مقدمة
أشرقت
شمس السابع من تموز 1770 على خليج (چشمه)، الواقع على بعد خمسين ميلٍ من ساحل (إزمير)
على الطرف الشرقي لبحر (إيجة)، وجثث أكثر من ثمانية آلاف من الجنود والبحارة العثمانيين
ما بين طافيةٍ فوق مياه الخليج أو غارقة فيها، جنبًا إلى جنب مع تسعة وستين قطعة
بحرية عثمانية، تنوعت ما بين سفن مدفعية وفرطاقات وقوادس وسفن شراعية صغيرة، إذ
خاضت خلال الأيام الثلاثة الماضية، منذ منتصف يوم الخامس وحتى شروق يوم السابع من تموز،
معركة بدت سهلة لأول وهلة ضد أسطولٍ روسي منهك من رحلةٍ طويلة بدأت من (سان بطرسبرگ)
عبر بحر (البلطيق) ثم مضيق (جبل طارق) وصولًا إلى جزيرة (پاروس) في بحر (إيجة) التي
اتخذها قاعدة له، خاصة مع تفوق العثمانيين في العدد والعتاد بسفنهم الثلاثة
والسبعين، منها ستة عشرة سفينة مدفعية، في مقابل أربعة وعشرين سفينة روسية، منها
إثني عشر سفينة مدفعية فقط، إلا أن المعركة، التي بدأت بأمر إطلاق النار الذي
أصدره القبودان "ماندالزادة حسام الدين باشا" قائد الأسطول العثماني، قد
اتخذت اتجاهًا مغايرًا للمتوقع.
|
معركة (چشمه)، لوحة لأيفان قسطنطيوفيتش آيفازوفيسكي |
بدأ
الأسطول الروسي مرتبكًا وبدا عاجزًا عن إحراز أي اختراقٍ للخط العثماني لما يزيد
عن اليومين، على الرغم من نجاح الروس في الحفاظ على معظم سفن الأسطول بدون أية إصابات، إذ لم يفقدوا خلال يومين سوى سفينة واحدة فقط خلال الاشتباكات المستمرة فوق
مياه الخليج. وعلى الرغم من ذلك، تراجعت سفن العثمانيين إلى الخلف بعد صمودها على
خط النار في قرار خاطئٍ وغير مفهوم من "حسام الدين باشا"، وازدحم ميناء
(چشمه) الضيق فجأة بعدد ضخم من القطع البحرية، لم يغب التراجع العثماني عن العين
اليقظة لقائد الأسطول الروسي، الكونت "ألكسى أورلوف"، ومستشاره العسكري
الأسكتلندي "جون إلفينستون"، والذي رافقه كجزءٍ من دعمٍ بريطاني لروسيا
في حربها ضد العثمانيين، ولم يضيع كلا الرجلين كثيرًا من الوقت في التساؤل عن سبب
اتخاذ خصمهم لهذه الخطوة، بل سارعا لتنفيذ مناورة خاطفة لحصار الميناء وتطويق السفن العثمانية داخله، واستعان الروس أخيرًا بأربعة سفن
انتحارية أضرموا بها النار ودفعوها نحو صفوف العثمانيين، يرافقها قصف مدفعي شرس
طال أسطول العثمانيين ومعسكرهم الرابض قرب الميناء، وما أن انتصف الليل معلنًا بدء
يوم السابع من تموز، حتى بدأت قطع البحرية العثمانية بالسقوط واحدةً تلو الأخرى
غارقةً في بحرٍ من النيران، ليعلن حطامها عن أقسى هزيمةٍ بحريةٍ للعثمانيين منذ
كارثة ليبانت في تشرين الأول 1571.
كانت
معركة (چشمه) جزءًا من ثالث حربٍ استعرت حماها بين
الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية خلال العقود الستة الماضية، وكانت أول حرب
تخوضها روسيا ضد العثمانيين تحت قيادة الإمبراطورة "كاثرين الثانية"، وعلى
الرغم من انتعاش العسكرية العثمانية خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر وتمكنها
من إحراز انتصاراتٍ مستحقة ضد روسيا نفسها بالإضافة إلى البندقية والإمبراطورية الرومانية
المقدسة بعد تراجع مهولٍ خلال القرن
السابع عشر، إلا أن هذه الصحوة على ما يبدو كانت مؤقتة، واستطاعت (روسيا "كاثرين")
أن تفرض على العثمانيين كلمتها في الميدان العسكري برًا وبحرًا، إذ استفادت من
مظاهر الضعف وانتشار الثورات وتراجع سيطرة الحكم المركزي داخل الإمبراطورية
العثمانية، كما أنها تغلبت على تضعضع الاقتصاد الروسي نتيجة لمشاركة الإمبراطورية خلال حرب الأعوام السبعة، ولأول مرة منذ زمن طويل، تمكنت، وبمعاونة بريطانية، من
كسر عقدة النقص الروسية في الحرب البحرية.
السياق
العام للحرب
|
الحدود السياسية لأوروبا والدولة العثمانية في العام 1766 |
أعلن
السلطان "مصطفى الثالث" الحرب على روسيا بعد مناوشات بين القوات الروسية
وفرق من الإنكشارية المرابطة على الحدود العثمانية البولندية بالقرب من حصن (بار)،
إذ تصدت الإنكشارية للقوات الروسية التي كانت تلاحق مجموعة من ثوار
"كونفدرالية بار" الهاربين نحو الأراضي العثمانية، لاحقت مجموعة من
المرتزقة القوزاق الثوار الهاربين إلى بلدة (بلطة) العثمانية بتحريضٍ من الروس،
وارتكبت بحق سكانها مجزرةً شنيعة قتلوا فيها كل من لم يتمكن من الهرب منهم، وجد
السلطان في تلك الحادثة فرصة لكبح جماح التدخل الروسي في (الكومنولث البولندي
الليتواني) والذي بلغ من الشأن نجاح روسيا في تمرير معاهدة مع الكومنولث، من خلال دورة
برلمانه المنعقدة في 1768، منحت المزيد من النفوذ للأقليات البروتستانتية
والأرثوذوكسية، وأعطت الحق للروس في إنزال قواتهم في العاصمة وارسو عند الضرورة.
تأسست
"كونفدرالية
بار" في شباط 1768 نتيجةٍ لجهودٍ حثيثة لتقليص النفوذ الروسي في الكومنولث
والذي مثَّله "نيكولاي ربنين" سفير روسيا في (وارسو)، وكانت الكونفدرالية تجمعًا من الثوار تكون بالأساس من مجموعة من النبلاء الكاثوليك دعمتهم شريحة واسعة من الفلاحين، عارضوا
حكم الملك المناصر للتدخل الروسي "ستانيسلو الثاني أغسطس"، وقد قاتل الثوار
في معارك مفتوحة عدة مرات ضد القوات الروسية، وقد باءت جهودهم بالفشل الذريع، حتى
بعد تحولهم إلى أسلوب حرب العصابات وشنهم للغارات على مواقع القوات الروسية وقوات
الكومنولث النظامية عبر أوكرانيا وجنوب بولندا، وقد تمكن الجيش الروسي من السيطرة
على مكان تجمعهم الأساس في حصن (بار) بالقرب من الحدود العثمانية البولندية في
حزيران 1768، وهو الهجوم الذي أُجبرت على إثره بقايا ثوار الكونفدرالية على الهرب
عبر الحدود وطلب الحماية من العثمانيين.
ضغط كل
من بقايا الثوار الهاربين إلى الأراضي العثمانية بالإضافة إلى البعثة الديبلوماسية
الفرنسية على الباب العالي لإعلان الحرب، وبصرف النظر عن موقف السلطان "مصطفى
الثالث" الحقيقي تجاه العمل العسكري ضد الروس، إلا أن احتشاد الناصحين
المؤيدين للحرب حوله من فرنسيين وبولنديين وأتراك، بالإضافة إلى تصاعد مشاعر الغضب
تجاه مذبحة (بلطة) قد شكلت جميعها عواملًا حاسمةً في إعلان السلطان للحرب، لقد
وفرت السياسة الفرنسية للعثمانيين ولفترة طويلة حليفًا ديبلوماسيًا مهمًا في
أوروبا، ومع حلول الربع الأخير من القرن السابع عشر، كانت فرنسا ضمن أكبر
المستوردين للبضائع عبر الموانئ العثمانية، خلافًا لكونها تمكنت من السيطرة على
نصيب الأسد من عمليات النقل البحري في شرق المتوسط واحتلت بذلك جزءًا كبيرًا من
مكانة البندقية سابقًا، وقد قدَّم الملك الفرنسي نفسه على الدوام كأعلى حامٍ
للكاثوليك في العالم المسيحي، ولذا فقد ساء الفرنسيين تدخل إمبراطورية أرثوذكسية
في شؤون الكومنولث ذي الأغلبية الكاثوليكية، بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت فرنسا
واثقة من تدخل عدوتها اللدود بريطانيا إلى جانب الروس في الحرب، وهو الذي تم
بالفعل، وقد عبَّرت عنه "كاثرين الثانية" بدون مواربة عندما بدأت في
الخروج إلى مجلس حكمها مرتديةً زيًا عسكريًا بريطانيًا بعد إعلان بلادها للحرب على
العثمانيين.
على
الجانب الآخر، استغلت الإمبراطورية الروسية الموقف الناشئ من أجل تعزيز سلطتها على
(الكومنولث البولندي الليتواني)، كما وجدت في الحرب فرصةً لفرض وضعٍ جديدٍ على
الأرض تُقلص خلاله نفوذ العثمانيين في منطقة القرم التي مثلت شوكة عثمانية في خاصرة
الروس، ولكي تملك مرونةً أكبر للملاحة في البحر الأسود، الذي خضعت معظم شواطئه
للسيطرة العثمانية، وفوق ذلك، اهتمت روسيا بتأكيد مكانتها كواحدةٍ من القوى الرئيسية
داخل أوروبا، وذلك عن طريق امتلاك موطئ قدمٍ داخل حدود الإمبراطورية العثمانية في
المشرق وتجارتها، والتي كانت واحدةً من ساحات التنازع على النفوذ بين القوى الكبرى
في القارة، وقد ظهر حرص الروس على تحقيق هذا الهدف بالذات من خلال إرسال
"كاثرين الثانية" لأسطول إمبراطوريتها في رحلة طويلة حول أوروبا لمقارعة
العثمانيين بحرًا في مياه المتوسطـ، ليس لإعاقة نشاطات الأسطول العثماني في البحر
الأسود فحسب، بل أيضًا من أجل الاشتباك مع الأقاليم العثمانية في المشرق بشكلٍ
مباشر، وبخاصة مع رعايا الإمبراطورية العثمانية من اليونانيين الأرثوذوكس، والذين
ستستخدمهم الإمبراطورية الروسية لاحقًا كذريعة للتدخل في الشؤون العثمانية
الداخلية باعتبارها حامية لهم.
الروس في
المتوسط: في سبيل جبهة يونانية
شبه جزيرة المورة
تمكن
الكونت "أورلوف" من إنجاح مساعي "كاثرين" بانتصاره الساحق على
العثمانيين في (چشمه)، وقد فتح له انتصاره الطريق إلى (إزمير)، والتي كانت هدفًا
سهلًا نسبيًا بالنسبة للأسطول الروسي مقارنةً بالعاصمة (إسطنبول)، إلا أن الروس لم يقتربوا من
(إزمير) قط، واكتفوا بالتمركز في جزيرة (پاروس) والانطلاق منها كل حينٍ وآخر
لمهاجمة موانئ عثمانية أخرى وتقديم الدعم للثوار اليونان في محيط بحر إيجة. كان
الكونت "أورلوف" قد استقبل في سفينة قيادة الأسطول وفدًا من التجار
الأوروبيين القاطنين في (إزمير) بعد الانتصار في (چشمه)، وقد تمكنوا من إقناعه من
أن كل فرسخ ستتقدمه السفن الروسية ناحية (إزمير) سيرفع من احتمالية قيام
العثمانيين بأعمال انتقاميةٍ منظمةٍ ضد سكان المدينة من اليونانيين الأرثوذوكس،
وهو ما حدث بالفعل في (إزمير) ومدن عثمانية أخرى ردًا على الثورات اليونانية في
شبه جزيرة (المورة) وجزيرة (كريت) التي تلت حضور الأسطول الروسي إلى بحر (إيجة). عاد
الأسطول الروسي للمرابطة في جزيرة (ـپاروس)، وانطلق منها للقيام بهجمات سريعة
وخاطفة ضد عدد من الموانئ العثمانية على شاطئ المتوسط، كما قدم الدعم للثوار
اليونانيين، إلى أن بدأت اتصالاته بمتمردي القطر المصري الذين طلبوا من الروس
العون في مسعاهم لإنهاء السيطرة العثمانية على مصر وسورية.
لقد
تنبأت أساطير الكنيسة اليونانية بجنسٍ أشقر من الشمال وبإمبراطورٍ مرمري مدفونٍ
تحت باب "القسطنطينية" الذهبي، سيصعدان لتحرير اليونانيين من النير الذي
أوقعته على رقابهم أيادي الأتراك، ورأى اليونانيون في "كاثرين الثانية"
مخلصتهم وقد أسبغوا عليها آيات الأسطرة والتقديس، ومن المعروف أن العديد من رجال
الدين اليونانيين قد راسلوا أباطرة الروس خلال القرن السابع عشر يستحثونهم على
النهوض وتحرير أرض الإمبراطورية الرومانية القديمة، غير عابئين باحتمالية انكشاف
أمر هذه المراسلات أمام العثمانيين، ولذا فقد اشترك الكثير من اليونانيين في
الثورة بحماسة عندما وصلهم المبعوثون الروس في وقتٍ متأخرٍ من العام 1768 طالبين
منهم التنسيق من أجل دعم النشاط العسكري الروسي على الجبهة العثمانية، لقد أرسلت
روسيا مبعوثيها مبدئيًا إلى (المورة)، ومن ثم توالى وصول المبعوثين إلى كل من (الجبل
الأسود) و(ألبانيا) و(البوسنة) و(الهرسك) بالإَضافة إلى جزيرة (كريت)، وقد أثمرت
أولى جهود الاتصالات هذه عن تقديم أدلاء وبحارة للأسطول الروسي لمساعدتهم على
الإبحار عبر (إيجة) والعثور على الأسطول العثماني، كما وافقت النخب اليونانية على
بدء ثورة مسلحة في مقابل وعودٍ من قيادة الأسطول بإرسال قوة عسكرية لا يقل قوامها
عن عشرة آلاف جندي روسي بالإضافة إلى أسلحة ومعونات عسكرية، وقد أشرف الروس على تنظيم
الثورات المسلحة بقيادة "ألكسى أورلوف" بمعاونة أخيه "فيودور"
الذي تولى بنفسه تنظيم وقيادة الثوار اليونانيين في (المورة) والتي منحها الروس
اهتمامًا خاصًا بسبب موانئها ومكانتها الاستراتيجية.
على
الرغم من خيبة أمل اليونانيين بالدعم الروسي المقدم لحراكهم ضد العثمانيين والذي
لم يزد عن عدة مئات من الجنود وصلوا في ديسمبر 1769 على متن أربعة سفن عسكرية تحمل
معوناتٍ عسكريةٍ متواضعة، إلا أن ذلك لم يُثن عزم اليونانيين عن إشعال الثورة على
الرغم من تزعزع ثقة اليونانيين في جدية الدعم الروسي، وفي فبراير 1770 وصلت القوة
البحرية الروسية الأساسية بقيادة "ألكسى أورلوف" إلى ساحل (ماني) جنوب
(المورة) وساعدت بحشد قوة عسكرية روسية – يونانية مشتركة لم يزد عددها عن ثلاثة
آلاف جندي حتى مع الإمدادات التي وصلت من جزيرة (كريت)، تم تقسيمهم إلى فيلقين تحت
قيادة عدد من الضباط الروس، أحدهما تمركز في (ماني) و(كالاماتا) الواقعتين ضمن
مقاطعة (مِسينيا) جنوب غرب (المورة)، والآخر تمركز في مقاطعة (لاكونيا) في جنوب
شرقها. وقد نجحت القوتان في السيطرة على الحصون والمناطق في جنوب شبه الجزيرة، كان
من ضمنها حصن (ميستراس) والتي أقامت فيه قوات الثوار حكومة محلية، لكنها ظلت عاجزة
عن الوصول إلى قلب الجزيرة والسيطرة على (تريبولي)، المدينة الرئيسية فيها.
وصلت
أخبار الثورة إلى (إسطنبول) وانتشرت في عموم الإمبراطورية، وقد اندلعت على إثرها
أعمال عنف استهدفت الأقليات المسيحية في عدد من المدن العثمانية في الأناضول،
وخصوصًا مدينة (إزمير)، وقد تحولت بطبيعة الحال إلى مذابح منظمة، فيما هاجم الثوار
أنفسهم السكان المسلمين في (المورة) وارتكبوا بحقهم المجازر أيضًا.
امتدت
الثورة إلى كريت بدون انتظار الدعم الروسي، واستطاع "أيونيس
فلاخوس داسكالوجيانيس"، وهو وجيه يوناني وأحد
أقطاب صناعة السفن والنقل البحري في شرق المتوسط، أن يجمع قوة من ألفي مقاتل تنظمت
في جبال (كريت) وهبطت إلى القسم الغربي من الجزيرة وهاجمت الحامية العثمانية
بنجاح، وقد حاول الثوار الصمود حتى وصول الدعم الروسي الموعود، ولم تنجح
انتصاراتهم المبدئية في إقناع المزيد من الكريتيين في الانضمام للثورة بدون دعمٍ
خارجي، وانتهى بها الأمر بالتراجع أمام القوات العثمانية الأكثر عددًا، وهو الأمر
الذي تكرر في (المورة) كذلك، إذ نجحت قوات مرتزقة من الألبان المسلمين، تم حشدهم
على عجل تحت قيادة ضابط يُدعى "عثمان بك"، في الوصول إلى (تريبولي)
والسيطرة عليها، ونجحوا في صد هجوم لثوار (مسينيا) و(لاكونيا) على المدينة وباشروا
"دفاعهم" عنها بمذبحة طالت عددًا من سكان المدينة
المسيحيين كوسيلةٍ للضغط على الثوار لفك حصارهم، وكادت قوات "عثمان بك"
أن تفتك بالمدينة بشكلٍ كامل لولا تدخله شخصيًا لردعهم عن ذلك. لم يطل الأمر قبل
أن تتراجع قوات الثوار في مقابل تقدم القوات الألبانية والتي نجحت في تفكيك حكومة
(ميستراس) وإعادة السيطرة على الحصون التي خضعت لحكم الثورة، خاصة مع انسحاب
القوات الروسية وتراجع الأسطول الروسي إلى عمق بحر (إيجة) بحلول حزيران 1770
وتخليه عن الثورة اليونانية بالكامل.
مصر
وسورية: المشهد في الداخل العثماني
شهد
العام 1763 وصول "علي بك الكبير" إلى رأس هرم السلطة في القاهرة كشيخ
بلد وقائم مقام الوالي العثماني، وقد أمضى السنوات الأولى من حكمه يوطد سلطته
ويقصي منافسيه داخل دوائر النفوذ المملوكية، وعلى الرغم من الانتكاسة المؤقتة التي
عانى منها في 1766 عندما اضطر للهرب من القاهرة والاختباء من بطش منافسيه في مدينة
غزة، إلا أنه عاد مرة أخرى وتمكن من إحكام سيطرته على القاهرة وبسط نفوذه على مجمل
الإيالة المصرية، وذلك بعد أن قضى أيضًا على الحكم الذاتي الذي رسخه شيخ العرب
"همام بن يوسف" كبير مشايخ قبائل الهوارة في الصعيد، وقد استغل خلافًا داخل العائلة
الهاشمية على شرافة مكة لإرسال حملة عسكرية مد بواسطتها سلطته على الحجاز، ولم يكن
ولاة الإمبراطورية في مصر يتمتعون في تلك اللحظة بأي سلطة فعلية على الأرض، فقد
تمكنت طبقة المماليك من الحفاظ على وجودها داخل الدوائر الإدارية للإيالة المصرية
حتى بعد تفكك سلطنة الجراكسة في 1517 وقد راكمت هذه الطبقة مزيدًا من النفوذ مع
مرور الوقت إلى أن وصل الأمر إلى الحد الذي تمكن فيه مماليك مصر العثمانية من القيام
بحركة انفصالية ضد مركز الدولة تحت قيادة "علي بك"، إذ قام بطرد والي
الدولة "راقم محمد باشا" ثم اغتال بديله "كور أحمد باشا"
بالسم في نيسان 1768 (أي قبل بدء العمليات العسكرية للحرب الروسية العثمانية بعدة
أشهر)، وباشر "علي بك" بصك عملة جديدة نُقش عليها اسمه بجانب السلطان، وتوقف
عن دفع مال الميري للباب العالي بشكل نهائي، على الرغم من أنه رفض أن يُدعى له ويذكر
اسمه بعد اسم السلطان في خطبة الجمعة.
لم تكن
أهداف "علي بك الكبير" بعد سيطرته على مصر وإحكامه لقبضته على الحجاز
واضحة، لكنها بدون شك، قد شملت تأمين الإقليم السوري على الأقل، لربما ظن
"علي بك" أن بإمكانه الزحف حتى الوصول إلى "إسطنبول" ولكنه
غالبًا ما كان سيكتفي، في حال مهاجمته لسورية، بالسيطرة على دمشق وحلب، مكتفيًا
بإعادة تأسيس السلطنة المملوكية على حدودها القديمة، وقد وفَّرت له الحرب العثمانية
ضد روسيا فرصة ذهبية لتنفيذ مسعاه.
باشر
"علي بك الكبير" بتجهيز عسكره من أجل تجريد حملة على سورية بالفعل،
وحاول تجنيد كل جهوده الديبلوماسية من أجل الحصول على حليف قوي يساعده على تحييد
القوة البحرية العثمانية في المتوسط، لقد أيقن "علي بك" عشية بدء الحرب
مع روسيا أن المركز العثماني قد أمسى عاجزًا عن إرسال الدعم البري لنخبه في
الإيالات الجنوبية في حال واجهت ما يستدعي ذلك، وقد كانت قوات
المماليك كفيلةً بالتصدي للمجموع العسكري العثماني في سورية، لكن ما أقلقه هو
القوة البحرية التي رابطت في بحر (إيجة)، والتي امتلكت القدرة على الوصول إلى أي
ميناء عثماني على الساحل السوري وإنزال ما يكفي من الجند لإحباط مخططه، ولذا فقد
قضى سنتين من عمر الحرب العثمانية الروسية، باحثًا عن حليفٍ "بحري"
يعاونه على صد قوة الأسطول العثماني ومنعه من التدخل في حال مهاجمته سورية، وقد
راسل كلًّا من جمهورية البندقية وتنظيم فرسان القديس يوحنا (الذي يسيطر على حكومة
مالطة ونشاط قراصنتها البحريين) للحصول على دعمهم في مسعاه،
وباءت جهوده في إقناع الطرفين بالفشل، وقد قدم له الروس الحل عندما اكتسحوا
الأسطول العثماني في خليج (چشمه) وأخرجوا القوة البحرية العثمانية خارج المعادلة
بشكلٍ كامل.
أما
بالنسبة لسورية، فقد بدا أن المركز العثماني قد تمكن من ضبط نخبه وأعيانه المحليين
عشية بداية الحرب، وقد تسبب "آل زيدان" وزعيمهم الأبرز "ظاهر العمر
الزيداني" بالكثير من القلاقل للحكم العثماني خلال فترة العقود الأربعة
الماضية على الأقل، وقد أمضى "ظاهر العمر" معظم فترات حكمه للجليل (شمال فلسطين)، التي امتدت
فعليًا منذ ثلاثينات القرن الثامن عشر على الأقل، في نزاعٍ دائمٍ مع ولاة الدولة في صيدا ودمشق
(باستثناء فترة حكم أسعد باشا العظم على دمشق 1743 – 1757)، وتمكن "ظاهر
العمر" خلالها من توسيع نفوذه من مجرد ملتزمٍ محلي في طبرية إلى حاكم فعليٍ
للجليل من حدود جبل عامل حتى مرج ابن عامر، متخذًا من ميناء عكا كرسيًا لحكومته، ومستفيدًا
من عائدات احتكاره لتجارة المحاصيل التجارية في الجليل مع الحكومة الفرنسية، حتى
استطاع تثبيت اسمه كأقوى حاكم محلي متمردٍ في تاريخ فلسطين العثمانية.
تلقى
"ظاهر العمر" الكثير من الإزعاجات من إيالة دمشق بعد تولي "عثمان
باشا الكرجي" منصب الوزارة في 1760، وقد افتتح "عثمان باشا الكرجي"
فترة ولايته، التي امتدت لحوالي أحد عشر سنة، بمناصبة العداء للزيادنة في
(الجليل)، وقد تمكن "ظاهر العمر" من تحييد كثيرٍ من الخطر الذي مثله
"عثمان باشا الكرجي" عن طريق وكيله في العاصمة (إسطنبول)، إذ تمكن من
خلال علاقاته برجالات الحكومة العثمانية وبعض المقربين من السلطان من تغيير دفة سياسات
الباب العالي تجاهه كزعيمٍ متمرد، وأبطلت عددًا من القرارات التي استصدرها ولاة
دمشق وصيدا ضده أو أحالتها للقضاء للبت فيها، وقد عزز "ظاهر العمر" من
موقفه أمام "عثمان باشا" عندما عقد تحالفًا مع خصومه السابقين (متاولة جبل عامل) تحت زعامة كبير مشايخهم "ناصيف النصار آل الصغيِّر"، وسلب بذلك "عثمان باشا الكرجي" ورقةَ ضغطٍ سبق وأن استُخدمت ضده عدة مرات، حيث
منح ولاة دمشق للمتاولة الغطاء لإشعال نزاعات عنيفة ودموية ضد الزيادنة، أولًا
بسبب نزاعات حدودية بين الطرفين، وثانيًا بسبب دعم المتاولة لبعض
أبناء "ظاهر العمر" في ثوراتهم ضد أبيهم، وعندما بدأت الحرب على الجبهة
الروسية في 1768، حرص الباب العالي على استرضاء "ظاهر العمر" ومنحه لقب
(أمير الأمراء والحاكم في عكا والناصرة وبلاد الجليل) بشكلٍ رسمي، وصاحب ذلك منحه
التزام المناطق التي يحكمها مدى الحياة على سبيل المالكانة، وذلك في سبيل الحد من أي
إزعاجٍ سيسببه خلال فترة الحرب ضد النخب العثمانية في إيالتي دمشق وصيدا.
وبأي
حال، فإن "ظاهر العمر" فقد مناصريه في (إسطنبول) دفعة واحدةً في العام
1766، فشنق أحدهم وتُوفي الثاني ونُفي الثالث، وهو السلحدار "سليمان
آغا"، حارس السلطان الشخصي وحامل سلاحه، إلى جزيرة قبرص، وأمضى "ظاهر
العمر" سنتين بدون ظهيرٍ له في (إسطنبول)، حتى عودة "سليمان آغا" من
المنفى وتسلمه منصب السلحدار من جديد، لكنه عاد ليفقد خدماته مرة أخرى بعد
وفاته في تموز 1770، وقد أعقب ذلك نجاح "عثمان باشا" في تشرين الثاني من
ذات العام في تولية ابنه "محمد باشا" وزيرًا على طرابلس، وابنه الآخر
"درويش باشا" وزيرًا على صيدا، في مسعىً منه لتوطيد حكمه وتقوية نفوذه
ولتوحيد جهود الإيالات السورية ضد الحكم الزيداني في (الجليل)، وأصبح والحال كذلك،
أكثر تهديدًا "لظاهر العمر" من أي وقتٍ مضى، وهو ما دفع
"ظاهر" لاتخاذ إجراءاتٍ راديكاليةٍ صعَّدت حدة التناقض بينه وبين
السلطات العثمانية في العاصمة والإيالات السورية بشكلٍ غير مسبوق.
لقد
تظافرت الظروف التي أحاطت بالوضعين المصري والسوري الجنوبي من أجل إيصال الزيادنة
والمماليك إلى التحالف كنتيجة حتمية، إذ التقت مصالح كلا الطرفين ضد المركز
العثماني، وقد كان الباب العالي يمثل بالنسبة لكلا الجهتين حالة من الخطر المؤجل
كقنبلة موقوتة ستنفجر في أية لحظة بعد انتهاء الحرب ضد روسيا، وكان لزامًا عليهما
استغلال فترة الحرب من أجل إبعاد خطره عن المنطقة بشكلٍ كاملٍ وخلق وضعٍ جديدٍ
تتمتع فيه نُطُق النفوذ التي خضعت لحكمهم للاستقلال.
وترتبك
المصادر في تحديد موعد الاتصال الأول بين القاهرة وعكا، لكن المؤكد أنه قد تم في
1770 على أقصى تقدير، وأن أول نتائجه كانت حملة عسكرية قوامها عشرة آلاف جندي
أرسلها "علي بك الكبير" من مصر إلى فلسطين تحت قيادة مملوكه
"إسماعيل بك" في منتصف تشرين الثاني 1770 على أن تكون تحت قيادة وإشراف
"ظاهر العمر"، وقد نجحت بسهولة في السيطرة على الساحل الجنوبي لفلسطين
حتى يافا والتقت بقوات تحالف الزيادنة والمتاولة، كما لحقت بها حملة أخرى قوامها
أربعون ألف جندي تحت إمرة المخضرم "محمد بك أبو الدهب" أحد أشرس مماليك
"علي بك" وأكثرهم قربًا منه، وصلت إلى فلسطين في أيار 1771 برفقة حملة
بحرية نقلت عتاد الجند ومدافعهم، انطلقت من دمياط إلى يافا برفقة ما يزيد عن خمسة
عشر ألف جندي كذلك، وقد نجحت الحملة التي قادها "أبو الدهب" في هزيمة
تحالف "عثمان باشا" مع باشوات الإيالات السورية في الثاني من حزيران
1771 جنوب دمشق، ونجحت بحلول الثامن من حزيران في السيطرة على المدينة باستثناء
قلعتها، وفيما هرب "عثمان باشا" إلى حمص، أعد "أبو الدهب"
العدة للتحرك نحو حلب حسب الأوامر الصادرة إليه من القاهرة، إلا أنه، ولسبب غير معروف بدقة، عاكس كل التوقعات وانسحب من دمشق في أوج انتصاراته وقفل عائدًا إلى مصر بدون أي مقدمات.
فُسِّر انسحاب "أبي الدهب" كنتيجةٍ لزيارة بعض مبعوثي الباب العالي الذين حضروا
إليه في دمشق، وأقنعوه بخيانة سيده حرصًا على نفسه من غضب السلطان، تذرع "أبو
الدهب" أمام سيده "علي بك" بخيانة "ظاهر العمر" لعسكره
التي أجبرته على التراجع، لم يطل الأمر قبل أن يندلع النزاع على السلطة بين
الطرفين في مصر، والذي حُسم لصالح "أبو الدهب" سريعًا حيث أُجبر
"علي بك الكبير" على الفرار إلى فلسطين التي وصلها في بداية أيار 1772، حيث
احتمى بحليفة "ظاهر" برفقة سبعمائة من مماليكه، وقد شاركه لاحقًا
في عملياته العسكرية ضد السلطات العثمانية في صيدا ودمشق، وبينما كان "علي
بك" يحث الخطى للوصول إلى عكا، كان الأسطول الروسي قد تحرك من جزيرة (پاروس)
وسط بحر (إيجة) متجهًا نحو دمياط بغية الاتصال مع "علي بك" وإتمام
تحالفهم معه باسم الإمبراطورية الروسية.
مصر
وسورية: بداية الاتصال
ضيعت
حركة التمرد التي قادها "محمد بك أبو الدهب" بعودته من دمشق إلى القاهرة
جهود سنواتٍ طويلةٍ سبق وأن بذلها "علي بك الكبير" في سبيل توحيد مصر
بجميع أقاليمها تحت قيادته، فلم يكتفِ "أبو الدهب" بعصيان أوامر سيده في
ميدان الحرب، بل أجج الصراع على الحكم داخل القاهرة كذلك، وهو الذي دفع "علي
بك" إلى إعادة البحث عن حليف قوي يساعده في مسعاه ضد العثمانيين في سورية،
خاصة وأن موقف حليفه "ظاهر" الذي تعرض لذات الخيانة من "أبو
الدهب" أمسى حرجًا إذ وقف لوحده رفقة حلفائه من المتاولة في وجه قوى
"عثمان باشا الكرجي" ومن أمرتهم العاصمة بمساندته من باشوات وولاة
الإيالات السورية وجنوب الأناضول.
وعلى
الرغم من نجاح "ظاهر العمر" في القضاء على قوى "عثمان باشا
الكرجي" في دمشق في معركة فاصلة بين الطرفين في سهل الحولة شمال شرق فلسطين
في الثاني من أيلول 1771 أثناء خروج "عثمان باشا" على رأس قافلة الدورة،
إلا أن استعادة "ظاهر العمر" لثقة حليفه "علي بك" لم تثنِ
الأخير عن طلب المساعدة من الأسطول الروسي المرابط في جزيرة (پاروس). لقد أرسل قائمقام
مصر أحد مبعوثيه إلى (پاروس) والتقى نائب قائد الأسطول الأدميرال "گريگوري
سبريندوف" ومرر إليه اقتراحات "علي بك" بإقامة تحالفٍ بينه وبين
الروس يتضمن الاعتراف به سلطانًا على مصر وسورية، كما عرض على الأسطول الروسي دعمه
وقت الحاجة بالذخيرة والمؤن، ولم يكتفِ المبعوث بالوعد الذي قطعه له "سبريندوف"
بنقل الاقتراح للورد "أورلوف"، وتوجه بنفسه إلى ميناء (ليفورنو)
الإيطالي حيث كان "أورلوف" يقضي هناك زيارة سريعة، وعرض عليه مقترحات "علي
بك" شخصيًا، ولحماسة "أورلوف" للأمر، قام بإرسال المبعوث في رحلة
عبر أوروبا إلى (سانت بطرسبرگ) لعرض فكرته على الحكومة الروسية والإمبراطورة "كاثرين
الثانية شخصيًا".
مدفوعةً
بحلمٍ تمد فيه روسيا سلطانها على مصر، وافقت "كاثرين" بحماسة على الاتحاد
مع "علي بك" ومماليكه، وتفيد المصادر أن "كاثرين" قد راقبت الوضع
في الداخل العثماني عن كثب، إذ ذكرت تمرد "علي بك" في أحد مراسلاتها، وما
أن قطعت موافقتها على الاتحاد مع "علي بك" الطريق من (سانت بطرسبرگ) حتى
(پاروس) وبدأت على إثرها بعض سفن الأسطول بالتحرك نحو دمياط لإتمام الاتصال به،
حتى كان "علي بك" قد خسر مواجهته ضد "أبو الدهب" واضطر للفرار
إلى فلسطين ملتجئًا إلى الزيادنة، وما أن وصل الخبر إلى السفن الراسية قبالة
دمياط، حتى توجهت للبحث عنه في فلسطين. وصلت السفن التي كانت تحت قيادة البحار
اليوناني "جورج ريزو"، وكان معظم بحارتها وجنودها من المرتزقة الألبان
واليونان، إلى خليج عكا في حزيران 1772، وباشرت الاتصال بالحلف السوري المصري في
سبيل إتمام التحالف، ولكن بناءً على ترتيباتٍ جديدة.
العمليات
العسكرية للأسطول الروسي على الساحل السوري
|
العمليات العسكرية الروسية على الساحل السوري |
حاول
"علي بك" الحصول على الدعم الروسي ضد "محمد بك أبو الدهب" في
مصر، وقد دعم طلبه بوعدٍ بمنح الإمبراطورية الروسية وجودًا وسيادة على الأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين، وقد وعد الضباط بنقل طلبه إلى (سانت بطرسبرگ)، على
أن الدعم الروسي الموعود لن يصل "لعلي بك" أبدًا، شأنه شأن الدعم الذي وُعد به الثوار اليونانيون في
(المورة) وجزيرة (كريت). ساعد "علي بك" حلفائه السوريين في سبيل عقد
اتفاقٍ مع الروس للقيام بعمليات عسكرية مشتركة معهم ضد السلطات العثمانية في صيدا
ودمشق وتوفير دعمٍ بحري لتحركاتهم البرية على طول الساحل، وقد اتفق "ظاهر
العمر" على تزويد السفن الروسية بالمؤن وتغطية تكاليف عملياتهم على الساحل
السوري (بمبلغ تجاوز ثلاثمائة ألف قرش عثماني)، وقد أثمر تحالف الطرفين بدايةً عن مساهمة
الروس في فك الحصار العثماني عن أتباعه في مدينة صيدا، والذي فرضته قوات دمشق
بالتعاون مع دروز جبل لبنان تحت قيادة الأمير "يوسف الشهابي".
كان
"ظاهر" قد تمكن من السيطرة على صيدا بعد هزيمته "لعثمان باشا الكرجي"
في سهل الحولة كما سبق ذكره، وهي الهزيمة التي تسببت في طرد "عثمان
باشا" وأبناءه "درويش" و"محمد" من مناصبهم كوزراء لإيالات دمشق، صيدا وطرابلس، وقد سعى "عثمان
باشا المصري" المعين حديثًا سر عسكر (قائد عسكري عام) لقوات الدولة في دمشق، أن
يسترجع بأي وسيلةٍ ممكنةٍ عاصمة الإيالة السورية الصغيرة، واستعان بمليشيا الدروز
(مرتدي العقال) والذي وجد قائدهم "يوسف الشهابي" مصلحته
أخيرًا في مهاجمة الزيادنة وتحجيم نفوذهم والذي سيعني تلقائيًا تحجيم نفوذ حلفائهم
المتاولة، أعداء الشهابيين التقليديين. وصلت السفن الروسية إلى صيدا في الثاني عشر
من حزيران 1772، وأغرقت و/أو أجبرت على الفرار ما مجموعة اثنا عشر سفينة عثمانية
رابطت بالقرب من ميناء صيدا، كما قصفت معسكر الدروز على البر.
فك تحالف
الزيادنة والمتاولة الحصار عن صيدا أخيرًا بالتزامن مع انتصار الحلف على جيشٍ
عثمانيٍ أرسله "عثمان باشا المصري" بقيادة "الدالي خليل" في
سهل الغازية. توجه الروس، بطلبٍ من "ظاهر العمر"، إلى بيروت التي كانت
تخضع لنفوذ الأمير الشهابي، والتي كانت آخر الموانئ الموالية للعثمانيين في إيالة
صيدا، وصلت السفن الروسية في الثامن عشر من حزيران، وفرضت حصارًا على الميناء
مصحوبًا بقصفٍ عنيف على قلعة البلدة ومينائها، كما أبرَّت بعض القوات التي هاجمت
المدينة من اليابسة، فشلت القوات البرية في اجتياح المدينة، وانتظر الأسطول ليوميين
تاليين حتى تمكن قصفه المستمر من كسر دفاعات البلدة، دخلت القوات الروسية بيروت سريعًا
وقامت بنهب سوقها وثلاثمائة من بيوتها، كما أجبرت الأمير "يوسف الشهابي"
على دفع إتاوة قبل مغادرتها سريعًا قبل وصول أية إمداداتٍ لنجدة البلدة من دمشق.
عادت السفن
إلى (پاروس)، ولكن غياب الروس عن الشاطئ السوري لم يطل كثيرًا، فقد عاد "ظاهر
العمر" للاستعانة بهم مرة أخرى للسيطرة مرة ثانية على يافا، وقد كان ملتزم
مدينة نابلس "مصطفى بك طوقان" الموالي لدمشق قد نجح في السيطرة على البلدة
أثناء انشغال الزيادنة في فك الحصار عن صيدا، وقد فرض "ظاهر" حصارًا على البلدة،
ووصل في أيلول 1772 إلى محاصِري يافا ضابطان روسيان على رأس نجدة حملت معها بعض
الأسلحة والذخائر، أهمها ثلاثة مدافع ميدان مع جراراتها، وقد قُتل أحد الضابطين
برصاص المُحاصَرين، على أن مجهودات الروس في يافا قد عُلقت على عجل، بعد أن وصلت أخيرًا
أخبار هدنة بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية جُمدت على إثرها العمليات
القتالية، واضطر "ظاهر العمر" لاستكمال الحصار من البر ولم ينجح في استعادة
البلدة إلا في شباط 1773. جدير بالذكر أن الهدنة، التي ستستمر حتى آذار 1773، قد
دخلت حيز التنفيذ بداية من أيار 1772، ولم تصل عنها أية أخبار للقوات الروسية
العاملة في المتوسط إلا في وقتٍ متأخر، بسبب صعوبة المواصلات وإرسال البريد من روسيا إلى المتوسط عبر أوروبا، وهو ما كاد أن يتسبب بأزمة بين الإمبراطوريتين.
احتلال
بيروت
يأس
"علي بك الكبير" أثناء انتظاره الطويل برفقة "ظاهر العمر" من
وصول أية نجدة روسية لمساعدته على استعادة القاهرة من "محمد بك أبو
الدهب" وقد قرر العودة إلى القاهرة بناء على مراسلاتٍ مكثفة مع مماليكه
السابقين من قيادات وأمراء المماليك في القاهرة وخارجها، حيث أوصلت إليه هذه المراسلات
وعودًا بالدعم والمساندة ضد " أبي الدهب" في حال قرر العودة، وقد خرج "علي
بك" بالفعل في نيسان 1773 قاصدًا القاهرة غير مدركٍ للمكيدة التي نصبها "أبو الدهب" له، إذ أُرسلت الرسائل هذه بناءً على أوامره، كمن "أبو الدهب" لموكب سيده السابق أثناء عودته إلى القاهرة قرب الصالحية (في محافظة الشرقية بمصر اليوم) وهزم الكتيبة المرافقة
له وتمكن من إصابته وأسره، ونقله إلى القاهرة حتى توفي الثامن من أيار من نفس
العام.
كانت
العمليات القتالية بين الروس والعثمانيين قد استؤنفت من جديد بعد فشل مفاوضات
السلام، وبعد أن تأكد "ألكسى أورلوف" خلال مراقبته الحثيثة من أن
الإمبراطورية العثمانية لن تستخدم أيًّا من قدراتها البحرية التي استعادتها خلال
فترة الهدنة
في مجابهة الأسطول الروسي في (پاروس)، قرر إرسال قوة بحرية أكبر نحو عكا بهدف
الاتصال مع "علي بك" والتنسيق من أجل دعمه لاسترداد القاهرة مرة أخرى،
وإذ فوجئت القوة الروسية مرة أخرى بغياب "علي بك"، ووصول أخبار مقتله
كذلك، قررت الاستمرار في دعم المتمردين المحليين في سورية، ووقعت اتفاقية صداقة
باسم الإمبراطورية الروسية مع "ظاهر العمر".
أظهرت خريطة
التحالفات المحلية داخل إيالتي صيدا ودمشق تبدلاتٍ جوهريةٍ خلال فترة السنوات
الثلاثة السابقة، وبخلاف انحياز جزءٍ مهم من قوى جبل نابلس لصالح الزيادنة وانضمام
ريف الجبل للحكم الاسمي "لظاهر العمر"، فإن دروز جبل لبنان قد اضطروا لإنهاء
حالة العداء بينهم وبين الزيادنة كذلك وعقدوا معهم اتفاقًا للدفاع المشترك. كان "يوسف
الشهابي" قد استعان "بعثمان باشا المصري" سر عسكر دمشق من أجل تحصين بيروت ضد أي
هجوم محتمل بعد أن اجتاحها الروس في حزيران 1772، وقد وصله إمداد بقيادة مملوكٍ
بوسني يُدعى "أحمد بك" ويُلقب (بالجزار) والذي سيُعرف لاحقًا باعتباره أحد
أشرس الولاة العثمانيين في سورية خلال القرن الثامن عشر. قرر "أحمد بك" رفض
الانصياع للإشراف الشهابي على بيروت، وأغلق المدينة وتحصن بها مع جنوده من
المرتزقة المغاربة، وقد لجأ "يوسف الشهابي" إلى "ظاهر العمر
لمساندته في استعادة ميناءه، واضطر "ظاهر" للتعاون مع الروس مرة أخرى
لقصف البلدة، كان "ظاهر" مهتمًا بعدم ترك منفذٍ للسلطات العثمانية في
دمشق داخل إيالة صيدا، لكنه قرر في ذات الوقت عدم استنزاف مجهوده الحربي أو المالي
في سبيل ذلك وقام بتحويل المهمة بالكامل للروس، على أن يلتزم "يوسف الشهابي" ببنود
أي اتفاق يعقده الزيادنة مع القوات الروسية، وقد تولى "أحمد آغا الدنكزلي"، ملتزم صيدا
وقائد فيلق المشاة المغاربة التابع للزيادنة، مهمة التفاوض مع الروس، وخلص الطرفين
إلى تكفل السفن الروسية بمهمة استخلاص بيروت من يد "أحمد بك" ومرتزقته وتسليمها إلى
"يوسف الشهابي" في مقابل حوالي ثلاثمائة ألف قرشٍ عثماني، على أن يُحتجز
الأمير "موسى منصور الشهابي"، ابن عم "يوسف"، رهينة لدى
الأسطول الروسي حتى استيفاء المبلغ، مع وعدٍ روسي للشهابيين بعدم نهب البلدة بعد اجتياحها.
بدأ الروس
بقصف البلدة ما بين آخر تموز وأول آب 1773، وحاولوا عدة مرات اقتحامها برًا بعد
إنزال على الشاطئ المجاور لجنود مشاة رافقتهم واحدة مدفعية، اقتصر دور الدروز على الحصار
البري وقطع طرق الإمداد، وقد رفض "يوسف الشهابي" الاشتراك مع الروس في
محاولة اقتحام البلدة، كان وضع العثمانيين في سورية قد وصل إلى أقصى درجةٍ من الضعف
بينما المركز العثماني عاجز عن توفير أي دعمٍ لنخبه على الأرض، انتشرت أعمال الشغب
في دمشق احتجاجًا على عجز الوالي عن تقديم أي مساعدة لبيروت التي تتعرض لمحاولة
احتلال أجنبي، ولم يُرسل ولاة سورية أي نجدة "لأحمد الجزار" سوى قوة
قادها والي طرابلس واشترك كل من الشهابيين والزيادنة في صدها قرب سهل البقاع، قاد
"أحمد الجزار" مقاومة عنيفة على الرغم من نقص العتاد والذخيرة، وظل
مستمرًا في صموده حتى وصل نقص المواد الغذائية في البلدة إلى الحضيض، وبنهاية
سبتمبر وافق "أحمد الجزار" على مناقشة شروط الاستسلام.
سيطرت
القوة الروسية على بيروت وأحلت نفسها مكان "أحمد الجزار" ومغاربته ورفضت
المغادرة حتى دفع "يوسف الشهابي" للمبلغ المستحق عليه، ونصب الروس أعلام إمبراطوريتهم فوق سارية القلعة في إعلانٍ سافرٍ للسيادة، وقد حاول "يوسف"
المماطلة في دفع ما استحق عليه للقوات الروسية إلى أن هُدد بقتل ابنه عمه المحتجز لديهم رهينة، وبعد أن دفع جزءًا
من المبلغ، غادرت معظم السفن ميناء بيروت وبقيت سفينة واحدة يرافقها ثلاثمائة
مرتزق ألباني أحكموا السيطرة على البلدة، حتى قيام "يوسف" أخيرًا
باستيفاء المبلغ أو معظمه، وعلى إثر ذلك رحلت الحامية الألبانية في شباط 1774،
جدير بالذكر أن "يوسف" قد أصر ضمن تأكيده على ارتباطه برابط الصداقة
الدائمة مع الإمبراطورية الروسية على إرسال ستة جياد عربية إلى (سانت بطرسبرگ) كهديةٍ
شخصيةٍ للإمبراطورة "كاثرين الثانية"، وقبل رحيل الروس عن بيروت بشكلٍ
تام؛ حاول "يوسف" الحصول على حماية روسية دائمة، بل إنه، وبحسب شهادة الكونت
"أورلوف"، طلب الحصول على الجنسية الروسية، مدعيًا أن ذلك كان حلمه منذ
الصغر.
ختام: كچك
كاينارجة وبداية مرحلة جديدة
وقعت
الإمبراطوريتان الروسية والعثمانية في الحادي والعشرين من تموز 1774 معاهدة السلام
المعروفة باسم "كچك كاينارجة"، والتي أنهت الوجود الروسي في شرق المتوسط. على
أن الصراع الذي ساهمت في إثارته أو إذكائه القوات الروسية في المشرق العثماني لم ينتهِ
بانتهاء الحرب، فقد استمر التوتر في شبه جزيرة (المورة) والمناطق اليونانية داخل حدود
الإمبراطورية العثمانية، كما استمر الصراع بين الأطراف المحلية في سورية الجنوبية.
أبقت
السلطات العثمانية على فيالق المرتزقة الألبان داخل (المورة) في محاولة
لإحكام السيطرة عليها، وبعد قمع الثورة اليونانية المدعومة روسيًا وإعادة السيطرة
على حصن (ميستراس)، ظل المرتزقة الألبان على الأرض مع أقل قدرٍ ممكن من الرقابة،
فعاثوا في البلاد فسادًا وارتكبوا الفظائع ضد أهلها من المسيحيين الأرثوذوكس مع
تساهل السلطات الرسمية في (إسطنبول) مع إجراءاتهم، أما في سورية، فقد حرَّض السلطان قائمقام مصر
"محمد بك أبو الدهب" على اجتياح فلسطين، ونجح خلال أقل من عشرة أسابيع
منذ لحظة وصوله إلى غزة في الأول من نيسان 1775 في السيطرة على الساحل الفلسطيني وصولًا
إلى صيدا، وقد دانت له معظم القوى المحلية (بما فيهم حلفاء الزيادنة من الشهابيين
والمتاولة) بالولاء، وعلى الرغم من وفاته المفاجئة في التاسع من حزيران من ذات
العام في معسكره خارج عكا، إلا أن مقاطعة الزيادنة في الجليل كانت خائرة القوى
ومكشوفة أمام أي هجوم عثماني محتمل، وهو الذي عصف بها في تموز وآب بقيادة القبودان
"حسن باشا" قائد الأسطول العثماني، إذ سيطر على حيفا وصيدا ثم عكا في
الخامس والعشرين من آب وانتهت حقبة الزيادنة في الجليل بمقتل قائدهم "ظاهر
العمر" أثناء هروبه من المدينة.
وبينما اعتبرت
ثورة شبه جزيرة (المورة) في 1770 والمعروفة باسم ثورة "أورلوف" حجر
أساسٍ بُنيت عليه الظروف التي اندلعت خلالها حرب الاستقلال اليونانية خلال العقد
الثالث من القرن التاسع عشر، فإن الوضع العام الذي أسست له السياسات الزيدانية في
عكا والجليل قد ظل على حاله، إذ بقيت منطقة حكمٍ ذاتيٍ منفصلٍ عن القرار المركزي
العثماني الذي لم يملك من أمرها شيئًا إلا بالحد الأدنى، وقد استمرت تحت حكم
"أحمد الجزار"، الذي رُقِّي إلى مرتبة الباشوية وحصل على كرسي وزارة
صيدا حتى 1804، في تشكيل شوكة في خاصرة السيادة العثمانية وحجر عثرة في طريق تحقيق
الباب العالي لكامل السيطرة مرة أخرى على الأقاليم السورية، فيما فُسِّر كتمظهرٍ آخرٍ
لضعف السلطة المركزية العثمانية.
وقد تباينت
الآراء حول النتائج النهائية للحملة الروسية على (إيجة) وشرق المتوسط، سواءً على
مستوى تأثيرها على خط سير العمليات الآنية خلال الحرب أو تأثيرها على النفوذ
الروسي داخل الإمبراطورية العثمانية على المدى الطويل، وبصرف النظر عن النشاط
الروسي لاستثارة أو دعم حراكات التمرد داخل الساحة الخلفية للإمبراطورية
العثمانية، إلا أن ما يمكن الفصل فيه بدون شك هو التأثير المباشر لانتصار الروس
الساحق في (چشمه)، والذي أضعف موقف العثمانيين في البحر الأسود، وقد نتج عنه
لاحقًا السماح بالملاحة الروسية داخل البحر، وتناقص نفوذ الباب العالي على (خانية
القرم) التي ضمتها روسيا لاحقًا في 1783.
لقد بدا
واضحًا أن أهداف روسيا الآنية في المتوسط بعد (چشمه) لم تتلاقَ مع طموحات الثوار
والمتمردين في اليونان ومصر وسورية، وهو ما يمكن رؤيته تضييعًا روسيًا لفرصة ذهبية
لخلق موطئ قدمٍ دائمٍ لها في المتوسط عبر دعمها لتأسيس مناطق مستقلة أو ذات حكم
ذاتي خاضعةً لسلطتها بعيدًا عن نفوذ الباب العالي، وتكرر بالتالي ما قامت به في
شبه جزيرة (القرم) كذلك، على أن ما يهمله هذا التصور هو أن الإمبراطورية الروسية ظلت خاضعة في جميع الأحوال لرغبة بقية القوى الكبرى في أوروبا في دعم الاستقرار داخل نسيج الإمبراطورية العثمانية والمناطق المحيطة بها للحفاظ على حدٍ أدنى من توازن القوى، ومنع نشوء قوة أخرى تهدد الاستقرار الأوروبي أو تهدد مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية داخل حدود الإمبراطورية العثمانية.
في ذات الوقت، نجحت روسيا في فرض حمايتها على المجموع المسيحي الأرثوذوكسي داخل الإمبراطورية العثمانية، وقد منحها ذلك سلطةً للتحكم في الشؤون الداخلية للإمبراطورية، كما أنها تمكنت بموجب بنود المعاهدة من الحصول على امتيازات تجارية داخل حوض المتوسط، والذي ظلت لفترة طويلة محرومة من التواجد داخله والذي خضعت الملاحة فيه بشكلٍ كبير للنفوذ الفرنسي منذ الربع الأخير من القرن السابع عشر، وفي ضوء كل ذلك، يمكن القول أن حملة "ألكسى أورلوف" على المتوسط قد كانت ناجحة بكل المعايير، وقد أفادت من رفع شأن الإمبراطورية الروسية كقوة أوروبية كبرى، وسمحت لها بفرض نفسها كإحدى القوى المتنافسة على المصالح الاقتصادية والاستراتيجية داخل حدود الإمبراطورية العثمانية.
مراجع
- خالد صافي: حاكم الجليل في القرن الثامن عشر، ظاهر العمر الزيداني، طبعة المركز القومي للدراسات والبحوث، ص98-108؛ ص129-149؛ ص150-156؛ ص267-276.
- عبد الرحمن الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار (الجزء الثاني)، طبعة مؤسسة هنداوي، ص183-292.
- قسطنطين بازيلي: سورية ولبنان وفلسطين تحت الحكم التركي من الناحيتين السياسية والتاريخية، طبعة دار الحداثة، ص57-88.
- فليب مانسل: ثلاث مدن مشرقية (الجزء الأول)، ص49-82.