن ومقَقِيل، قد سئمت أرضها كثرة الماء حتى اشتاقت إلى الضماء، فتكاد تناديك بها الصم الصلاب: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، قد أحدقت البساتين بها إحداث الهالة بالقمر، واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر، وامتدت بشرقيِّها غوطتها الخضراء امتداد البصر، فكل موضع لحظته بجهاتها الأرض نضرته اليانعة قيد النظر، ولله صدق القائلين عنها: إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها، وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامتها وتحاذيها."

فعل ابن جبير، في كلا النصين السابقين الذين وصف بهما بغداد ودمشق، كل ما بوسعه من أجل وضع كلماته داخل أكبر قدر من التنميق اللغوي، وقد استعصر جل ما لديه من موهبة أدبية من أجل إخراج أبهى وصف ممكن يعبر عما جال في وجدانه وما وقر في قلبه ناحية هاتين المدينتين العظيمتين والتي بدا واضحاً وجلياً أنهما كانتا الأكثر تأثيراً في نفسه خلال رحلته كلها، ومثير للانتباه أنه لم يستدعِ هذا التنميق اللغوي في كتابه كله إلا في وصف هاتين المدينتين بالذات، بل إنه وقتما وصف المدن المصرية، الاسكندرية على عظمتها، والقاهرة على قداستها لما فيها من قبور الأشراف والأولياء والشهداء والصالحين، لم ينمق نصوصه بهذه الطريقة، وحتى عندما ذكر المدن المقدسة بالحجاز، لم يستدعِ كل هذا البديع اللغوي من أجل وصفهما، وإن استخدم هذا البديع فلم يستخدمه بمثل هذه الاستطالة، أما في النصين السابقين فقد صب لعناته على بغداد وأخرج دمشق في أبهى حلة يمكن أن تلبسها مدينة ما. قد يدعو ذلك إلى الاستغراب نوعا ما، إلا أن التمحيص في سجلات الرحلة بمجملها ينقل للقارئ صورة عن الأفكار المسبقة لابن جبير عن الشرق الإسلامي وصوره النمطية التي كونها في الأندلس مسبقاً عنه، وسيستطيع القارئ أن يفهم تحيزاته الخاصة كمغاربي، أندلسي، مالكي المذهب، كان له حظوة في بلاد الدولة الموحدية، يملك صورة سلبية ناحية البادية العربية، ويشعر بالتنافسية السياسية تجاه كل ما يمت للخلافة العباسية بصلة، فهو يكيل المدائح للمنافس الأقوى للخليفة البغدادي في الشرق، وهو صلاح الدين الأيوبي، الكردي الأصل، ويمتهن بالتلميح والإشارة كلّاً من الخليفة وحاشيته وأهل عاصمته، يتحرى ذم المدن العربية، أي المدن التي بناها العرب خارج شبه الجزيرة، وبخاصة بغداد، ويمتدح المدن الأعجمية التي سيطر عليها العرب في زمن الفتوحات، كالاسكندرية ودمشق، ونلحظ أنه غالباً ما تطرق حكراً لوصف الحجر في المدن، ونادراً ما تعرض لوصف البشر، ولم يفعل ذلك إلا في دمشق وبغداد فقط. وجدير بالذكر، أن ابن جبير رغم ما يُلاحظ في نصوصه الوصفية من تمايز في المصداقية وتحيزات وصور نمطية مسبقة، إلا أنه ظل محتفظاً بإجلاله كمسلم لآل النبي محمد وللرعيل الأول من صحابته كذلك.

تعود التدوينة الآن ليوميات ابن جبير وإلى مقتطفات أخرى من وصفه لمدينة دمشق.

"وفي داخل البلدة كنيسة لها عند الروم شأن عظيم، تعرف بكنيسة مريم، ليس بعد بيت المقدس عندهم أفضل منها. وهي حفيلة البناء، تتضمن من التصاوير أمراً عجيباً تبهت الأفكار، وتستوقف الأبصار، ومرآها عجيب، وهي بأيدي الروم، ولا اعتراض عليهم فيها.
وبهذه البلدة 20 مدرسة، وبها مارستانات قديم وحديث ........... وهذه المارستانات مفخر عظيم من مفاخر الإسلام والمدارس كذلك ومن أحسن مدارس الدنيا منظراً مدرسة نور الدين (زنكي)، رحمه الله، وبها قبره، نوره الله. وهي قصر من القصور الأنيفة، ينصب فيها الماء في شاذروان وسط نهر عظيم ثم يمتد الماء في ساقية مستطيلة إلى أن يقع في صهريج كبير وسط الدار. ........... ومناقب هذا الرجل الصالح كثيرة (أي نور الدين زنكي) وشأنه في الملوك كبير، وله الأثر الباقي شرفة من إزالة المكوس بطريق الحجاز، ودفعه عوضا عنها لصاحب الحجاز وكانت الأيام قد استمرت قديما بهذه الضريبة اللعينة إلى أن محا الله رسمها على يدي هذا الملك العادل. (ومن مناقبه) أنه كان عيَّن للمغاربة الغرباء، الملتزمين زاوية المالكية بالمسجد الجامع المبارك (الجامع الأموي بدمشق) أوقافا كثيرة منها طاحونتان وسبعة بساتين وأرض بيضاء وحمَّام ودكانان بالعطارين. وأخبرني أحد المغاربة الذين كانوا ينظرون فيه: أن هذا الوقف المغربي يُغِلّ 500 دينار في العام"

"ومن شاء الفلاح من نشأة مغربنا (أي من سكان المغرب الإسلامي) فليرحل إلى هذه البلاد (دمشق) ويتغرب في طلب العلم فيجد الأمور المُعينات كثيرة. فأولها فراغ البال من أمر المعيشة، وهو أكبر الأعوان وأهمها، فإذا كانت الهمة فقد وجد السبيل  إلى الاجتهاد ولا عذر للمصر إلا من يدين بالعجز والتسويف فذلك من لا يتوجه هذا الخطاب عليه، وإنما المخاطب كل ذي همة يحول طلب المعيش بينه وبين مقصده في وطنه من الطلب العلمي، فهذا المشرق بابه مفتوح لذلك، فادخل أيها المجتهد بسلام وتغنم الفراغ والانفراد قبل علق الأهل والأولاد وتقرع سن الندم على زمن التضييع، والله يوفق ويرشد لا إله سواه، قد نصحت إن ألفيت سامعاً وناديت إن أسمعت مجيباً."

يفصل ابن جبير الآن خارج دمشق، ويحط الرحال في الساحل الشامي، والذي كان واقعاً في تلك الفترة تحت سيطرة الإمارات الصليبية ومملكة القدس والتي تشكلت في بلاد الشام بعد الحملة الصليبية الأولى.

جبل لبنان
"ومن العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأو به بعض المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم، ويقولون: هؤلاء ممن انقطع إلى الله عز وجل فتجب مشاركتهم. وهذا الجبل من أخصب جبال الدنيا، فيه أنواع الفاكهة، وفيه المياه المطردة والظلال الوارفة، وقلما يخلو من التبتيل والزهادة، وإن كانت معاملة النصارى لضد ملتهم هذه المعاملة فما ظنك بالمسلمين بعضهم مع بعض."

"ومن أعجب ما يحدث به أن نيران الفتنة تشتغل بين الفتئتين مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف بينهم ورفاق المسلمين والنصاري تختلف بينهم دون اعتراض عليهم. شاهدونا في هذا الوقت، الذي هو شهر جمادي الأولى، من ذلك خروج صلاح الدين بجميع عسكره المسلمين لمنازلة حصن الكرك، وهو من أعظم حصون النصارى، وهو المعترض في طريق الحجاز والمانع لسبيل المسلمين على البر، وبينه وبين القدس مسيرة يوم أو أشف (أي أكثر) قليلاً، وهو سرارة أرض فلسطين، وله نظر عظيم الاتساع متصل العمار يذكر أنه ينتهي إلى 400 قرية، فنازله هذا السلطان وضيق عليه وطال حصاره. واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع، واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكة (عكا) كذلك. وتجار النصاري أيضا لا يُمنع أحد منهم ولا يُعترض. وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم وهي من الأمنة على غاية، وتجار النصارى أيضا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال. وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية والدنيا لمن غلب."

يُلاحظ هنا أن ابن جبير كان يتحدث عن "النصارى" في بلاد الشام بعمومية وإطلاق دون التفرقة بينهم، فبالنسبة له فإن نصارى الشام من عربها وسريانها على قدم المساواة مع الغزاة الافرنج، وربما يعود سبب ذلك إلى ما استرسل ابن جبير في وصفه من مظاهر الحياة الاقتصادية في الشام في عهد الصليبيين، فالتبادل التجاري بينهم وبين المسلمين من بقية أهل الشام ومصر وهم من رعايا صلاح الدين الأيوبي كان في نشيطاً ولا تشوبه شائبة، حتى ولو وقعت الحرب بين الطرفين.

عكا
يعنون ابن جبير هذا الفصل من سجلات رحلته بقوله: "ذكر مدينة عكة، دمرها الله وأعادها"، يقول:
"هي قاعدة مدن الإفرنج بالشام، ومحط الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، مرفأ كل سفينة، والمشبهة في عظمها بالقسطنطينية، مجتمع السفن والرفاق، ومتلقى تجار المسلمين والنصارى من جميع الآفاق، سسكها وشوارعها تغض بالزحام، وتضيق فيها مواطئ الأقدام، وتفور خنازيرَ وصلباناً، زفرة قذرة، مملوءة كلها رجسا وعذرة. انتزعها الافرنج من أيدي المسلمين في العشر الأُوَل من المئة السادسة، فبكى لها الإسلام ملء جفونه، وكانت أحد شجونه. فعادت مساجدها كنائس، وصوامعها مضارب للنواقيس، ظهر الله من مسجدها الجامع بقعة بقيت بأيدي المسلمين مسجداً صغيراً، يجتمع فيه الغرباء منهم لإقامة فريضة الصلاة. وعند محرابه قبر النبي صالح، فحرس الله هذه البقعة من رجس الكفرة ببركة هذا القبر المقدس"

صور
"مدينة يُضرب بها المثل في الحصانة، لا تلقي لطالبها بيد طاعة ولا استكانة، قد أعدها الإفرنج مفزعا لحادثة زمانهم، وجعلوها مثابة لأنانهم، وهي أنظف من عكة سككا وشوارع، وأهلها ألين طبائع، وأجرى إلى بر غرباء المسلمين شمائل ومنازع، فخلائقهم أسجح ومنازلهم أوسع وأفسح، وأخوال المسلمين بها أهون وأسكن، وعكا أكبر وأطغى وأكفر." (8)

تنتهي اقتباسات هذه التدوينة إلى هنا، ورغم الاستطالة في الذكر والنقل إلا أن ما ورد بعاليه ليس سوى أقل القليل مما دونه ابن جبير في سجلات رحلته، والذي يقودنا من خلالها إلى رحلة أخرى في الزمان والمكان ليعرفنا بعينيه هو على الصورة العامة في بلدان المشرق الإسلامي الأربعة الرئيسية، مصر والحجاز والعراق والشام، بأحوالها السياسية وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. كتاب جميل ومثير ويُعد علامة فارقة في أدب الرحلات الإسلامي بدون شك، وينصح بقراءته.


----------------------


(1) رحلة ابن جبير، طبعة دار صادر، بيروت، ص ص 7 - 8.
(2) المرجع نفسه، ص 53.
(3) المقصود هنا هو صلاح الدين الأيوبي، وقد أكثر ابن جبير من ذكره ومدحه في كتابه هذا.
(4) المرجع نفسه، ص 54.
(5) المرجع نفسه، ص 30.
(6) المرجع نفسه، ص ص 55 - 56.
(7) المرجع نفسه، ص 168.
(8) وصف ابن جبير في كتابه 19 مدينة ومنطقة في بلاد الرافدين وبلاد الشام، وهي مدن: الكوفة، الحلة، بغداد، تكريت، الموصل، نصيبين، دنيصر، رأس العين، حران، منبج، بزاعة، حلب، حماة، حمص، دمشق، جبل لبنان، بانياس، عكة (عكا) وصور، وهي نصوص تختلف في طولها ودرجة تفصيلها، ولا مجال لنقل كل ما كتبه في هذا الشأن،  وللاستزادة حول   المرجع نفسه، ص ص 181 - 286.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق