خريطة طبيعية لمنطقة غرب وجنوب غرب بلاد الشام
استعرض الجزء السابق من المقال المرحلة الثانية من الصراع ما بين ظاهر العمر الزيداني والوالي الدمشقي عثمان باشا الجورجي، وذلك بعد أن أتم ظاهر تحالفاته العسكرية مع كل من المتاولة في جبل عامل وقائمقام مصر علي بك الكبير، وانتهى المقال عند ذكر نهاية حقبة عائلة عثمان باشا الجورجي (عثمان وابنيه محمد والي طرابلس ودرويش والي صيدا) في إيالات الشام في هزيمتين متتاليتين تلقاهما على يد محمد بك أبو الدهب مملوك علي بك الكبير وظاهر العمر الزيداني مع حلفائه من المتاولة، حيث استبدل الباب العالي أخيراً عثمان الجورجي في أكتوبر1771م بوزير جديد من آل العظم، هو محمد باشا، والذي تم تعيينه جنباً إلى جنب مع وزير آخر، هو عثمان باشا المصري، والذي تم تكليفه من السلطان بمنصب والي مصر وساري عسكر إيالة دمشق وأمره بحسم الوضع الميداني المتوتر في إيالتي دمشق وصيدا والانطلاق نحو مصر لإعادة السيطرة عليها وانتزاعها من الحاكم المتمرد علي بك الكبير، مانحاً إياه كل ما يحتاج إليه من صلاحيات.
تتعقد الأمور بعد عزل الجورجي عن إيالة دمشق، ولم يكن ينقص الوضع أي تعقيد من الأساس، فها هو ظاهر يتعدى على دمشق وينتصر على ولاتها المرة تلو المرة، ويستعديه وزراء بلاد الشام، وهو على وشك خسران حليفه القوي علي بك الكبير، كما أن الوضع الاقتصادي المتردي في إيالته جعله غير قادرٍ على دفع مال الميري، والذي بدأ بكسره منذ العام 1770م، كان مال الميري في كثير من الأحيان، الحد الفاصل بين رضى الدولة وسخطها عن ظاهر، وكان التزامه بدفعه باستمرار في موعده المحدد سبباً في تغاضي الدولة عن كثير من تجاوزاته، لا تزال الدولة العثمانية في غياهب الحرب مع الامبراطورية الروسية، والتي استطاعت أن تهزم الأسطول العثماني في معركة تشسمي Chesme البحرية في يونيو 1770م واستطاعت بواسطة أسطولها القوي السيطرة على حوض البحر المتوسط ومنافذ البحر الأسود ومنع أي قطع بحرية عثمانية من التحرك نحو إيالات الدولة الجنوبية. يرجو كاتب المقال من القارئ الصبر والتأني أثناء القراءة بسبب تعقيدات المشهد الذي يحاول المقال عرضه ومناقشته، وبسبب تنقل الكاتب في السرد بين عدة خطوط في كل منها جبهة مختلفة، متتبعاً التسلسل التاريخي ما أمكنه، وقد اختبر ظاهر العمر وحلفاؤه على المستويين السياسي والعسكري أصعب وأعقد فترة مرت بها إمارته على الإطلاق.
بعد هزيمة أبيه في معركة الحولة، قرر والي صيدا، درويش باشا الجورجي، الهرب من صيدا في أسرع وقت، تلفت حوله فلم يجد في إيالته كلها من حليف له سوى فريق من الأمراء الشهابيين يرأسهم الأمير الشاب يوسف بن ملحم الشهابي، فأرسل له طالباً منه العون والنجدة، وأرسل لأبيه في دمشق طالباً منه إمدادتٍ عسكرية ولوجستية لدعم صمود صيدا في وجه ظاهر والذي لم يكن يفصله عن صيدا وحصارها سوى مسافة أيام قليلة. أرسل عثمان باشا الجورجي بعض الامدادات لابنه في صيدا، وأرسل أوامر للأمير يوسف الشهابي بحماية المدينة وبعمل اللازم للتصدي لظاهر وحلفائه ومحاربته بأي طريقة كانت، فوجد يوسف الشهابي فرصته لمقاتلة أعداء عائلته التقليديين (المتاولة) وجرد جيشاً قوامه عشرون ألف جندي وتحرك على رأسه قاصداً مدينة النبطية.
من المهم هنا التوقف قليلاً والعودة إلى الوراء لاستعراض الظروف التي حكمت طبيعة العلاقات بين ظاهر العمر والأمراء الشهابيين، فقد مر في المقال السابق أن الأمير إسماعيل الشهابي أمير وادي التيم وبالتعاون مع بعض مشايخ الدروز قد قام برعاية التحالف الذي تم عقده بين الزيادنة والمتاولة، وقد يكون من المستغرب أن يقوم أمير شهابي برعاية اتفاق بين ظاهر والمتاولة ويقوم آخر باستعدائهم ومحاربتهم، ربما يكون من المفهوم أن يحظى ظاهر العمر والزيادنة بعلاقة مميزة مع الشهابيين لسببين، الأول؛ هو أن جد ظاهر صالح الزيداني عُيِّن ملتزماً في سنجق طبرية بواسطة الأمراء الشهابيين وتحت رعايتهم، والثاني؛ أن الزيادنة - كالشهابيين - قيسيون يشتركون في ذات الانتماء القبلي رغم الاختلاف الطائفي في بعض الأحيان(1)، كما أن هذه الأسباب ذاتها كونت صورة نمطية حكمت العلاقة بين المتاولة والشهابيين، فهم مختلفون قبلياً وطائفياً، لكن نهضة ظاهر وتوسعه في الجليل، وبخاصة سيطرته على ميناء عكا وأعماله العمرانية في المدينة خلقت نوعاً من التنافس على أساس تجاري بينه وبين الأمير الشهابي ملحم بن حيدر (الثالث في ترتيب أمراء الأسرة)، وربما كان هذا التنافس هو الذي دفع الأمير ملحم للسيطرة على مدينة بيروت في عام 1751م ليضمن لتجارته الخارجية ميناءً مفتوحاً على البحر المتوسط، ولم يتطور هذا التنافس الخفي إلى صراع واضح أو مواجهة مكشوفة لعدة أسباب ربما يكون أهمها وقوف جبل عامل والإمارة المتوالية في منتصف المسافة بين الشهابيين والزيادنة. بأي حال فقد بدأت الخلافات تنشأ داخل العائلة الشهابية منذ وفاه الأمير ملحم عام 1754م والذي كان يحكم الأسرة منذ العام 1729م، تولى بعد ملحم أخوه منصور بالاشتراك مع أخيه أحمد الذي توفي في العام 1762م، فاستمر منصور بحكم منفرد حتى العام 1770م حيث ظهر ابن أخيه الشاب الصغير يوسف بن ملحم (حاكم دير القمر) طالباً من عمه التنحي عن الحكم باعتباره أحق به لكونه ابن الأمير السابق، وبنشأة الخلاف بين الطرفين الذين أراد كل منهما الاستئثار بقيادة العائلة، منح كل منهما ولاءه لواحد من ولاة الشام، فنال يوسف بن ملحم دعم عثمان باشا الكرجي، ونال عمه منصور دعم محمد باشا العظم (أحد ولاة صيدا في ستينات القرن الثامن عشر، وكان على عداء مع الجورجي كما سلف ذكره)، وقد ترتب على هذا الانقسام بالتبعية ازدياد حدة العداء بين يوسف والمتاولة وذلك بسبب ما كان معروفاً من لين عمه منصور معهم وتقربه منهم في فترة إمارته. وقد طلب عثمان باشا الجورجي من يوسف الشهابي الانضمام إلى جيشه قبل معركة سعسع (راجع المقال السابق) وقد تلكأ وقتها وتأخر في الخروج، وقاتل عثمان الجورجي مع ولاة حلب وأورفة وأبناءه ولاة طرابلس وصيدا بدونه، ولما عاد الجورجي إلى دمشق بعد انسحاب محمد بك أبو الدهب المفاجئ من دمشق، خرج يوسف على رأس جيشه وتقابل مع عثمان الجورجي على بوابات المدينة، وأوضح له أنه قد أتى لنصرته ومساعدته، وأن سبب تأخره كان عقبات لوجستية واجهته أثناء جمعه لجيشه وتجيهزه للزحف إلى أرض المعركة، ولذا فقد كان يوسف الشهابي خيار عثمان الجورجي الأول لحماية صيدا بعد هزيمته الساحقة في معركة الحولة.
استنجد ناصيف نصار بظاهر العمر وأخبره بأن يوسف الشهابي على رأس جيشه يقصد به مدينة النبطية، إحدى مراكز نفوذ المتاولة، حاول ظاهر مراسلة يوسف وإثناءه عما عزم عليه ولكن مراسلته قوبلت بالرفض، واستمر زحف جيش يوسف إلى النبطية، فأنجد ظاهر حليفه ناصيف نصار وقاد قواته إلى النبطية والتقى الجمعان في معركة كبيرة في 20 أكتوبر 1771م هُزم فيها يوسف هزيمة قاسية واضطر للانساحب مع من تبقى من جيشه، توغل ظاهر مع ناصيف نصار في مناطق نفوذ الشهابيين في إمارة الشوف محاولين اللحاق بفلول جيش يوسف الشهابي، ولم يمنعهم من القضاء على جيشه، سوى تدخل الأمير إسماعيل الشهابي أمير وادي التيم والذي انتصر لأقربائه وبني عمومته ووفر لهم الحماية من ملاحقة الزيادنة والمتاولة، ترك ظاهر يوسف الشهابي والتفت لما هو أهم، فالطريق الآن إلى صيدا أصبح خالياً.
في ذات الوقت الذي كان يوسف الشهابي يهرب فيه من أمام ظاهر العمر، كانت 17 قطعة حربية مصرية تتبع لحاكم مصر علي بك الكبير تدك ميناء صيدا بالمدفعية، قام علي بك بإرسال هذه السفن في وقت سابق لظاهر ووصلت إلى ميناء يافا محملة بالمؤن والذخائر وبعض السيولة النقدية في بداية شهر أكتوبر 1771م، كما أن علي بك قد أرسل قوة برية صغيرة تعدادها حوالي 800 جندي مصري تحت قيادة مصطفى بك جاويش. هرب درويش باشا الجورجي من صيدا بعد هذه التطورات وتوجه إلى دمشق فيما توجه أحمد آغا الدنكزلي (القائد العسكري التابع لظاهر) إلى صيدا ودخلها في 23 أكتوبر 1771م ونهبتها عساكره لمدة ثلاثة أيام قبل أن يحكم السيطرة عليها ويحكمها ملتزماً معيناً من قبل ظاهر العمر. وبذا تم لظاهر سيطرته التامة على طول الساحل السوري الجنوبي من صيدا حتى غزة. وفي ذات الشهر وصل من اسطنبول قرار عزل عثمان باشا الجورجي وأولاده.
وفي وقت ما بين ختام 1771م وبداية 1772م أرسل ظاهر العمر لابنه أحمد الظاهر أوامر بالتحرك إلى شرق الأردن للسيطرة على إربد وجبال عجلون، كان ظاهر قد هاجم منطقة عجلون من قبل في 1760م لتأديب قبائل العدوان التي اعتدت على بعض قوافله المارة بالمنطقة ولكنه لم يثبت فيها حكماً ولم يرسل إليها ملتزماً من طرفه، فلم يكن الوضع السياسي والميداني مؤاتياً للقيام بتلك الخطوة، وتذكر بعض المصادر أن أحمد الظاهر أتم سيطرته على جبال عجلون وإربد في شهر فبراير 1772م وأخذ يرسل السرايا لمهاجمة ونهب قرى سهل حوران الواقع بين السويداء وبحيرة طبريا، واضطر الوالي محمد باشا العظم إلى إرسال رسالة لأحمد الظاهر يعترف فيها بسلطته كملتزم على عجلون وإربد وقراها مقابل كف يده عن قرى حوران.
أما في مصر، فقد احتدم الصراع بين محمد بك أبو الدهب وسيده السابق علي بك الكبير إلى أقصى حد، ودون الخوض في تفاصيل، فقد انتهى الصراع بحمسه لصالح أبو الدهب، واضطرار علي بك الكبير إلى الهرب لدى ظاهر العمر في عكا ووصلها في 29 إبريل 1772م، برفقة حوالي 800 شخص من مماليكه وأفراد حاشيته، وقد نقل معه بعض أمواله وممتلكاته، وجاء إلى عكا برفقة عثمان الظاهر الذي كان مقيماً عنده منذ انسحاب محمد بك أبو الدهب من دمشق. أنجد ظاهر حليفه حاكم مصر السابق وأحسن ضيافته وانضم له مصطفى بك جاويش على رأس جنوده المصريين الثمانمئة وشارك مع ظاهر فيما بعد في جميع المعارك التي خاضها منذ دخل فلسطين وحتى قراره بالعودة إلى مصر في 1773م. كما أن محمد بك أبو الدهب في مصر عاد واستقبل والي الدولة خليل باشا (وإن بقي حاكماً اسمياً بدون سلطة فعلية) وأعاد إرسال مال الميري للباب العالي (المنقطع منذ بداية تولي علي بك الكبير للحكم في مصر) وتقرب من السلطان بإرسال الهدايا والمنح ورسائل الاعتذار عما بدر منه في السابق عندما كان تحت حكم سيده السابق علي بك، في ذات الوقت، أرسل لظاهر العمر يطلب منه إعادة المؤن والذخائر والسفن التي أرسلها علي بك إلي يافا في وقت سابق.
كان ظاهر قد منع والي دمشق محمد باشا العظم من الخروج للدورة في المناطق الجنوبية من إيالة دمشق، وأرسل له يحذره من الاقتراب من مناطق نفوذه وإلا فإنه يعرض نفسه للحرب والقتال، ويبدو أن تهديد ظاهر قد أتى بنتيجته إذ لم يخرج محمد باشا للدورة واضطر للاستدانة والاقتراض من تجار دمشق لتمويل قافلة الحج الشامي التي كان مكلفاً بقيادتها، كما أنه أرسل لمشايخ نابلس يأمرهم بدفهم مال الميري لملتزمهم الجديد مصطفى بك طوقان، والذي كان قد عينه في وقت سابق بعد عزله لابن النمر، مع احتفاظ مشايخ آل جرار بسيطرتهم على قلعة صانور وإلتزام القرى المحيطة بنابلس، أثار تعيين ابن طوقان على نابلس سخط بقية شيوخ النابلسية خاصة وأن محمد باشا أعدم وكيلهم في دمشق (ويُدعى ابن بطبوط) بتحريض من ابن طوقان، وهنا نشهد تغيراً (لأول مرة) في مواقف بعض الشيوخ في نابلس من ظاهر العمر ونفورهم من تصرف والي دمشق رغم تفانيهم في خدمة الدولة طوال عقود، وقد كان مصطفى بك طوقان قد أرسل أخاه أحمد بك طوقان إلى يافا (وهو ملتزمها السابق) من أجل إعادة السيطرة عليها مرة أخرى، مستلغلاً الوضع الميداني المتوتر في الإمارة الزيدانية على الجبهة الشمالية بسبب الشهابيين وكذلك هروب علي بك من مصر، فتعاون أحمد طوقان مع بعض العناصر المؤيدة للعثمانيين في يافا من أجل إعادة السيطرة عليها وطرد ملتزمها كريم الأيوب المُعيَّن من قِبَل ظاهر العمر.
في الشمال، أثارت هزيمة يوسف الشهابي في النبطية حفيظة عثمان باشا المصري وعزم على استرداد صيدا من ظاهر مرة أخرى، خاصة وأن استنجادات يوسف الشهابي لم تنقطع، فأرسل عثمان المصري جيشاً بقيادة الدالي خليل باشا والي كركوك ليعاون يوسف الشهابي في استرداد صيدا، فرض جيش الدالي خليل ويوسف الشهابي حصاره على مدينة صيدا التي تحصن فيها أحمد آغا الدنكزلي منتظراً نجدة ظاهر له، والذي أنجده فعلاً بخروجه بنفسه على رأس جيشه مستعيناً بحلفائه ناصيف نصار وعلي بك الكبير وتقابل الجمعان في سهل الغازية قرب صيدا في معركة كبيرة انتصر فيها حلف ظاهر العمر وطرد جيش الدولة والشهابيين وفك الحصار عن صيدا في 22 مايو 1772م، وقد شهدت هذه المعركة - لأول مرة - تعاوناً عسكرياً بين ظاهر العمر والأسطول الروسي في البحر المتوسط.
كانت اتصالات ظاهر بالاسطول الروسي قد تمت عبر قناة أرساها حليفه علي بك الكبير أثناء تواجده في مصر، فبعد نجاح الاسطول الروسي في هزيمة العثمانيين في معركة تشسمي عام 1770م كما سلف ذكره ببداية المقال، اتصل علي بك بالروس مهنئاً إياهم بانتصارهم وطلب منهم التعاون من أجل القضاء على شأفة العثمانيين في بلاد الشام نهائياً، وعرض على الروس خدماته، وبعد استشارة سريعة مع حكومة كاثرين الثانية أخذ الأسطول الروسي موافقة بالتعاون مع أي متمردين في الشام ومصر من أجل تضييق الخناق أكثر على الدولة العثمانية وتصعيب الأمور عليها في جبهتها الداخلية. حاولت بعض القطع البحرية الروسية الرسو في ميناء دمياط في أبريل 1772م ، ولكن قائدها علم بهروب علي بك الكبير وسيطرة محمد بك أبو الدهب المؤيد للعثمانيين على مصر، فقامت بتحويل خط سيرها إلى يافا ورست في مينائها بالفعل في نهاية شهر إبريل 1772م وقام قائدها بمباحثات مع ظاهر العمر بواسطة مندوبه القس سمعان الصباغ واتفق مع قائد الاسطول الروسي في المتوسط على تقديم كل المساعدة الممكنة لظاهر في فك الحصار عن صيدا، والتي تمثلت في قصفها لأحدى عشرة سفينة عثمانية كانت ترابض قرب ميناء صيدا وتمنع عنها الإمداد البحري، إضافة إلى قصفها الميناء وبعض معسكرات جيش الدالي خليل خارج الأسوار. وبعد انتهاء مهمتها في صيدا توجهت إلى بيروت وقامت بمحاصرة مينائها من البحر وقصف المدينة لتضييق الخناق على يوسف الشهابي وشغله ببيروت عن صيدا، واستمر حصار القوات البحرية الروسية لبيروت إلى أن استسلم الشهابيون نهائياً بعد انقطاع المؤن في 18 يونيو 1772م وقامت القوات الروسية بالانزال في المدينة ونهبت حوالي ثلاثمئة من بيوتها ولم تتوقف أعمال النهب والتخريب إلا عندما فاوض يوسف الشهابي قيادة الأسطول الروسي ودفع غرامةً تُقدر بحوالي 15 ألف قرش عثماني. وقد كانت تلك الحادثة سابقة في تاريخ بلاد الشام في العهد العثماني، فلم يحدث من قبل أن تعاون حاكم محلي متمرد "عسكرياً" مع جيش أجنبي (من بلاد الكفار) ضد جيوش السلطان الذي يُعد بمثابة خليفة للمسلمين. حتى الأمير فخر الدين الثاني المعني ورغم علاقاته الجيدة مع بعض الدول الأوروبية إلا أنه لم يتعاون مع أي منها عسكرياً ضد جيوش الدولة.
كان مصطفى طوقان قد أرسل أخاه أحمد إلى يافا لاستعادة السيطرة عليها، وبالفعل تم له ذلك في وقت غير معلوم بدقة ما بين نهاية مايو وبداية يونيو 1772م، تحصن أحمد بك طوقان داخل المدينة وأغلق أبوابها في وجه جيش ظاهر الذي سيظهر على عتباتها في أي لحظة، قام ظاهر بالفعل بالزحف نحو يافا وضرب حولها حصاراً في يوليو 1772م واستعان بالأسطول الروسي للمرة الثالثة في تضييق الخناق على المدينة من البحر، وظلت يافا تحت الحصار حتى فبراير 1773م حيث استسلمت حاميتها ووافقت على الخروج والعودة إلى نابلس. أرسل قوة لحصار مدينة القدس تعاونت مع حلفاءه من القبائل البدوية في فرض الحصار عليها والسيطرة على القرى والجبال المحيطة بها، ترك ظاهر أمر حصار المدينة المقدسة واكتفى بسيطرته على محيطها الاستراتيجي، وما أن تم له فتح يافا مرة أخرى بعد استسلام حاميتها حتى أمر بتعيين كريم الأيوب الزيداني - مرة أخرى - ملتزماً على يافا، بالإضافة إلى بيت جبرين والخليل وجبال القدس.
خلال هذه الفترة، كانت الدولة العثمانية قد أمرت بعزل محمد باشا العظم من منصبه كوالٍ لدمشق وعينت بدلاً منه مصطفى باشا بستانجي في سبتمبر 1772م مع تفويض بإنهاء حالة الصراع مع ظاهر العمر على الوجه الذي يراه مناسباً وتبعاً لما تقتضيه الظروف، وقد حاول مصطفى باشا التفاوض مع ظاهر العمر عبر القنصل الفرنسي في صيدا، وقد اتفق معه بالفعل على إنهاء العداء بينه وبين الباب العالي والعودة مرة أخرى في طاعة السلطان لأن السبب الرئيس في كل هذا الخلاف كان عثمان باشا الجورجي وسياسته المنفردة تجاهه، وقد اتفق ظاهر مع مصطفى باشا على أن ينال جميع ما سيطر عليه من أرض ضمن صيدا وخارجها "على سبيل المالكانة"(2) وسيلتزم هو بدفع مال الميري المكسور منذ 1770م والقيام بأعمال الجردة والدورة السنوية بشرط أن يتم تثبيت هذا الاتفاق بخط شريف (أي قرار رسمي) موقع من السلطان شخصياً، ورغم رفض أولاد ظاهر العمر لهذا الاتفاق الذي سيعيدهم ملتزمين لدى الدولة مرة أخرى بعد أن نالوا شيئاً من الاستقلال وبعد كل ما خاضوه من حروب ضدها، وسيزعزع مركزهم الاجتماعي لدى شيوخ الفلاحين، إلا أن ظاهر أصر على انفاذه، ورغم إصراره لم يُنفذ الاتفاق حيث أن آل العظم نجحوا مرة ثانية في إعادة واليهم السابق محمد باشا إلى دمشق بعد عزل الباب العالي لمصطفى باشا بستانجي في أكتوبر 1773م.
بعد استسلام يافا في فبراير 1773م وصلت لعلي بك الكبير في منفاه القسري في عكا عدد من الرسائل من بكوات وسناجق مصر يدعونه فيها للعودة مرة أخرى، وأبدوا نفورهم وتذمرهم من محمد بك أبو الدهب ودعمهم لعلي بك ووعدوه بدعمه عسكريا ضد أبو الدهب في حال قرر العودة إلى مصر مرة أخرى، وهو الذي يقرره علي بك بالفعل بالرغم من نصائح ظاهر بالتروي وعدم الانجرار إلى رسائل غير موثوقة المصدر، خاصة مع وجود احتمالية كون الأمر مجرد خدعة من أبو الدهب نفسه. أصر علي بك على الخروج واقترض من ظاهر بعض المال وعاد مع قواته بصحبه مصطفى بك جاويش وأمر ظاهر ابنه صليبي وابن عمه كريم الأيوب الزيداني ملتزم يافا بالخروج بصحبة علي بك وضمان سلامته، وصل علي بك إلى بلدة الصالحية (في محافظة الشرقية في مصر حالياً) وفُوجئ بمحمد أبو الدهب ينتظره على رأس جيش كبير عاجلهم بهجوم خاطف قُتل فيه أغلب الجنود المرافقين له وقتل صليبي الظاهر فيما أُسر علي بك نفسه جريحاً ونُقل إلى القاهرة واستطاع كريم الأيوب الهرب مع نفرٍ قليل من عساكره إلى غزة، وبعد سبعة أيام قضى علي بك نحبه (إما قتلا أو بتأثير إصابته) وبذا أحكم أبو الدهب سيطرته على مصر وحيَّد جميع أعداءه.
في صيف 1773م عاد الاحتكاك بين ظاهر العمر والشهابيين ليتصدر واجهة المشهد، وقد كان احتكاكاً إيجابياً هذه المرة حيث طلب الأمير يوسف الشهابي من ظاهر عونه ومساعدته. بعد هزيمة يوسف الشهابي على يد الأسطول الروسي في بيروت بعد معركة سهل الغازية، طلب يوسف من عثمان المصري أن يرسل له حماية لمدينة بيروت، فأرسل إليها أحمد بك الجزار على رأس 300 جندي من المرتزقة المغاربة وقام بإغلاق أبواب المدينة عليه ورفض استقبال أي من قوافل يوسف الشهابي التجارية، وعندما استفسر يوسف من عثمان المصري عن الأمر تلكأ ورفض إعطاءه إجابة حاسمة، ووعده بإخراج أحمد الجزار في أسرع وقت، وعندما وجد يوسف الشهابي أن الجزار عازم على عدم مغادرة بيروت اتصل بظاهر العمر عن طريق وساطة عمه الأمير منصور، واتفق كلا الطرفين على التحالف فيما بينهما وتلقى وعداً من ظاهر بمعاونته في استرداد بيروت، وجرَّد حملة عسكرية خرج على رأسها مع حليفه ناصيف نصار توجهت إلى بيروت لحصارها من البر فيما أعاد ظاهر اتصاله بالأسطول الروسي وطلب منه التوجه إلى بيروت لمحاصرتها بحراً، وبدأ الحصار في يونيو 1773م. علم عثمان باشا المصري بما قام به الشهابي وغدره بالدولة وتعاونه مع ظاهر العمر، فخرج بنفسه على رأس حملة عسكرية تستهدف مهاجمة يوسف الشهابي في مركز حكمه في دير القمر في سبتمبر 1773م، واستنجد يوسف بظاهر فأنجده بقوة عسكرية قادها ابنه علي الظاهر وناصيف نصار ووصلت إلى دير القمر قبل وصول عثمان باشا المصري، والذي فضَّل التراجع إلى دمشق عندما علم بالإمدادات التي وصلت للشهابي، ويذكر بعض المؤرخين أنه خاف من قوة جيش خصومه وترك معسكره في الليل تاركاً خيامه في مكانها ولم يكلف نفسه حتى بجمع مدافعه! استمر الحصار على بيروت براً وبحراً ويذكر محمد كرد علي في خطط الشام أن أهل بيروت أجهزوا على كل ما يمكن أن يُؤكل في المدينة حتى القطط والفئران والحمير! واضطر أحمد الجزار أخيراً إلى الاستسلام وترك المدينة في نوفمبر 1773م. وعادت بيروت وقتها لسيطرة الأمير يوسف الشهابي.
بالعودة إلى نابلس، فكما ذكر بعاليه، لاقى مشايخ جنين وأصحاب قلعة صانور (آل جرار) ومشايخ نابلس من آل النمر (الحكام السابقين لنابلس) سوء معاملة غير مبرر من محمد باشا العظم، إذ عين عليهم مصطفى بك طوقان ملتزماً وقتل مبعوثهم في دمشق، وقد أثار ذلك سخطهم وغضبهم، وبعد استرداد ظاهر العمر ليافا وضمه له في المرة الثانية (بعد إنهاء حصارها في فبراير 1773م) بدأ مشايخ آل جرار (الإخوة حمدان ويوسف) بالإضافة إلى ابن النمر بالتفكير جدياً بالاتصال بظاهر العمر، وبدأوا مفاوضاتهم به بالفعل على أن يساعدهم في التخلص من مصطفى طوقان وتخضع له بذلك نابلس وقراها وتصبح جزءاً من إمارته، وقد تم الاتفاق بين الطرفين في وقت غير محدد (بحسب المراجع المتوفرة)، وفر على إثره مصطفى طوقان وعائلته خارج نابلس قاصداً دير القمر حيث الأمير يوسف الشهابي، والذي أقام لديه لفترة وجيزة قبل أن يتوجه إلى دمشق حيث استقبله عثمان باشا المصري ومن ثم أرسله إلى اسطنبول. ويظهر من تسلسل الأحداث أن الاتفاقية بين ظاهر ومشايخ نابلس قد تمت خلال النصف الأول من العام 1773م ويُستدل على ذلك من تأكيد بعض المصادر لهرب مصطفى طوقان إلى يوسف الشهابي أولاً قبل إلتحاقه بعثمان باشا المصري في دمشق، حيث لم يتم التحالف بين ظاهر العمر ويوسف الشهابي (كما هو موضح بعاليه) قبل شهر يونيو 1773م وليس من المنطقي أن يستقبل الشهابي واحداً من أعداء ظاهر بعد إتمامه للتحالف معه. ولذا نستطيع القول أن ظاهر أصبح يسيطر (فعلياً أو اسمياً) على جميع سناجق إيالة صيدا والسناجق الجنوبية لإيالية دمشق بما يشمل إربد وجبل عجلون كما توضح الخريطة التالية.
خريطة توضح مناطق نفوذ ظاهر العمر حتى العام 1774م
المنطقة البيضاء: مناطق الحكم الفعلي لظاهر العمر
المنظقة الرمادية: مناطق الحكم الاسمي لظاهر العمر (سنجق نابلس)
المنطقة المخططة باللون الأحمر: جبل عامل ومنطقة نفوذ ناصيف نصار والمتاولة
دخل العام 1774م ولا زالت الدولة في حربها المستعرة ضد الامبراطورية الروسية، وعثمان باشا المصري لم يحقق لحد الآن أيّاً من الأهداف التي تم تكليفه بتحقيقها عندما تم تعيينه في أكتوبر 1771م، وبناء على أوامر سابقة من السلطان ارتأى عثمان باشا المصري أن يعود لمفاوضة ظاهر مرة أخرى، خاصة وأنه أبدى استعداده للمفاوضة أثناء الفترة القصيرة التي تولى فيها مصطفى باشا بستناجي ولاية دمشق. وقد اتفق كلا الطرفين على ذات الشروط تقريباً، وعاد ظاهر ليعد بدفع مكسور الميري كاملاً والالتزام بدفع إلتزام صيدا والتكفل بأعباء جردتها كما كرر رفضه للحصول على الباشوية وأصر على الحصول على صيدا على سبيل المالكانة، وفي هذه المرة (وربما لإدراكه لتحسس ناصيف نصار من الشروط السابقة التي كاد أن يصادق عليها مع مصطفى باشا بستانجي) فإنه لم يطلب "إيالة صيدا" بل طلب المدينة فقط، وذلك حتى يضمن لحلفائه من المتاولة والشهابيين سيطرتهم على مناطق نفوذهم التقليدية الواقعة داخل حدود الإيالة مع بقاءهم أنداداً مساويين له في تحالفهم لا أقل منه، وأصدر عثمان باشا المصري قراراً مكتوباً يضمن لظاهر جميع مطالباته، ولكن ظاهر كان ينتظر حتى يتم تثبيت هذا القرار بفرمان موقع من السلطان نفسه.
لسوء حظ ظاهر، فقد كانت الأوضاع داخل اسطنبول تتجه إلى تغير حاد بعد وفاة السلطان مصطفى الثالث، وتولي السلطان عبد الحميد الأول أمور الدولة خلفاً له في يناير 1774م، وللمرة الثانية، لم يستطع ظاهر تثبيت اتفاقيته مع الدولة بسبب عزل السلطان الجديد لعثمان باشا المصري عن قيادة جيوش الدولة في دمشق وتوليته إيالة حلب في يوليو 1774م، في إطار عدد من التنظيمات الجديدة التي أراد إدخالها في الإيالات الجنوبية، خاصة بعد دولته من الامبراطورية الروسية واضطراره لتوقيع اتفاقية كيتشك كينارجه في 21 يوليو 1774م، وهو الأمر الذي تبعه إيقاف العمليات العسكرية بين الدولتين بما يشمل سحب الاسطول الروسي من الشواطئ السورية وتوقف الدعم العسكري الروسي لظاهر العمر، وكذلك إتاحة الفرصة أمام الأسطول العثماني للتحرك بحرية في البحر المتوسط مجدداً. اتجه السلطان العثماني الجديد نحو حسم الأوضاع داخل الشام ومصر والقضاء على المتمردين وإعادة الاستقرار للمنطقة ليعود تدفق أموال الميري لخزينة الباب العالي مجدداً خاصة وأن الأوضاع كانت تتجه نحو مزيد من التوتر على الجبهة الفارسية والتي اندلعت فيها الحرب بين العثمانيين وكريم خان زند الشيرازي شاه الدولة الزندية عام 1775م. بأي حال، فقد أرسل السلطان عبد الحميد الأول مكتوباً لظاهر العمر في يناير 1775م يُعلمه بعفوه عن جميع جرائمه بسبب كبره في السن وشيخوخته ويطلب منه الانتظام مرة أخرى في دفع أموال الميري، لم يرد في رسالة السلطان أي ذكر للأوامر التي حصل بموجبها ظاهر على صيدا على وجه المالكانة بموجب اتفاقه مع عثمان باشا المصري، وكان السلطان قد أرسل - في ذات الوقت - رسالة أخرى لمحمد بك أبو الدهب في مصر يعده فيها بتوليته إيالة دمشق في حال استطاع القضاء على إمارة ظاهر العمر والتخلص منه.
لاقت أوامر السلطان صداها لدى أبو الدهب، فهي الفرصة التي كان ينتظرها للانقضاض على ظاهر والقضاء عليه كمدخل لسيطرته على الإيالات الشامية عموماً، وقد كان السلطان مصطفى الثالث قد منح أبو الدهب التزام سنجق غزة والرملة منذ العام 1773م وقد راسل أبو الدهب ظاهر وطلب منه تسليمها لرجاله، رفض ظاهر وقتها الانصياع لرغبة أبو الدهب وأرسل لابن عمه كريم الأيوب الزيداني في يافا يحذره من هجوم وشيك لأبي الدهب في أي وقت ويطلب منه زيادة تحصينات يافا، انطلق محمد بك أبو الدهب على رأس جيش جرار، كان أضخم يواجهه ظاهر العمر طوال فترة حكمه على الإطلاق، وتجاوز تعداد جنوده وضباطه أكثر من ستين ألف، بالإضافة إلى عدد من القطع البحرية التي انطلقت من عدة موانئ على النيل قاصدة يافا تحمل تعزيزات عسكرية. وكانت انطلاقة أبو الدهب من مصر في بداية مارس 1775م.
اجتاح أبو الدهب غزة والرملة بسهولة بسبب ضعف تحصيناتهما وأحكم سيطرته عليهما في الأول من إبريل 1775م، ومن ثم توجه إلى يافا وحاصرها وجرد حملة عسكرية هاجمت قلعة صانور بهدف إخضاع آل جرار لحكمه، صمد آل جرار في قلعتهم ورفضوا الاستسلام، ولكن تركيز أبي الدهب الأساسي كان على يافا التي يحتاج إلى مينائها من أجل إنزال المؤن والامدادات العسكرية، صمدت يافا مدة أربعين يومٍ في انتظار لأي مساعدة من ظاهر العمر، وذكر ميخائيل الصباغ أن ظاهر أرسل فرقة عسكرية بقيادة ابنه علي الظاهر لنجدة كريم الأيوب والتي توقفت في منتصف الطريق وعادت أدراجها لسبب غير مفهوم، ويُعتقد أن محمد بك أبو الدهب استطاع ترتيب الأوضاع مسبقاً مع علي الظاهر قبل بدء حملته على فلسطين مع وعد بتوليته على صفد وذلك لشق الصف داخل البيت الزيداني وضمان تشتته أثناء بدء الحملة، في النهاية استطاع أبو الدهب نقب أسوار يافا واجتياحها كما يذكر محمد كرد علي، على أي مؤرخين آخرين رأوا أن أبو الدهب استطاع رشوه فرقة المرتزقة المغاربة المسؤولة عن بوابات المدينة والذين يأسوا من قدوم النجدة من عكا. دخل أبو الدهب إلى يافا وقتل ملتزمها كريم الأيوب الزيداني ويتفق المؤرخون على أنه ارتكب فيها مجزرة بشعة طالت عدداً كبيراً من سكانها وابتدأت أول ما ابتدأت بحاميتها المغاربية والذي قتلهم جزاء لخيانتهم لسيدهم! أسر أبو الدهب الكثير من سكان يافا وأرسلهم بالسفن إلى مصر ليتخذهم عبيداً وسبايا، وقد قصد من بشاعة تصرفاته في يافا إرهاب بقية سكان المدن والحاميات الزيدانية فيها، وقد نجحت خطته على ما يبدو إذ بدت طريقه من يافا إلى عكا سالكة بدون أي معوقات.
اتصل ظاهر العمر بناصيف نصار، من ثم بيوسف الشهابي، وحاول إقناع كل منهما بالانضمام إليه في حرب أبو الدهب ولم يتلقَ أي نتيجة إيجابية على الإطلاق، أرسل كذلك يطلب النجدة من أحمد آغا الدنكزلي في صيدا ولم يجد منه أذناً صاغية ،عدا عن إدراكه لتراخي أبناءه عثمان وعلي عن نصرته وربما عزمهم على خيانته، ترك ظاهر العمر عكا والتجأ إلى قلعة هونين في بلاد المتاولة، ولم يجد من أهلها ترحيباً لاستقباله فاضطر للهرب والتجأ إلى مضارب قبائل عنزة الذين وافقوا على تخبأته حتى هدوء الأوضاع، دخل علي الظاهر إلى عكا بعد فرار أبيه، فجاءته رسالة من محمد بك أبو الدهب تعطيه الأمان مقابل رأس أبيه، رفض علي أوامر أبو الدهب وهرب إلى صفد لكن ليس لوقت طويل، فقد وصل أبو الدهب إلى عكا وعسكر خارج أسوارها وأرسل من يهدم قلاع صفد ودير حنا كما هدم دير مار إلياس في جبل الكرمل وقتل رهبانه، توافد الشيوخ من بلاد المتاولة والشهابيين على عكا حاملين معهم الهدايا يطلبون الأمان من أبو الدهب وجيشه الجرار، وأرسل أحمد آغا الدنكزلي رسالة يعلن فيها طاعته لأبي الدهب ورجاءه لأمانه، فثبته أبو الذهب ملتزماً على صيدا، أرسل محمد بك أبو الدهب معاونه إسماعيل بك، والذي كان واحداً من مماليك علي بك الكبير، إلى اسطنبول يعلن للباب العالي انتصارات أبو الدهب في الشام ويطلب منه توليته عليها، وأجاب الباب العالي طلب أبو الدهب وبر بوعده له وقبل أن يعود إسماعيل بك إلى عكا، سقط محمد بك أبو الدهب صريعاً للحمى وتوفي بعد مرضه بثلاثة أيام، في 9 يونيو 1775م. حمل مراد بك، أحد قادة أبو الدهب، جثمان سيده وانطلق مع جموع عساكره وجنوده عائدين إلى مصر تاركين الإمارة الزيدانية في في أضعف حالاتها على الإطلاق، وجدير بالذكر أن محمد الخليل المرادي، وهو أحد مؤرخي القرن الثامن عشر، انفرد بذكر أن محمد أبو الدهب قد مات مسموماً بـ "دسيسة من ظاهر العمر".
لم ينجح أبو الدهب في مسعاه ولكنه مهد الطريق للدولة العثمانية للقضاء على ظاهر العمر الذي عاد إلى عكا مكسور القلب على هزيمته الساحقة على يد أبي الدهب، ودخلها هو وأولاده مدينة مخرَّبة خالية من الحياة، لم يترك الباب العالي لظاهر العمر الكثير من الوقت بعد عودته إلى عكا، فقد عاجله بحملة عسكرية برية وبحرية، تحت قيادة محمد باشا آل العظم والي دمشق يصحبه إبراهيم باشا ملتزم القدس وأحمد الجزار (الذي تمت ترقيته ومُنح رتبة الباشوية) من البر، وتحت قيادة القبودان (القبطان) حسن باشا الجزائري قائد الاسطول العثماني (منذ 1771م) من البحر. ووصل الأسطول العثماني إلى صيدا في يوليو 1775م ولم يجد عناء في السيطرة عليها، وسلمها للوالي العثماني الجديد محمد باشا مليك، ثم توجه بسفنه إلى حيفا وسلمت حامية المغاربة فيها ميناءها وقلعتها بدون قتال ثم توجه بسفنه أخيراً إلى عكا. عند هذه النقطة تبدأ روايات المؤرخين بالتضارب، يتفق الجميع على أن ظاهر العمر قد تعرض للخيانة من قِبَل حاشيته وأن عكا قد سُلِّمت لحسن باشا الجزائري بغير رغبته وإرادته، ولكن يبقى الخلاف شديداً في التفاصيل، فيقول أحفاد إبراهيم الصباغ، عبود وميخائيل، أن الخيانة قد تمت من أحمد آغا الدنكزلي الذي أمر مغاربته بعدم الرد على نيران مدفعية حسن باشا بسبب اتفاق مسبق بينهما تم وقتما خرج الدنكزلي لمفاوضة حسن باشا ومعرفة شروطه لعدم مهاجمة المدينة، حيث كان ظاهر قد قرر صد هجوم حسن باشا، فيما يذكر مؤرخون آخرون، ومنهم محمد كرد علي ونعم الله نوفل وحيدر الشهابي أن ظاهر وافق على دفع جزء من أموال الميري المكسورة للسلطان على سبيل الترضية ولإيقاف هجوم حسن باشا، ولكن إبراهيم الصباغ وزير ظاهر وأمين خزانته رفض وقال أن ليس لديه أي أموال "وليس لدينا إلا السيف والبارود" رغم أن المبلغ المطلوب لم يكن يتجاوز أكثر من ألف كيس في أقصى حد (الكيس = 500 قرش عثماني)، وعندما دخل حسن باشا عكا ونقَّب عن خزانة إبراهيم الصباغ وأحصى ما فيها وجد فيها أكثر من 83 ألف كيس على الأقل، عدا عن سجلات أملاكه وعقاراته وأملاك وعقارات ظاهر العمر في عكا وحيفا وصيدا، وبرر كرد علي إنكار الصباغ لأمواله بسبب بخله الشديد، وكانت تلك خصلة معروفة فيه.
بأي حال، تتفق معظم المصادر على أن المفاوضات التي جرت بين ظاهر وحسن باشا قد فشلت، وأن حسن باشا ظهر بقطع أسطوله أمام عكا في 19 أغسطس 1775م واستمر بقصف عكا لمدة يومين متتالين فيما كان أبناءه يتهيأون لقتال محمد باشا العظم خارج عكا، ولم يستطع ظاهر حمل مغاربته وقائدهم أحمد آغا الدنكزلي على الرد على مدفعية الأسطول، فاضطر للهرب من عكا، وأصيب بعيار ناري في صدره أثناء خروجه خارج أسوار المدينة أطلقه جندي مغربي، تكالب المغاربة على جثة ظاهر وقطعوا رأسها وحملوها إلى القبطان حسن باشا طالبين منه الأمان.
هرب أبناء ظاهر العمر، وتحصنوا في قلاعهم في صفد وشفا عمرو وطبرية، وحاولوا الإبقاء على نفوذهم داخل المناطق الداخلية لإمارة والدهم قدر الإمكان، واستغلوا ضعف إمكانات أحمد باشا الجزار والذي لم يقدر على حربهم في البداية لهذا السبب، ولكنه انتظر الفرصة المناسبة عندما علم بوجود خلاف بين علي الظاهر وبقية إخوته، فقد كان الوحيد من بينهم الرافض لإعلان ولاءه للدولة العثمانية، فهاجمه الجزار في دير حنا بعد وصول إمدادت عسكرية من القبودان حسن باشا واستطاع السيطرة قلعته بعد هدم جزء من سورها، هرب علي الظاهر عند أخيه عثمان في شفا عمرو. أرسل أحمد باشا الجزار لأبناء ظاهر جميعهم رسائل يعرض عليهم القدوم إليه في عكا وإعلان ولائهم له باعتباره واليهم الجديد وللسلطان في اسطنبول، وبعد مشاورات في العائلة أجمعوا (فيما عدا علي) على تنفيذ رغبة الجزار، والذي قام بإلقاء القبض عليهم جميعاً وتسليمهم لحسن باشا والذي حملهم أسرى للباب العالي.
وبذا، أُسدل الستار نهائياً على آخر فصل من فصول حكاية الإمارة الزيدانية وتجربتها الفريدة واندثرت سيرتها وخبى نجمها بعد سبعين عامٍ من الرفعة والقوة والمنعة.
خريطة لإيالة صيدا ومناطق نفوذ ظاهر العمر في توسعه الأول 1730 - 1750م
التقسيم الإداري لإيالة صيدا في بداية القرن الثامن عشر
السناجق الجنوبية لإيالة دمشق
قلعة طبرية المطلة على البحيرة العاصمة الأولى لإمارة ظاهر العمر
صورة حديثة لجامع ظاهر العمر الكبير في مدينة طبرية والذي تأسس في 1743م
سور عكا البحري
مدفع عثماني فوق سور عكا
قلعة شفا عمرو
قلعة دير حنا
آثار قلعة جدين
آثار قلعة صانور، يُذكر أن القلعة دُمرت على يد الأمير بشير (الثالث) الشهابي في 1831م أثناء حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام
قلعة صيدا البحرية
------------------------------
(1) كان الانتماء الطائفي للأمراء الشهابيين مثار خلاف للعديد من المؤرخين، فبعضهم اعتبرهم سنة، والبعض الآخر اعتبرهم دروزاً، وقد كان سبب هذا الخلاف هو ما جمعهم من رابطة نسب مع أمراء الأسرة المعنية المعروفة بانتماءها للمذهب الدرزي، لكن المعروف أن هذه الاختلافات لم تؤثر على لُحمة العائلة، وكل ما شهدته من خلافات داخلية كانت ذات أساس سياسي، وفي نهاية الأمر، تنصرت العائلة واعتنقت المذهب الماروني بعد تزايد تعداد المارون في مناطق نفوذهم وتشكيلهم أغلبية ديمغرافية.
(2) رفض ظاهر تولي منصب "الوالي" في صيدا أو الحصول على مرتبة الباشوية، فهو أدرى بتاريخ الدولة العثمانية الأسود مع ولاتها وما فعلوه مع أسعد باشا العظم بعد أكثر من 14 عاما من الخدمة ليس عنه ببعيد، كما أنه خاف من أن يعتبر ناصيف نصار والمتاولة تعيين ظاهر والياً على صيدا خيانة لهم.