في وصف غزة: للرحالة العثماني أوليا جلبي


فيما يلي وصف لمدينة غزة قدمه الرحالة العثماني المعروف (أوليا جلبي) والذي زار مدينة غزة أثناء رحلته إلى سورية ومر بها خلال العام 1749، وقد كانت غزة في ذلك الوقت تحت حكم (حسين باشا آل رضوان) الذي حكم غزة منذ وفاة أبيه (حسن باشا آل رضوان) في 1644 حتى مقتله بأوامر من الباب العالي في 1662.

النص جزء من سجلات رحلة (أوليا جلبي) التي نشرها في كتابه المعروف باسم (سياحة نا مه سي)، لقد تُرجم الكتاب من التركية العثمانية إلى الإنجليزية باسم مصلحة الآثار الفلسطينية على يد الاستاذ (حنا اسطفان)، وقد تُرجم المقطع المنقول أدناه من الإنجليزية إلى العربية على يد المؤرخ والصحافي الفلسطيني (عارف العارف)، ونُشر النص أدناه في كتاب العارف (تاريخ غزة) المنشور في القدس في 1943. (ص178 وما بعدها).

" ... استأنفنا السفر جنوبًا حتى وصلنا إلى مدينة (غزة هاشم) التاريخية. إن هذه المدينة الواقعة على حدود عسقلان قي منطقة جاسان (؟)

"فما كدت أهبطها حتى توجهت إلى منزل حاكم الولاية حسين باشا. فسلمت عليه، وقدمت له احترامي. ثم ناولته رسالة مولاي مرتضى باشا والثياب الحريرية والهدايا الفاخرة الأخرى التي أحملها إليه منه. فسر بها كثيرًا. وقال: "أجل. إنه لفرض علينا إن شاء الله. ولا بد أن نرسل معك من يساعدك في تحصيل البقايا، وأن ندفع نجن ما علينا من دين".

"ولم يضن الباشا علي بشيء من لطفه وكرمه فأعد لي منزلًا خاصًا من منازله نزلت به. وقضيت الوقت كله معه في حديث وبحث وتدوين. فأيقنت أن الباشا صديق صادق قولًا وفعلًا.

"إنه خفيف الروح، لطيف المعشر، أكرم من حاتم طيء، أديب، شاعر، ومؤرخ، وعندما علم الباشا أنني ميال للأسفار جمعني مع عدد كبير من علماء المدينةومؤرخيها. فقضينا الوقت كلها ليلا ونهارا في تتبع آثار المدينة وأخبارها. وعلمت منهم أن مدينة غزة كانت أيضًا إحدى المدن التي عمرت وازدهرت بعد الطوفان. فقد ذكرها ابن صولاق، وواضع خطط القضاعي، ومؤلف التجويد في الصحافة، والذهبي، فقالوا إن أول من بناها (مرشم) (؟) ابن سام ابن نوح عليه السلام؛ وأن هذا بنى على بعد ثلاثة أميال منها مدينة أخرى سماها (مرمش)؟ وقد خربت هذه وهجرت منذ أيام نبوخذ نصر. إلا أن بقاياها تدلنا على ما كانت عليه من عظمة في العهد الغابرة.

"وأن الطبيب المشهور غالينوس زار تلك المدينة في عهد ازدهارها، ومات فيها. 

"وأما الآن فإن غزة عامرة، ولها مستقبل زاهر، فقد انتقلت عام 922 للهجرة من يد السلطان الغوري إلى يد السلطان سليم الأول. وهي الآن مركز لسنجق غزة التابع لولاية سوريا. والضرائب الأميرية المعينة لأمير اللواء فيها هي (508328) من الفضة. ولها سبع زعامات، ومئة وسبع تيمارات، وفيها بموجب القانون 1150 عسكريًا بينهم من يحملون رتبة (جبه لو). كما أن الباشا والألاي بك فيها يسيران تحت لوائها؟

"وأما منصب القاضي، ذلك المنصب النبيل، فقد خصص له ثلاثماية من الفضة وعلاوة على هذا فإن مبلغًا قدره أربعة آلاف قرش يُجمع من قراها لأجل القاضي، وآخر قدره ثمانون ألفًا لأجل الباشا.

"إن هذا السنجق مأهول بالسكان ومزدهر بالعمران وهناك شيخ للإسلام ملم بالفقه على المذاهب الأربعة الكبرى ونقيب للأشراف وأعيان ونبلاء عظام ورجال أفاضل وكوكبة من السباهي المحترمين ورجال ماهرون في مختلف الحرف والصنائع.

"وهناك فضلًا عن ذلك، نائب المدينة، وصوبائي، ومحتسب، وباجدار، ولما كانت هذه المدينة قد منحت منذ أيام السلطان سليم الأول إلى حسين باشا وأولاده من بعده وأسرته على مدى الحياة فإن جميع الضرائب التي تجبى فيها شخصية تخص الباشا.

"إن قلعة غزة التي بنيت في العهود الغابرة دمرها نبوخذ نصر، وأما حصنها الحالي فقد بني في وقت بعد ذلك التاريخ. إنه لحصن صغير مربع الشكل مبني من الحجارة الرملية على مسافة ساعة من الشاطئ البحر للشرق، وقد شيدت جدران هذا الحصن على ارتفاع عشرين ياردة من الأرض، وله باب من حديد متجه نحو القبلة ويترتب على الدزدار والجنود أن يظلوا دوما مرابطين على أهبة الاستعداد. إذ أنه حصن من الخطورة بمكان لوقوعه على تخوم العشائر والقبائل البدوية، والأعداء كثيرون، وأن السلع القيمة والأشياء الثمينة التي يقتنيها الوجود والأعيان بوجه خاص وسكان المدينة بوجه عام تُحفظ داخل القلعة، وفيها أيضًا منازل الجنود ومستورة بالتراب، وفيها أيضًا مسجد وعنابر للحنطة ولسائر أنواع الحبوب والمؤن ومخازن للأسلحة والمهمات الحربية. كما أن فيها مدافع ملكية من الطراز البديع مجهزة بكل ما تحتاج إليه من ذخائر ومهمات، إن الناحية المواجهة للقبلة من نواحي القلعة شبيهة بمدينة كبرى، وأمام مدخل القلعة من الناحية الأخرى من الشارع مسجد يصلي الناس فيه الأوقات الثلاثة في النهار ويؤم هذا المسجد عدد كبير من المصلين.

"غزة مدينة تاريخية قائمة فوق سهل وسيع ومنبسط، ولها ستة أحياء، وفيها ألف وثلاثمائة منزل وجميع منازلها مبنية من الحجر وأسطحتها مستورة بالطين والكلس، وفيها عدة سرايات وقصور، وإن اللسان ليعجز عن وصف سراي حسين باشا، هذا الباشا الكريم الذي يزوره ما لا يقل عن مئتين من الضيوف كل ليلة بين مشاة وفرسان.

"وفي المدينة سبعون مسجدًا ذوو محاريب، وفي أحد عشر مسجدًا منها تقام صلاة الجمعة، وفي القرب من السوق مسجد يقال له مسجد الجمعة، ويصلي فيه حاكم الولاية حسين باشا، وهو يتسع لعدد كبير من المصلين، وإنه لبناء جديد وجميل ليس له نظير، إذ تسابق البناؤون والمهندسون من القاهرة ودمشق والقدس الشريف فأبدوا كل ما لديهم من فن ومقدرة وأبدعوا في بنائه ما شاء الإبداع أن يكون، والبناء الخبير الذي تولى بناء هذا المسجد بنى له في نفس الوقت مئذنة عالية متقنة الصنع، لها أروقة ثلاثة، بشكل منقطع النظير، حتى أن مسجد الجمعة الذي بناة سنان باشا فاتح اليمن لم يكن على هذه الدرجة من الاتقان، وفي وسط المدينة تكية عبد العظيم، وبالقرب منها تكية مرغان، وفيها مئتا سبيل يرتوي من مائها العطشان.

"ولما كانت المدينة واقعة على طرف البادية فليس فيها أنهار جارية، وكل ما هناك مياه أرضية، إن ماء الحياة يحمل إليها من الخارج على ظهور الإبل.

"ومن الحمامات العمومية الكائنة في غزة يجدر بنا أن نذكر حمام الباشا، وحمام العسكر، فإنهما لطيفان ومنعشان للغاية.

"وفي غزة ستمائة دكان، وهي وإن لم تكن ميناء بكل ما في هذه الكلمة من معنى إلا أنها مدينة تجارية تستطيع أن تجد في سوقها بضائع وأشياء ذات قيمة، وأن مصانع الزجاج والسروجية فيها رائجة، كما أن سوق التجار المبني من الحجارة مزدهر للغاية.

"لسكان غزة نوع من الخال يُعرف (بخال غزة هاشم)، وهو طريق للغاية ويليق بهم جدًا، وهم يلبسون السمور والفراجية وثياب أخرى غير مزخرفة، وأما الطبقة الوسطى فإنها تكتسي ثوبًا بسيطًا أبيض اللون، وأما العمال والطبقة الفقيرة من السكان فإنهم يلبسون (سرتية كراكة)، ولهذا الثوب أشكال مختلفة وهؤلاء يلبسون أيضًا العباءة، والغزيون بوجه الإجمال بيض الوجوه ذوو حواجب قاتمة وهناك فئة منهم سمر اللون كأنهم مدبوغون بالشمس.

"إنهم ذوو عزم وإحساس ونشاط، وهم أحرار وكرام ومحبون للضيف ولا سيما إذا كان هذا غريبًا، يعيشون على التجارة والأعمال اليدوية.

"وللمدينة جو بديع وهواء عليل وهي واقعة في الإقليم الرابع، تكثر فيها الحنطة وهذه معروفة ببياض لونها وكبر حجمها ويسمونها (سن الجمل)، وأما شعيرها فهو فإنه مشهور، وكذلك قل عن قطنها وحريرها، والكراكة التي تصنع من الصوف في غزة وكذلك المحارم والبشاكير والفوط الصغيرة والكبيرة فإن هذه كلها تصنع في غزة وهي مشهورة.

"وفيها سبعة آلاف كرم يُغرس فيها العنب وعنبها مشهور، وكذلك قل عن زيتونها وتوتها وليمونها وكبادها وتينها وشمامها ورمانها وبلحها وعن فواكهها الأخرى، فإنها مشهورة في أسواق العالم. إن زيتها يصدر لمصر محملًا على مئات من الجمال، ويروج في أسواق مصر رواجًا غريبًا لجودة صنعه.

"إن (عين السجان) إحدى المحلات التي يطرقها الغزيون للنزهة؛ بالقرب من غزة وفي مكان يدعى (إبلة) حيث ينبسط سهل غير متسع، فيه خمسة ينابيع جارية، منها (عين السجان). التي يزداد ماؤها في فصل الشتاء، ويقل في فصل الصيف، والمياه التي تنبع منها تجري على وجه الأرض، ثم تغور في حفرة من الأرض، لو شرب جيش برمته من ماء هذه القرية ويظل يفعل ذلك مدة عشرة أيام وعشر ليال متواصلات لما نقصت كمية المياه التي فيها، والغريب في الأمر ان ماءها لا يفيض، ويعتقد الأهلون أنه إذا شربت الطيور والحيوانات الداجنة والوحوش من مائها فإن شعرها ووبرها يزول فورًا، وأما الإنسان فلا، إنه (أي الانسان) إذا شرب من مائها يجسد فيه العلاج الشافي للكثير من أوجاعه وآلامه"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق