تمهيد
زئيف جابوتنسكي يتوسط بعض عناصر وضباط الكتيبة الثامنة والثلاثين من كتائب الرماة الملكية التابعة لمشاة الجيش البريطاني |
سعى الجزءان
السابقان من هذا المقال إلى تقديم عرضٍ وافٍ للتطور التاريخي لكل من منظمتي (بارغيورا) و(هاشومير) المختصتان بالحراسة والشؤون الأمنية في الييشوف (التجمع
الاستيطاني الصهيوني في فلسطين)، وذلك في مسعى لتقديم عرضٍ تاريخي لمظاهر العسكرة داخل
مجتمع المستوطنين الصهاينة في فلسطين قبل نهاية الحرب الكبرى، والتي تلاها تأسيس
منظمة (الهاجاناه)، التي تحولت إلى منظمة عسكرية متكاملة قادت المشروع الاستيطاني
والحرب الصهيونية ضد سكان فلسطين الأصليين وامتلكت دورًا محوريًا في حرب النكبة وشكلت
حجر الأساس الذي بُني عليه لاحقًا جيش الاحتلال.
لقد لعبت
(هاشومير) ومنظمتها الأم (بار غيورا) دورًا محوريًا في تأسيس أول مظاهر العسكرة داخل
الييشوف، على أن النشاط العسكري الصهيوني في فلسطين قبل وأثناء الحرب الكبرى لم
يتوقف عند حدود هاتين المنظمتين، وقد انبثق عن الييشوف مجموعات مسلحة وهيئات أمنية
أخرى نشطت لفترات محدودة وداخل نطاقات عمل ضيقة حسبما اقتضته ظروف التجمعات
الاستيطانية، كما أن الحرب الكبرى قد استحثت كذلك موجة من التجنيد والعسكرة في
صفوف اليهود الصهاينة داخل وخارج فلسطين في مسعى من الحركة الصهيونية للعمل على
ترجيح كفة أحد طرفي الحرب للحصول على مساعدته في تحقيق الهدف الصهيوني بإنشاء دولة
يهودية في فلسطين.
سيستكمل
هذا الجزء، والذي سيكون آخر أجزاء المقال، عرضه لمظاهر العسكرة في الييشوف، مع تسليط
بعض الضوء على التجربة العسكرية الصهيونية ضمن قوات الحلفاء العاملة على الجبهات
الشرقية خلال الحرب، بالإضافة إلى الاستطراد في إيضاح جوانب أخرى غير عسكرية لتجربة
(بار غيورا) و(هاشومير) والتي ساهمت بطريقتها الخاصة في استيفاء التطبيق العملي
لأفكار مؤسسي المنظمتين في سبيل تجذير التناقض بين الييشوف ومجتمع السكان الأصليين
المحيط به.
(لجيون
هعفوداة): في سبيل العمل اليهودي
العمل اليهودي: تصنيع براميل تخمير العنب في (زخرون يعكوف)، 1890. |
أسست (بار
غيورا) عشية إنشائها في 1907 للتطبيق العملي لمفهوم (اقتحام العمل) باعتباره جزءًا
من استراتيجيتها كمنظمة أمنية، وقد كان واحدًا من أهم مبادئها هو الخلط ما بين
الحراسة والعمل الزراعي والعمل على إنشاء مجتمع زراعي شبه عسكري، وهي القيم التي
أورثتها لخلفها المتمثل في منظمة (هاشومير)، والتي وضعت المزاوجة بين العمل
والحراسة كشرطٍ أساس لقبول المنتسبين الجدد للمنظمة وكشرطٍ أساس لقبول مهام
الحراسة في المستوطنات كذلك، إذ فرضت على معظم المستوطنات التي أقنعت مدراءها باستئجارهم
حراسًا بتوظيف حدٍ أدنى من العمال اليهود في حقول المستوطنة.
يُنسب
مفهوم (اقتحام العمل) إلى فيلسوف صهيوني عمالي يُدعى (يهودا جوردن) كان يرى أن (الدياسبورا)، أو الشتات اليهودي خارج أرض الميعاد،
قد شوهت من ارتباط اليهودي بالأرض، وذلك عبر حصر دوره داخل المجتمعات الأوروبية في
وظائف وأدوار كتابية في معظمها، وهو ما حيَّد قدرته على المشاركة في صنع القرارات،
كما جعلته يعيش "حياة مشوهة ينقصها الإبداع والانفعال"، ولذا فقد كان لزامًا
عليه أن يعود إلى أرض الميعاد وأن يقتحم، لا الأرض فحسب، عن طريق تملكها، ولكن أن
يقتحم مهمة العمل فيها حتى يُصبح اليهودي نفسه "مُحتلًا من قِبَل العمل
كذلك".
لقد تبنت
قيادات (بار غيورا)، ولاحقًا (هاشومير)، أفكار (جوردن)، شأنهم شأن معظم رواد
الهجرة اليهودية الثانية إلى فلسطين من الصهاينة العماليين، وقامت (بار
غيورا) في سبيل ذلك بتأسيس منظمة عمالية تابعة (لهاشومير) دُعيت باسم فيلق العمل
أو (لجيون هعفوداة)، وتأسست بالتزامن معها في 1909 في محاولة لتقسيم المهام بين
المنظمتين، بحيث يكون فيلق العمل بمثابة مرحلة مبدئية في تدريب عناصر الحراسة، حيث
أُلزم جميع منتسبي (هاشومير) بقضاء فترة لا تقل عن سنتين في العمل الزراعي قبل وأثناء
التدريب الأمني بحيث تكون فترة الإعداد الإلزامية هذه شرطًا أساسًا لقبول الأعضاء
الجدد في مهام الحراسة، وذلك حسب النظام الداخلي لفيلق العمل الذي وضعه قائد (هاشومير) المنتخب (إسرائيل
شوحط).
تشكلت
مجموعتان رئيسيتان لفيلق العمل في مستوطنتي (إيلانيا) و(الخضيرة)، واشترك عناصر
(هاشومير) وفيلق العمل في بناء أول كيبوتس (مستوطنة زراعية عسكرية) في فلسطين في
1910 وهو كيبوتس (دجانيا)[1]،
الذي أُقيم في 1910 على أراضي قرية (أم جوني) بالقرب من طبرية، أنشأ الفيلق بإشراف
(مندل برتوغولي) مطبخًا عماليًا في (الخضيرة) بالإضافة إلى عيادة طبية مجانية
مفتوحة أمام جميع عمال المستوطنة، وذلك بهدف اجتذاب العمال اليهود للانضمام
للفيلق، وقد وضع (إسرائيل جلعادي)، القيادي في (هاشومير)، مخططًا لاستصلاح ألف دونم
للزراعة وشراء عدد من المواشي والدواجن، وقد تطلب تحقيق مخططه الحصول على قرضٍ بقيمة
عشرة آلاف فرنك على أن يُسدد خلال فترة عشرة سنوات من إيرادات المشروع.
فشل فيلق
العمل في تحقيق أية نتائج على الأرض خلال سنتين من العمل، كما فشل في استقطاب
ما يكفي من العمال الشباب بسبب شروط الانضمام المعقدة، وانحصر مشروعه أخيرًا في (إيلانيا)
و(الخضيرة)، كما تعرض للتحريض من هيئات وأحزاب صهيونية أخرى داخل الييشوف، فلم تتمكن
قيادته من الحصول على التمويل اللازم لإقامة المشروع الزراعي الخاص بالفيلق، وقد لاقى
معارضة من حزب (بوعالي تسيون) كما حظر حزب (هابوعيل هاتسعير)[2]
على أعضاءه الانضمام للفيلق أو التعامل معه بسبب طبيعته العسكرية، خاصة وأن معظم المستوطنين من أصحاب
الأملاك في كل من (إيلانيا) و(الخضيرة) قد فضَّل الاستمرار بالاستعانة بالعمالة
العربية، وقد اضطرت (هاشومير) لتفكيك الفيلق، وغيرت استراتيجيتها بالكامل لتكتفي فقط
بأداء مهام الحراسة واضطرت كذلك لاحقًا للتخلي عن شرط ربط الحراسة بالعمل عند حصولها
على عقود جديدة من مدراء المستوطنات.
هاروعيه
(الراعي)
قررت (هاشومير)
التوسع في نشاطها وتهيئة بعض عناصرها للبدء في احتلال مهام الرعي في سبيل استبدال
الرعاة العرب العاملين لدى الييشوف بعمالة يهودية، وقد أشرف على المشروع (إيغال
مردخاي) بالإضافة إلى (ألكسندر زايد)، باعتبار كل منهما يملك خبرة مسبقة في هذا
المجال، وقررت (هاشومير) الاستفادة من العلاقات التي وطدتها مع بعض القبائل البدوية
وإرسال بعض العناصر للإقامة في البادية من أجل اكتساب الخبرة في مجال الرعي، وعاش
عناصر (هاروعيه) حياة الرعي في البادية بكل تفاصيلها، فارتدوا ملابس البدو وسكنوا
في بيوت الشعر وتعلموا اللغة العربية وعوَّدوا أنفسهم على العادات والتقاليد البدوية،
وقد عمل عناصر (هاروعيه) في الجليل الأعلى، وساهموا في تأسيس مستوطنة (تل حاي) على
أراضي قرية طلحة، وانتقلوا للعمل في أراضي مستوطنات أخرى مثل (بيت جان) و(المطلة)
و(كنيرت).
وشأنها شأن
(لجيون هعفوداة)، فقد اكتسبت (هاروعيه) طابعًا عسكريًا وتدرب عناصرها على حمل
السلاح، كما كُلِّفوا بجمع المعلومات الاستخبارية عن التجمعات البدوية والقرى التي
أحاطت بالمستوطنات في سبيل معرفة مخططات ومواعيد الهجمات التي نظمها الفلاحون والبدو على أراضي المستوطنات الزراعية، وبجانب منظمتها الأم، فقد اعتُبرت (هاروعيه) من ضمن أحجار
الأساس الأولى التي بُني عليها مشروع فرق المستعربين في جهاز المخابرات الصهيوني بعد
النكبة، وقد كان العناصر السابقون في (هاروعيه)، والذين ظلوا مستمرين في ممارسة مهنة
الرعي حتى بعد تفكيك المنظمة، كانوا أول المستجيبين للهجوم العربي الذي شنته عناصر
تابعة للمملكة العربية السورية على مستوطنة (تل حاي) في 1920 والذي أدى لمقتل ثمانية
مستوطنين يهود بينهم (جوزيف ترومبلدور)، القيادي السابق في (هاشومير)، وأدى
بالنهاية لإجلاء المستوطنين عن (تل حاي) وإحراقها.
لم تجذب
حياة الرعي الكثير من المستوطنين الصهاينة، فلم يكن بمقدور الكثيرين منهم احتمال
ظروف الرعي القاسية، كما أن مهنتهم قد وضعتهم في صدماتٍ دائمة مع الرعاة العرب ومع
المستوطنين على حد سواء بسبب النزاع على أماكن الرعي ومصادر المياه، ولم تلق مهنة
الرعي إجمالًا أي دعم من الحركة الصهيونية، وكان الرعاة يعانون بسبب نومهم في
العراء خلال شتاء الجليل القاسي، كما أن قلة خبرتهم أدت إلى نفوق مواشيهم بسبب
البرد، ونادرًا مع تعاطف معهم بعض مدراء المستوطنات في الجليل وسمحوا لهم بقضاء
الشتاء داخل أراضيهم، على الرغم من أن آخرين استفادوا منهم كبديلٍ للحراس
بسبب احتلالهم للحقول المحيطة بالمستوطنة طيلة فصول السنة، على العكس من حراس
المنظمات الأمنية الذين توفروا فقط خلال موسم الزراعة (بما لا يزيد عن سبعة أشهر).
جدعونيم
ألكساندر آرونسون |
تأسست
منظمة (جدعونيم) أو كتائب الشباب في مستوطنة (زخرون يعكوف) في 1913، وقد اقتصر
عملها على المستوطنة فحسب على الرغم من أن مؤسسيها، (ألكسندر آرونسون) و(أبشالوم
فاينبرغ) لم يكونوا من سكان المستوطنة بالأصل، وقد وفرت المنظمة إشرافًا عامًا على
مختلف جوانب الحياة داخل (زخرون يعكوف) بما يشمل مهام الحراسة، والتي شاركت فيها
(هاشومير) لفترة ثم أُلغي عقدها بسبب تكاليفه العالية والخلافات على كيفية إدارة
الحراسة، وكانت (زخرون يعكوف) أول مستوطنة توافق قيادة (هاشومير) على قبول الاشتراك
في حراستها برفقة حراس عرب.
عملت
(جدعونيم) على تعمير المستوطنة وترميم الخرابات الموجودة داخل حدود أراضيها، وأشرفت
على تجارة محاصيلها الزراعية واهتمت باستضافة المستوطنين الجدد وتوفير الدعم
اللوجستي للعمال والحراس وفرض النظام العام، وكان الهدف من تأسيس (جدعونيم) بالأصل
هو محاولة التوفيق بين الأطر التنظيمية المختلفة داخل (زخرون يعكوف) وفي محاولة
منع نشوء أو تفاقم الخلافات فيما بينها، وقد بلغ كادر (جدعونيم) العامل على الأرض حوالي
40 شابًا واستمر عملهم في المستوطنة لحوالي 14 شهرًا قبل أن تُحل المنظمة بأوامر
من قيادتها استجابة لدعوة الصهاينة للتطوع في مليشيا الدفاع الشعبي التي شكلها
العثمانيون عشية انضمامهم إلى جانب الألمان في الحرب الكبرى، بأوامر من متسلم القدس
وقائد الجيش العثماني الرابع (زكي باشا)، قبل أن تُحل المليشيا كذلك بأوامر من (أحمد
جمال باشا)، خليفة (زكي باشا) في قيادة الجيش الرابع، والذي سجن ونفى عددًا كبيرًا
من قيادات الهيئات والأطر التنظيمية العاملة في الييشوف بسبب تخوفه من تعاونهم مع
الحلفاء.
أبشالوم فاينبرغ |
لم يكن لكتائب
الشباب تجربة عسكرية أو أمنية ذات أهمية تذكر خلال الفترة القصيرة التي نشطت فيها
المنظمة، لكن الدور الأهم لمؤسسيها وقياداتها قد برز خلال الحرب الكبرى من خلال تأسيسهم
لحلقة (نيلي) الاستخبارية، والتي نشطت في عموم سورية وقدمت الكثير من المعلومات
الهامة للبريطانيين في مصر عن القدرات القتالية العثمانية في سورية وفلسطين، قبل
أن تكشف الاستخبارات العثمانية أمرها وتفككها عشية الاجتياح البريطاني في
1917.
الصهيونيون في الحرب الكبرى: سائقو البغال والكتائب العبرية
شنت
السلطات العثمانية خلال العام 1915 حملة اعتقالات واسعة طالت الكثير من القيادات
والعناصر الفاعلة في التنظيمات الصهيونية داخل الييشوف، وقد قامت بنفي عدد كبيرٍ
منهم، وصل إلى عدة آلاف، إلى مصر، لقد تعاملت السلطات العثمانية مع الييشوف باعتباره
جسدًا أجنبيًا ومصدرًا محتملًا للخطر، خاصة وأن معظم قاطني الييشوف هم مهاجرون من
أراضي الإمبراطورية الروسية التي كانت على عداءٍ مع العثمانيين بسبب الحرب. استقبل
البريطانيون في مصر الصهاينة وأنزلوهم في معسكرات بحي القباري بمدينة الإسكندرية،
كان كل من (زئيف جابوتنسكي) و(جوزيف ترومبلدور) أبرز من طالتهم عقوبة النفي العثمانية إلى مصر، وتولوا مسؤولية قيادة وتنظيم وضبط الصهاينة في القباري بالتعاون مع بعض الحاخامات
المصريين، وقد اقترح كلاهما على اللورد (جون ماكسويل)، القائد العام للقوات البريطانية في مصر، تنظيم كتيبة يهودية مقاتلة للخدمة على جبهة السويس والاشتراك في الهجوم
البريطاني على فلسطين.
جوزيف ترومبلدور |
رفض (ماكسويل)
الاقتراح بشكل تام وتذرع بمحدودية صلاحياته على إقرار تشكيل كتيبة مقاتلة من
الأجانب للخدمة في جيش الإمبراطورية البريطانية، وفي نفس الوقت فإن (ماكسويل) ادعى
بجهله لأي نوايا للحكومة البريطانية للهجوم على فلسطين، ولم يقدم أي وعد بتنفيذ هجومٍ من هذا النوع، على أن (ماكسويل) اقترح على
الصهاينة تشكيل كتيبة من سائقي البغال لتقديم الدعم اللوجستي للقوات المقاتلة ضد
الأتراك على جبهة تختارها الحربية البريطانية، رفض (جابوتنسكي) الاقتراح واعتبره إهانة له، أما (ترومبلدور)، الذي خدم سابقًا في العسكرية الروسية، قبل الاقتراح
كحلٍ وسط، وباشر فورًا بالدعوة إلى التجنيد بين صفوف الصهاينة في الإسكندرية، وشُكلت
الكتيبة في آذار 1915 تحت قيادة الكولونيل (جون هنري باترسون) وباشتراك
(ترومبلدور) كنائب له بعد منحه رتبة (كابتن)، وقد أُرسلت الكتيبة لمساعدة القوات
المقاتلة على جبهة الدردنيل.
لم يكن
أي من الصهاينة المجندون في فرقة سائقي البغال على علم بوجهتهم عندما أبحرت بهم
السفن الإنجليزية من ميناء الإسكندرية، وفي نيسان 1915 وصلت الكتيبة إلى الدردنيل وعاد ما
يربو على نصف تعدادها (الذي لم يتجاوز 500 مجند) إلى الإسكندرية رفضًا للقتال في
تركيا، وقد حُوكم الكثير منهم عسكريًا لمخالفة الأوامر وطُردوا من الخدمة، عانت
الكتيبة من نقصان أفرادها بسبب الإصابات خلال المعركة على الرغم من عدم حملهم
للسلاح، فأصيبوا أثناء نقلهم للذخائر والطعام وتفشت في بعضهم العدوى، وحاول (ترومبلدور)
تجنيد المزيد من اليهود لصالح الكتيبة، ونجح في جمع 150 مجند من اليهود المصريين (فرقة
القاهرة). سعى (جابوتنسكي) بدوره لإقناع القيادة البريطانية في لندن بتحويل سائقي
البغال إلى فرقة عسكرية، وقدم مقترحًا في نهاية تشرين الأول 1915 بتوسيع الكتيبة بحيث
يصل تعدادها إلى 4000 جندي يتم تجنيدهم من يهود بريطانيا نفسها، على أن يُأسس مكتب
خاص بالتجنيد لصالح الكتيبة في لندن.
باءت
محاولات (جابوتنسكي) بالفشل، مثلما باءت محاولات الإنجليز والفرنسيين بتجاوز
الدردنيل واحتلال (إسطنبول)، وقد غادرت كتيبة سائقي البغال مضيق
الدردنيل بعد أن أنهت المساعدة في تفريغ الجبهة من المعدات الحربية، ووصلت إلى الإسكندرية
بتعداد لم يتجاوز 80 مجندًا فحسب، وبخلاف الإصابات، لم تفقد الكتيبة سوى 15 عنصرًا
خلال الحملة على الدردنيل، فيما تسرب الباقون من الخدمة، وقد حُلَّت الكتيبة وخرجت
من الخدمة رسميًا في أيار 1916، وتمت الاستعانة ببعضهم لتشكيل نواة ما عُرف لاحقًا
بالفيلق اليهودي (أو الكتائب العبرية) والذي تشكلت رسميًا في 1917.
زئيف جابوتنسكي |
لم ييأس
(جابوتنسكي) من فكرة (فيلق يهودي) يضم مجندين صهاينة يقاتلون تحت إمرة الجيش
البريطاني في فلسطين، فبخلاف يقينه التام بضرورة كسر جمود القيادة الصهيونية في
أوروبا تجاه الحرب وضرورة التحيز بجانب أحد أطرافها لكسب الدعم لصالح المشروع
الاستيطاني في فلسطين، مع إيمانه بحظوظ الحلفاء مقارنة بدول المحور في تحقيق
النصر، فإنه كان على يقين بضرورة وجود فيلق مسلح لحماية الييشوف من أية هجمات
عربية بعد انتزاع فلسطين من الحكم العثماني، وبعدما رُفضت مقترحات (جابوتنسكي)
لتحويل كتيبة سائقي البغال إلى فيلق موسع، لجأ إلى بعض معارفه في بعض الصحف
البريطانية، ومنها التايمز ومانشستر جارديان، من أجل إطلاق حملة إعلامية للضغط على
الحكومة في سبيل تحقيق هدفه، وقد جُوبهت جهوده بمعارضة صهيونية شديدة خارج فلسطين
وداخلها، واعتبر كثيرون مساعي (جابوتنسكي) خطرًا حقيقيًا على الوجود الصهيوني في
فلسطين، خاصة وأن شبح المذابح الأرمنية لم يزل قائمًا كمصير يهدد يهود الييشوف في
أية لحظة، فيما رفضت بعض الأحزاب الناشطة في الييشوف، ومنها (هابوعيل هاتسعير)،
لفكرة المشاركة الصهيونية في الحرب انطلاقًا من رفضٍ لزج الاستيطان الصهيوني في
الصراع الدولي بشكل عام، ورفضٍ لأي مجهود عسكري يُبذل لإنشاء الوطن القومي اليهودي
في فلسطين.
تمكن (جابوتنسكي) من الحصول على تأييد بريطاني رسمي لفكرته بتأسيس كتائب عبرية تخدم في الحرب كجزء من العسكرية البريطانية، وذلك في تموز 1917، وقد تدخل (جون هنري باترسون)، القائد السابق لكتيبة سائقي البغال المحلولة في 1916، من أجل التوفيق بين وجهات النظر المتعارضة داخل الحركة الصهيونية في بريطانيا في سبيل القيام بعمل مشترك من أجل إقناع اليهود الغربيين، في بريطانيا وأمريكا على وجه الخصوص، بفكرة مشروع الفيلق اليهودي، وقد عُيّن (باترسون) قائدًا عامًا للفيلق وعيّن بدوره (جابوتنسكي) نائبًا له، وقد تعاون الأخير مع سياسي بريطاني مؤيد للفكرة الصهيونية يُدعى (جوزيف كوْوِن) على إطلاق حملة دعائية من أجل دعوة اليهود في بريطانيا والولايات المتحدة للتجند لصالح الفيلق، وقد تم تشكيله بالفعل من خمسة من كتائب الرماة الملكية Royal Fusiliers في قوات المشاة البريطانية (الكتائب من 38 إلى 42)، وقد شُكلت نواة الفيلق الأساسية من المسرحين من كتيبة سائقي البغال العاملة في الدردنيل، فيما شُكِّل القسم الأكبر من أفراده من جاليات المهاجرين اليهود من الإمبراطورية الروسية إلى إنجلترا والولايات المتحدة، وقد شاركت قوات الفيلق اليهودي في الحملة البريطانية على فلسطين في 1917 وقاتلت ضد العثمانيين شمال القدس (بالقرب من وادي الأردن). استمرت الكتائب العبرية في الخدمة داخل الجيش البريطاني حتى حله نهائيًا في 1921.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق