ما قبل الهاجاناه: عسكرة الاستيطان الصهيوني في فلسطين قبل الحرب الكبرى (1): بار گيورا

ما قبل الهاجاناه: عسكرة الاستيطان الصهيوني في فلسطين قبل الحرب الكبرى
الجزء الأول: (بار گيورا)، بندقية الييشوف الأولى

تمهيد

شكلت الهاجاناه القوة العسكرية الصهيونية الأكثر حضورًا على ساحة الييشوف، أي التجمع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، خلال سنوات الانتداب البريطاني وحتى حرب النكبة، وقد تكونت من تشكيلات نظامية بلغ تعداد أفرادها في المتوسط ما يزيد على عشرين ألف شخص، مجهزين بالسلاح والعتاد، وقد تطور دورها من مجرد جهاز حراسة يتولى مسؤولية حماية المستوطنات تحت قيادة مدنية إلى منظمة عسكرية متكاملة الأركان تحوي قوات صاعقة وشبيبة ودعم لوجستي وأجهزة استخبارية وغيرها، وتنتظم تحت قيادة هرمية مرتبطة بالحركة الصهيونية في فلسطين وتتلقى دعمها من سلطات الانتداب، إلى أن شاركت أخيرًا في حرب النكبة ولعبت دورًا رئيسيًا فيها، وقد شكلت حجر الأساس الذي بُني عليه لاحقًا جيش الاحتلال الصهيوني. وعلى الرغم من أهمية الهاجاناه في التاريخ الصهيوني إلى أنها لم تكن أول منظمة عسكرية أو شبه عسكرية ينشئها الييشوف، إذ ظهرت، منذ العام 1907 على الأقل، وحتى نهاية الحرب الكبرى، عدة منظمات أخرى شكلت مظاهرًا للعسكرة داخل الييشوف وكرست نفسها لتثبيت حالة التناقض بينها وبين السكان العرب الأصليين في فلسطين، وتأكيدًا على الحالة الاستعمارية التي شكلها الاستيطان اليهودي في فلسطين منذ أطواره الأولى.

سيشكل هذا المقال مدخلًا تعريفيًا لأولى هذه المنظمات وهي المعروفة باسم (بار گيورا)، والتي تأسست في 1907، على أن يُخصص الجزء القادم من المقال للتعريف بمنظمة (هاشومير) التي انبثقت عن (بار گيورا) في 1909 وظلت مستمرةً في عملها حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وبداية الانتداب البريطاني، وسيشرح تاريخًا مختصرًا لنشأتها وتطورها وطبيعة عملها والمهام التي اضطلعت بها والظروف التي رافقتها على الأرض، كما رافقت نشأة الييشوف نفسه في فلسطين.

الهجرة الأولى

بدأت الموجة الأولى من الهجرة اليهودية إلى فلسطين خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وبينما كانت موجات واسعة من اليهود تنطلق باتجاه الولايات المتحدة، اختارت قلة قليلة لم تتجاوز نسبتها الاثنين بالمئة الهجرة إلى فلسطين، تشكل المهاجرون الأوائل من عائلات أعضاء منظمة أحباء صهيون المنتشرة في شرق أوروبا، وضمت كذلك أعضاء لوفدٍ من منظمة (بيلو)[1] تشكل من أربعة عشر طالبًا جامعيًا من انتقلوا من (خاركيف)[2] إلى إسطنبول قبل أن يستقروا نهائيًا في فلسطين، وبعد قضاء فترة قصيرة في مدرسة (مكفيه إسرائيل) المخصصة لتعليم الزراعة تعاونوا مع أعضاء آخرين لتأسيس مستوطنة (ريشون لتسيون) في 1882، وهي ثاني مستوطنة يهودية في فلسطين بعد (بتاح تكفا)[3]. ساهمت أحباء صهيون في تأسيس ثمان مستوطنات خلال الفترة 1882-1884، بما يشمل إعادة تأسيس (بتاح تكفا) في 1882، وتوقف نشاطها الاستيطاني بعد هجوم على ذات المستوطنة شنه فلاحو قرية العباسية المجاورة للمستوطنة في مارس 1886، خاصة مع إصدار السلطات العثمانية في 1887 قرارًا بحظر الهجرة اليهودية إلى فلسطين أو الإقامة فيها لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر، استأنف الييشوف اليهودي لاحقًا حركة الاستيطان، ونجح، بدعم من رجال أعمال يهود أوروبيين على رأسهم البارون الفرنسي (إدموند جيمس دي روتشيلد Edmond James de Rothschild)، في تأسيس ما مجموعه عشرون مستوطنة جديدة حتى العام 1904.

لم تنبثق عن الهجرة الأولى أية منظمات عسكرية، ولم يحدث أن ربط فيما بينها جميعًا جسد إداري موحد، وعملت كل مستوطنة على حل مشاكلها مع جيرانها على حدة بالاعتماد على (الدفاع الذاتي)، وقد واجه المستوطنون الجدد صعوباتٍ جمة بسبب قلة عددهم وصعوبة التكيف مع محيطهم وعدم إجادة معظمهم للزراعة وعدم اعتيادهم على الأشغال البدنية المرهقة بالإضافة إلى نبذ معظم المستوطنين القدماء[4] من اليهود في فلسطين لهم، ومعظمهم من الأرثودوكس، فيما فُسَّر بأنه خوف من تقلص نصيبهم من (الحالوقاه)[5] لصالح الوافدين الجدد، وقد كاد مستوطنو الهجرة الأولى أن يستغنوا عن مشروع الاستيطان في فلسطين بمجمله لولا تدخل بعض رجال الأعمال اليهود في أوروبا بالدعم المالي. وجديرٌ بالذكر أن الوضع الأمني قد أجبر سكان المستوطنات الأولى على إنشاء نظام للحراسة اعتمد في جُلِّه على أُجراء فلسطينيين فيما لم يتولَ اليهود أنفسهم مهمة الحراسة في غالب الأحيان حتى العام 1907 على الأقل.

الرواد[6]

بدأت موجة الهجرة اليهودية الثانية إلى فلسطين منذ العام 1904 تقريبًا ، وقد شملت ما بين 20 ألف إلى 35 ألف مهاجرًا من دول شرق أوروبا – وبخاصة الإمبراطورية الروسية – واستمرت حتى بداية الحرب الكبرى، ومع وصول الدفعة الجديدة من المهاجرين إلى المستوطنات الصهيونية في فلسطين، اتخذ الاستيطان بُعدًا جديدًا مع من يطلق عليهم في الأدبيات الصهيونية اسم (جيل الرواد)، والذين جاءوا من أوروبا مشبعين بالأفكار القومية ونبذ حركة التنوير اليهودية ورفض الدعوة إلى الاندماج، وقد اعتنقوا فكرة (عودة الشعب) ونظروا إلى الاستيطان في فلسطين باعتباره حلًّا للمسألة اليهودية في أوروبا، وقد فرضوا رؤاهم على الجيل القديم في المستوطنات الأولى رغم ما استثاره التعارض بينهم من صراع، وساهموا في تأسيس حركة ثقافية داخل الييشوف كان من تمظهراتها إعادة ابتعاث اللغة العبرية كلغة للتداول اليومي لأول مرة منذ قرون بالتزامن مع وضع أول معجم حديث للغة العبرية، كما أنشأوا أول مدرسة يهودية في فلسطين. 

لقد كرست الروح العنصرية لدى جيل الرواد استعداء حركة الاستيطان اليهودي في فلسطين للآخر العربي، وقد وضعت النشاط الصهيوني على حافة تغيير جذري انطلاقًا من مبادئ ما عُرف باسم (الصهيونية العمالية) والتي استندت كذلك إلى مفهوم (العمل اليهودي) المرتكز على ضرورة احتلال العمل واقتحام الأرض كوسيلة للسيطرة عليها وسبيلٍ لصهر المجموعات اليهودية المهاجرة إلى فلسطين داخل بوتقة القومية اليهودية الجديدة، وقد نتج عن ذلك ازدياد النشاط المعادي لما عُرف باسم (العمل العربي) داخل الييشوف، أي الاعتماد على العمال الفلسطينيين لرعاية الأراضي الزراعية في المستوطنات وحراستها، وقد دفع ذلك (الرواد) إلى الدعوة إلى استبدالهم بعمال يهود، وهو الذي استدعى أول النزاعات بينهم وبين البرجوازية اليهودية الناشئة داخل الييشوف خلال العقود الماضية، وبالتأكيد فإن دعوة (الرواد) قد تضمنت ما عُرف كذلك باسم (احتلال الحراسة)، أي طرد الحراس الفلسطينيين من المستوطنات واستبدالهم بحراس يهود، وهو الذي استلزم بالتبعية تأسيس أول المنظمات الأمنية اليهودية في فلسطين المعروفة باسم منظمة (بار گيورا) في 1907.

بار گيورا[7]

بدأت فكرة منظمة (بار گيورا) بالتبلور بدايةً خلال المؤتمر الصهيوني الثامن الذي عُقد في لاهاي بهولندا خلال الفترة 14-21 آب 1907، إذ تقدم (إسرائيل شوحط)، الذي سيصبح لاحقًا أحد أهم القيادات الأمنية في الييشوف، بطلبٍ من المؤتمر للمصادقة على إنشاء وتمويل منظمة عسكرية مخصصة لحماية المستوطنات في فلسطين، وقد رفض المؤتمر طلبه بسبب مشاكل متعلقة بالتمويل ولتخوف المؤتمر من أن تؤدي هذه الخطوة إلى استثارة صدامٍ مع السلطات العثمانية، وهو ذات التخوف الذي سيظل مسيطرًا على قطاع واسعٍ من الييشوف نفسه حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.

لم يُثنِ رفض المؤتمر الصهيوني (شوحط) ولفيف من زملائه ضم كلًّا من (ألكساندر زايد) و(إسحق بن تسفي) و(إسرائيل جلعادي) و(يحزقئيل خنكين) وغيرهم من أعضاء حزب (بوعالي تسيون)[8] عن البحث في أمر منظمة الحماية المزمع تأسيسها، وقد استغل (شوحط) فرصة انعقاد المؤتمر العام الثالث للحزب لطرح الأمر على هامش المؤتمر أمام رفاقه، وذلك داخل غرفةٍ كان يقطنها (إسحق بن تسفي) في يافا. وقد اتفق المجتمعون على تأسيس المنظمة تحت قيادة (إسرائيل شوحط) الذي انتُخب رئيسًا لها، على أن تبدأ عملها بصورة سرية، وتعمل على طرد الحراس والعمال الفلسطينيين من المستوطنات الصهيونية. أكد المؤتمر على ضرورة تسليح المجتمع اليهودي في فلسطين وحدد هدف (بار گيورا) بالعمل على "إقامة قوة دفاعية مقاتلة وإقامة مستوطنات زراعية شبه عسكرية"، وتحت شعار (بالدم والنار سقطت يهودا وبالدم والنار ستعود) بدأت منظمة (بار گيورا) عملها.

سعى (شوحط) للبحث عن مجندين قادرين على مطابقة مواصفاته لصورة العضو المثالي في تنظيم الحراسة الجديد، تنقل بين عدة مستوطنات والتقى بعدد من المستوطنين الشباب وناقشهم في الفكرة، واستطاع إقناع أقل من عشرة أشخاص فقط لكنه استكفى بهم، أقوياء وذوي لياقة بدنية عالية، مستعدون لتنفيذ الأوامر والدخول في دوامة اختبارات للقدرات والولاء تستمر شهورًا عديدة، مؤمنون بأهداف الصهيونية وبأهداف (بار گيورا) في ضرورة احتلال العمل في المستوطنات ومستعدون للمزاوجة في عملهم بين الحراسة ومهام الزراعة كذلك. رفض (شوحط) الاتصال بمجموعة (هومل)[9] على الرغم من خبرتهم في الدفاع الذاتي، وقد اتفق مع أعضاء (بار گيورا) على عدم أهلية هذه الخبرة لمنحهم الحق في قيادة الحراسة داخل المستوطنات.

انتقلت (بار گيورا) فورًا إلى الجليل بعد انتهاء عملية التجنيد المبدئية في محاولة للبحث عن مستوطنة تبدأ العمل فيها، كانت مستوطنات الجليل صغيرة المساحة ويحرسها عدد قليل من الأفراد بتسليحٍ متواضع، كما أن الحراسة فيها مختلطة ولذا فإن السيطرة على الحراسة فيها لن تتسم بالصعوبة، استفادت (بار گيورا) من الاستقلالية الإدارية التي تمتعت بها المستوطنات عن بعضها البعض، ففي وقتٍ مبكرٍ من عمر المنظمة كان عدد أفرادها قليلًا ولم يكن بمقدورهم توفير كادرٍ كافٍ لتقديم خدماتهم لجميع التجمعات الاستيطانية في حال ربطها ذات الجسد الإداري، ولذا فقد اكتفوا بداية بمستوطنةٍ واحدة، يتخذونها تجربةً لقدراتهم وساحة لتدريب مجنديهم الجدد وإثبات أنفسهم أمام مجتمع الييشوف، وقد وقع الاختيار على مستوطنة (إيلانيا)[10]، فهي صغيرة، حراستها مختلطة ويحرسها حارس فلسطيني واحد فقط، كما أن جميع العمال والمزارعين فيها من اليهود، وبعد مكيدة نصبها أعضاء (بار گيورا) للحارس الفلسطيني لإظهار قلة كفاءته، تمكنوا من إقناع مدير المستوطنة (إلياهو كروز) بتوقيع عقد حماية مع المنظمة الناشئة، اشترطوا فيه توظيف 15 عاملٍ يهوديٍ في أراضي المستوطنة لمدة عامين على الأقل.

تعرض حارس (بار گيورا) الجديد إلى الهجمات على يد جيران المستوطنة كل ليلة تقريبًا خلال الأسابيع الأولى من بدأ عمله، وخاصة من ذوي الحارس السابق الذين اعترضوا أمام إدارة المستوطنة عن تجريده من عمله، استطاع حارس (بار گيورا) الجديد الدفاع عن نفسه والتصدي للهجمات التي قصدت إحراج المنظمة أمام المستوطنين وإظهارها بمظهر العاجز عن القيام بمهام الحماية، خاصة وأن برجوازية الييشوف قد أبدت استيائها من فرض (بار گيورا) لنفسها على مهام الحراسة واشتراطهم لتوظيف عمالة يهودية بدلًا من العمالة العربية الأقل أجرًا، تضاءلت الهجمات ضد مستوطنة (إيلانيا) تدريجيًا إلا أنها لم تتوقف، وتمكنت (بار گيورا) من زيادة عدد مجنديها وتوسيع نطاق انتشارها ليشمل مستوطنتي (كفار تافور)[11] و (بير گان).

طورت (بار گيورا) في (كفار تافور) من تكتيكاتها مستفيدةً من تجربتها في (إيلانيا)، وقد عملت على تحصين جدار المستوطنة الذي يضم تجمع الوحدات السكنية الرئيسي فيها وأقامت مساكنًا للحراس والعمال بالقرب من الجدار نفسه ورفضت إقامتهم في الأماكن التي خصصتها لهم إدارة المستوطنة، فيما فرضت على جميع قاطني المستوطنة الدخول والخروج من باب واحد يُغلق عند ساعة محددة في المساء، وقد سيَّرت دوريات لحراسة الحقول وأنشأت مجموعات للإسناد والدعم تظل على أهبة الاستعداد في كل وقتٍ للتدخل لنجدة حراس المستوطنة المناوبين في حال تعرضوا للهجوم، وعلى الرغم من كل إجراءات (بار گيورا) إلا أن المناوشات بينهم وبين الفلسطينيين استمرت بوتيرات متفاوتة طيلة العام 1908 وقد تسببت بمقتل خمسة مستوطنين صهاينة على الأقل.

واجهت (بار گيورا)، ضمن ما واجهته من صعوبات في بداية عملها، بالإضافة إلى قلة تعداد منتسبيها، من انخفاضٍ حادٍ في التمويل، ويُرد ذلك إلى طبيعة عمل المنظمة السري ورفض كل من المؤتمر الصهيوني في الخارج والدوائر الرسمية في حزب (بوعالي تسيون)، الذي انتظم جميع مؤسسي (بار گيورا) تحت لوائه، لفكرة المنظمة، وقد انعكس ذلك على تسليح أفراد المنظمة الذي لم يتجاوز سوى عدد من قطع السلاح الناري المعدودة على الأصابع، وقد اضطر (إسرائيل شوحط) إلى طلب الحصول جزء من الأجر المخصص للمنظمة لقاء خدمات حماية مستوطنة (إيلانيا) مسبقًا من أجل شراء السلاح، وقد تمكن بالفعل من شراء ستة بنادق تناوب أعضاء المنظمة على استخدامها، وقد راسل (شوحط) مؤسس بوعالي تسيون، (بير بورخوف)، من أجل الحصول على دعمه، وقد أبدى (بورخوف) حماسته لفكرة المنظمة وتشجيعه لها.

بأي حال، لم تستمر منظمة (بار گيورا) طويلًا، فمع تزايد مسؤولياتها وانتشار رقعة نشاطها، وجد المؤسسون ضرورة لإنشاء منظمة أكبر وأكثر قدرة على القيام بمهام الحراسة، ولذا فقد قرر مؤتمر (بار گيورا) الذي عُقد في نيسان 1909، أي بعد سنة ونصف تقريبًا من تأسيس المنظمة، حلها ودمج عناصرها في منظمة جديدة حملت اسم (هاشومير)، وتخصيص مهمتها الرئيسية في الحراسة فقط بدون دمج بين الحراسة والعمل، حيث ستأسس ذات المجموعة أيضًا منظمة مخصصة للعمل اليهودي تُدعى (لجيون هعفوداة).

ما وراء الحراسة

حددت (بار گيورا) منذ وقتٍ مبكرٍ أهداف عملها بكل وضوح، لم يكن الأمر متعلقًا فقط بالمسألة الأمنية، خاصة وأن غالبية المستوطنات قد استطاعت تدبر أمرها في هذا الشأن عن طريق عقد صلاتٍ مع محيطها عبر العمل والحراسة، لقد كان الهدف الأساس وراء إنشاء المنظمة هو تغيير توجهات الييشوف في فلسطين بما يتوائم مع نظرة (بار گيورا) إلى المحيط الذي تواجد الييشوف فيه، والتي صيغت من خلال عاملين اثنين: الاستيطان باعتباره نشاطًا استعماريًا، والوعي الذي راكمه الرواد قبل هجرتهم إلى فلسطين من خلال تجربتهم مع أحداث الشغب المنظمة ضد اليهود في الإمبراطورية الروسية خلال الفترة 1903 – 1906.

لقد ذُكر من قبل أن جميع مؤسسي المنظمة قد كانوا من مهاجري موجة الهجرة الثانية، وجدير بالذكر أن عددًا منهم قد انتظم في مجموعات الدفاع الذاتي ضد الهجمات التي تعرضت لها الجالية اليهودية في الأجزاء الجنوبية الغربية من الإمبراطورية الروسية المعروفة سابقًا باسم الكومنولث الليتواني – البولندي[12]، وهي الأحداث التي ساهمت في استحثاث هجرتهم إلى فلسطين من الأصل، وقد حمل بعض مؤسسي (بار گيورا) السلاح وقاتلوا ضد العسكر ومثيري الشغب في الإمبراطورية الروسية رغم صغر سنهم، إذ بدأت تلك الأحداث ومعظمهم كان لا يزال في سن المراهقة. نظر مؤسسو (بار گيورا) إلى سكان فلسطين كتهديدٍ أمنيٍ محتمل يمكن أن ينفجر في أي لحظة ويعيد تكرار تجارب كيشينِف ووارسو وأوديسا وحملة المذابح التي راح ضحيتها ما يزيد عن ألفي يهودي على الأقل خلال ثلاثة سنوات، ولذا فقد دفعهم الوعي الذي راكموه خلال فترة نشأتهم في روسيا القيصرية على شحن التناقض بينهم كمجتمع استيطاني وبين مجتمع السكان الأصليين في فلسطين إلى أقصى درجةٍ ممكنة، متجاهلين أن هذه الخطوة ستكون أكبر معزز لاندلاع العنف الذي حرصت (بار گيورا) على حماية الاستيطان الصهيوني منه، ولهذا السبب كانت (بار گيورا) بالنسبة لمؤسسيها، وحسب كلمات (إسرائيل شوحط) نفسه "قوة دفاعية مقاتلة" وقد هدفت إلى "إقامة مستوطنات زراعية شبه عسكرية".

بالنسبة أعضاء (بار گيورا) فقد كان الييشوف محاطًا بنفس الظروف التي تواجدت في الگيتوهات اليهودية في شرق أوروبا عشية بدأ أعمال الشغب الموجهة التي أعقبت اغتيال القيصر الروسي ألكساندر الثاني؛ تعداد قليل من اليهود في تجمعات سكانية متناثرة على مساحة واسعة لا يمكن الربط فيما بينها ولا تتمتع بما يكفي من الحماية، داخل وسطٍ تحمل ضده من التناقضات أكثر بكثير مما يمكن أن تخلق معه من قواسم مشتركة، وهي قواسم لم يؤمن أعضاء (بار گيورا)، بوجودها أصلًا، وقد كانت هذه العوامل محركًا، لا لإنشاء منظمة دفاع وحماية فحسب، بل لاستثارة حركة عسكرةٍ للتجمعات الاستيطانية في فلسطين، وجدت فيها (بار گيورا) السبيل الوحيد لحماية الييشوف من أي تهديد محتمل. 

لقد بدا ذلك واضحًا من خلال الاستراتيجية العامة التي حكمت عمل (بار گيورا)، والتي يمكن اكتشافها في برنامج العمل والتدريب الصارم الذي وضعه مؤسسو المنظمة، والذي كان من المفترض أن يمتد لأكثر من سنتين متواصلتين، وهي أطول من الفترة التي نشطت فيها (بار گيورا) أصلًا، فرضت المنظمة على أعضائها التدرب على استخدام ما توفر من أسلحة، وعلى الخروج في دوريات حراسة للحقول ليلًا ونهارًا، والتعرف على الطبوغرافيا المحيطة بالمستوطنات، وتعلم اللغة العربية، فيما ربطت المنظمة بين أعضائها من خلال نشاطات اجتماعية هدفت إلى إزالة أي فروقات بينهم على جميع المستويات، كما ألزمتهم كذلك بالعمل في الحقول بجانب توليهم لمهام الحراسة، وألزمت المنظمة نفسها بتعويض أي خسائر تنتج عن هجمات الفلسطينيين ضد المستوطنات باعتبارها المسؤول الوحيد عن ضمان الأمن، وفي سبيل ذلك اهتمت (بار گيورا) بتحصين المستوطنات التي نشطت فيها وتقوية دفاعاتها، موجهة إياها نحو مزيد من الانغلاق تجاه محيطها والتقوقع على نفسها، وتحويلها إلى مجتمعات معزولة.

لقد اهتم نشاط المنظمة بإحكام السيطرة على المجال العام الذي تشكلت المستوطنات فيه، وقد أدى هذا تلقائيًا إلى تطبيع السلوك الاستيطاني لأقصى درجةٍ ممكنةٍ مع الفكرة الصهيونية، الاستعمارية في جوهرها، والقائمة على ترسيخ مبدأي الإزاحة والإحلال، أي "إزاحة" السكان الأصليين وإحلال المستوطنين مكانهم، لقد قررت (بار گيورا) مسبقًا أن نشاطها لن يركز على توسعة الاستيطان، بل سينصب تركيزها على إعادة صياغة طبيعته والفصل فيما بينه وبين محيطه العربي، وذلك في تأكيد سافرٍ وفج على طبيعته الاستعمارية، وبالنسبة (لبار گيورا)، فإن الحراسة والعمل كانا أهم وسيلتين لتحقيق ذلك. في ضوء كل ما سبق، يمكن القول وإن بشيء من الحرص، أن (بار گيورا) وما لحقها من تنظيمات عسكرية تبنت وجهة نظرها ومبادئها العامة قد ساهمت في صياغة طبيعة الييشوف الاستعمارية في فلسطين، وأن نظرة أعضائها المؤسسين لطبيعة الاستيطان أصبحت فيما بعد النظرة التي تبنتها جميع النخب التي انبثقت عن هذا المجتمع الاستعماري خلال جميع مراحل تأسيس كيان الاحتلال منذ ما قبل النكبة وحتى يومنا هذا.


[1] (بيلو Bilu): اختصار الجملة العبرية (בית יעקב לכו ונלכה، بيت يعقوب، ليخو فينيلخاه) وتعني بالعربية (بيت يعقوب، هيا فلنذهب).
[2] في شمال شرق أوكرانيا حاليًا.
[3] أُسست (بتاح تكفا) في 1878 وأعيد تأسيسها مرة أخرى في 1882.
[4] مستوطنون يهود هاجروا إلى فلسطين بهدف تكريس حياتهم للتعبد ودراسة التوراة واعتمدوا على تمويل يهود المنفى لهم.
[5] الحالوقاه Halukah: كلمة عبرية تعني (التوزيع) ويقابلها في اليديشية كلمة (الخالوكيه أو الكالوكيه Chaloo'keh) وهي عملية جمع وتوزيع تبرعات من يهود المنفى لصالح اليهود المقيمين في فلسطين بهدف التعبد.
[6] الرواد أو (الحالوتسيم Halutzim)، لفظ أُطلق على مهاجري الموجة الثانية من الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
[7] نسبة إلى (سيمون بارگيورا) أحد قادة التمرد اليهودي ضد الحكم الروماني (حوالي 70 قبل الميلاد).
[8] حزب (عمال صهيون)، مجموعات عمالية تبنت الماركسية الصهيونية منهجًا لها، تأسست في العديد من المدن الروسية والأوروبية الشرقية خلال مطلع القرن العشرين على إثر رفض حزب العمال اليهودي العام في ليتوانيا وبولندا وروسيا (البوند) تبني أهداف الحركة الصهيونية.
[9] نسبة إلى مدينة (هومل) الروسية والتي شهدت أعمال شغب موجهة ضد الأقلية اليهودية ضمن موجة عمت الإمبراطورية الروسية في ذلك الوقت خلال إبريل 1903، وراح ضحيتها عشرات اليهود في عدد من المدن واستحثت هجرة واسعة للأقلية اليهودية خارج أوروبا إلى الولايات المتحدة وغيرها من الدول، ومنها كان مهاجرو الموجة الثانية من المهاجرين اليهود إلى فلسطين. جدير بالذكر أن أحد مؤسسي (بار گيورا) وهو (يحزقئيل خنكين) كان أحد منظمي الدفاع الذاتي في هومل في 1903 قبل هجرته إلى فلسطين.
[10] مستوطنة مُقامة على أراضي قرية شجرة في الجليل.
[11] مستوطنة مُقامة على أراضي قرية مسحة في الجليل الأدنى جنوب غرب طبرية.
[12] اتحاد سياسي قام بين مملكة بولندا ودوقية ليتوانيا، أصبح جزءًا من الإمبراطورية الروسية خلال الربع الثاني من القرن التاسع عشر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق